آخر الأخبار

ليست جميلة!!

الأحد, 05 فبراير, 2023

كنت في التاسعة من عمري، عرفت ذلك  عندما سألتْ جارتُنا خالتي( زوجة أبي) عن عمري،  فقالت لها: هي في التاسعة وستدخل في العاشرة قريبًا، كانت الجارة تنظر إليّ وتبتسم، كانت  نظراتها غريبةً، إنها تتفحصني من رأسي إلى أخمص قدمي، شعرت بشيء ما في داخلي يؤلمني من تلك النظرات، شعرت بالخجل في الوقت ذاته؛  لأني حافية القدمين والأتربةُ تملأ رجليّ وملابسي، ضممت رجليَّ لعلها لا ترهما لكنها سرعان ما أوصلت نظراتها إليهما.

  تركتهما، وذهبت لألعب في الشارع مع أطفال حارتنا، مضى القليل من الوقت وأقبلت خالتي تناديني، تقول لي اذهبي لرعي الأغنام والاحتطاب... عيب عليك اللعب هنا!.

لماذا أصبح اللعب عيبًا  علي بهذا اليوم بالتحديد؟ ولماذا جاء هذا القرار،  أن أذهب لرعي الأغنام بعد العصر وقد كان دوري في رعيها في وقت الصباح،  عندما يذهب أخي للمدرسة...  ولكن هذا الوقت يرعى فيه أخي يا خالة، هكذا أخبرتها فأجابت: أنت اذهبي لرعيها واتركي اللعب هنا، سأخبرك لماذا، عندما نكون في البيت.

تذمرت قليلًا لكنه لا بد علي أن أذهب، وفي الجبل كنت أحدث نفسي عن تلك الجارة!، ما الذي قالته لخالتي حتى تحدثت معي بكل هذه الصرامة، صرامة مكسوة بالابتسامة وقليل من اللطف، كيف لها أن تجمع بين ذلك؟ لقد كانت تسدي علي أوامرها بكل توبيخ لماذا تغيرت لهجتها يا ترى؟ ربما أن الجارة هي من جعلتها تلين لي أكثير.

شكرت الجارة بيني وبين نفسي ثم واصلت ملاحقة الأغنام والبحث عن الأعواد اليابسة لأجمعها حطبًا فأنا متعادة ألا أعود إلى البيت إلا وعلى رأسي حزمة كبيرة من الحطب.

بدأت حرارة الشمس تقل وهي تحلق على رأس الجبال معلنة عن وقت الغروب،  وكان علي أن أعود حتى أساعد خالتي بتحضير العشاء، لكني تفاجأت أني نسيت الحبل الذي أربط به الحطب، نسيته في البيت، لقد أربكتني نظراتُ الجارة  ولطف خالتي، نزعتُ حجابي  واتخذته رباطًا للحطب الذي جمعته.

عدتُ إلى البيت وأنا أهش على الأغنام بعصاتي الصغيرة ولا أتمكن من رؤية من حولي بسبب الحزمة التي على رأسي، كادت أن تغطي وجهي تمامًا؛  فأنا لا أجيد ربط حزم الحطب كما تفعل بقية نساء قريتي، رميتُ تلك الحزمة عن رأسي وتفاجأت أن خالتي وجارتها ما تزالان في الشارع.

قالت لي خالتي: غطي رأسك،  أين حجابُك؟ فأجبتها أني نسيت الحبل في البيت فربطتُ الحطب بحجابي، وضعتْ يدها على فمها وكأنها شعرت بالخجل عندما مرَّ أمامنا ابن جارتنا ورآني بهذا المنظر، ثم قالت لي ادخلي الآن واغتسلي والبسي حجابك الآخر واذهبي لجلب الماء، قلت لها:  اقترب المغرب الآن ياخالة فأجابت أنْ ما زال في الوقت متسعٌ، أخذت الحطب إلى سطح بيتنا، وأخذت حجابي منه وارتديته، ثم أخذتُ قارورة الماء الفارغة وخرجت مهرولةً،  لكن خالتي استوقفتني مرة أخرى وطلبت مني أن أغير ملابسي كاملةً وألبس ملابس نظيفة، قلت في نفسي: اليوم هو يوم العجائب وإلا منذ متى وأنا أغير ملابسي في الأسبوع مرتين، لقد كان فرضًا علي أن أغير ملابسي وأغتسل فقط كل جمعة، لكني دخلت كما أمرت وغيرت ملابسي وغادرت البيت مرة أخرى لجلب الماء.

شيءٌ ما في داخلي يقلقني، أسئلة كثيرة تدور في رأسي  ما الذي حمل خالتي على تغيير أسلوبها تجاهي؟ عدت إلى البيت وخالتي في المطبخ تنتظرني، دخلت لمساعدتها لكنها كانت تريني كيف تعمل، تقولي لي تعلمي الطبخ معي، لقد أصبحت كبيرة وعليك تتعلمي الطبخ، أنصتُ لها،  وماذا سأفعل إزاء هذا اللطف الكبير إلا أن أصمت وأتعلم كل ما تقوله لي.

وبعد العشاء دار حديثٌ بين خالتي وأبي، كنت أسمع بعضه وأنا بالقرب منهما أخيط بنطالي بإبرة اليد، سمعتها تقول:  إن ابن جارتنا الذي انفصلت عنه زوجته يرغب بالزواج مننا، قال أبي:  ممن؟ فقالت مننا والتفتت إليّ، عندها صاح أبي: جميلة؟!! أجبته أنا  ماذا  تريد يا أبي؟ فقال لا شيء فقط أتحدث مع خالتك عنك، كان صوته  مليئًا بالتعجب والذهول، لكنه سرعان ما لان الحديث  بينهما، سمعته يقول لها:  بعدما تكمل العاشرة لنا حديث، فعلًا إنه رجلٌ ذو مال كثير  والتفريط به خسارة كبيرة... لنا خبرٌ في رمضان المقبل بإذن الله.

لا أدري لماذا هذا الشعور الذي يتوسط صدري، أحس أنه  يكاد يقتلني،  ماذا بعد أن أكمل العاشرة؟ وما الذي سيحدث في شهر رمضان؟
تمر الأيام مسرعة والزيارات المتبادلة بين أهل بيتنا وبين جيراننا تزداد، ومع مرور الوقت تعلمت كيف  أحضر الشاي والأرز وكيف أطبخ الفاصوليا وأمورًا أخرى كثيرة، وقد كنت سعيدةً أنني ما عدت أذهب للرعي والاحتطاب كثيرًا.

اشترى لي أبي  عبايةً سوداء ظهرتُ بها جميلة، هكذا قال لي أبي عندما ارتديت تلك العباية أمامه، قال لي: أنت جميلةٌ كاسمك تمامًا، سعدتُ كثيرًا بهذا القول؛ لأنني لأول مرة بعد وفاة والدتي ألبس شيئا جديدًا في وقت غير العيد، وأسمع كلامًا لطيفًا خاليًا من الزجر والتوبيخ، شعرت أن الدنيا لا تسعني، كيف لا وأبي اليوم يدللني كما كان قبل وفاة والدتي، ترى لو طلبت منه أن أعود للمدرسة هل سيوافق؟ أم سيوبخني كما فعل مرارًا وتكرارًا عندما كنت أسترقُ نفسي وأذهب للمدرسة دون رضاه.

أوشك شهر رمضان على الانقضاء وفي تلك الليلة دخل بيتنا ناس كثير... ألبستني خالتي ملابس جديدة، وضعت على وجهي الشاحب بعض المساحيق، وجاءت نساء الحارة جميعهن، أردتُ أن أذهب لإحضار الشاي لكن خالتي منعتني من ذلك، ذهبت هي وجارتنا الأخرى إلى المطبخ لإعداد الشاي والعصائر، وبعد قرابة ساعة من الزمن أخبرت خالتي نساء الحارة أن يغطين  وجوههن لأن أحمد سدخل، أحمد هو ذلك  الرجل الذي انفصلت عنه زوجته قبل عدة أشهر، الرجل الذي قالت خالتي: إنه يريد الزواج منا، أردت تغطية وجهي كما فعلت بقية النساء  اللاتي بجواري، لكني منعت من ذلك وسط ضحك هستيري انتاب بعض الشابات بذلك الوقت، بعد قليل دخل ذلك الرجل،  اقترب منى، كدت أن أسقط، لشدة الخوف الذي يتوسط صدري، وضع  ذلك الرجل في يدي  اليسرى خاتمين من الذهب، ثم طبع على رأسي قبلةً وغادر، حينها  أصدرت أمه وأخواته أصوات الزغاريد، قالت أم أحمد:  الحمد لله الذي رزق ابني فتاة جميلة أجمل منها وأصغر سنًا، كانت تقصد بذلك الزوجة الأولى لهذا الرجل.

كان أبي بعد ذلك اليوم يشيحُ  وجهه عني كلما مر جواري،  بدأوا  بوضع مكبرات الصوت في بيت أحمد، بدأت الأغاني تصدح من هناك،  جاء يوم  العيد ولم يتبقَ  ليوم الزفاف إلا يوم واحد، سألت أبي حينها من الذي أسماني جملية يا أبي؟ قال لي:-  والدموعُ في عينيه كموج البحر الهائج- أمك من أسمتك بهذا الاسم، عندما أتيت إلى هذه الدنيا كنت كفلقة القمر، عيناك كبيرتان ووجهك مدور، بياضك يغار منه القمر، استرسل أبي في الوصف لكني قاطعته بغضب: كنت جميلةً فعلًا  ولكن في الوقت الذي كانت فيه أمي على قيد الحياة تدللني، أما الآن فلست جميلة، إنك تسوقني إلى الجحيم ولا تدري.
 

*المقال خاص بالمهرية نت * 

المزيد من إفتخار عبده