آخر الأخبار
الشاعر محمد حسين هيثم: "ناضلت لتخليص الشعر اليمني من الشوائب وكتابة القصيدة اليمنية الحديثة"
الشاعر اليمني محمد حسين هيثم
الاربعاء, 09 سبتمبر, 2020 - 01:58 صباحاً
كان مسترخيًا على ظهر زورق يشقُ المياه في تلك الساعة. لم نكن نعرف أنه كان مشغولًا بالبحث عنا، بعدما ظن أن التيه قد ابتلعنا ونحن في الطريق البحري الموصول ما بين الأرض والسموات.
ذلك ما حدث تمامًا. ثمة صعوبة اعترضتنا بالوصول إليه في الزقاقات المائية المتداخلة ببعضها. لكن الوضع لم يدم طويلًا. إذ وجدنا طائر يُسمى بـ (البتروس) برأسه الشبيه برأس الغزال، وهو يلتقطنا ويحلّقُ نحو بحيرة (النصوص الذبيحة)، لينزل بنا هناك حيث كان الشاعر اليمني محمد حسين هيثم في انتظارنا.
تصافحنا، وجلسنا إلى الطاولة العامرة بالفؤوس والكتب والأقنعة. وما إن انتهينا من مراسم المجاملات البروتوكولية بطابعها الحزين، حتى أخرج الشاعر من جيبه ثعبانًا مخططًا بالأحمر والأسود قائلًا: سأدع هذا يبتعد عنا، عسى تنتهي حفلة الموت. والآن يمكننا فتح باب الحوار على مصراعيه.
آنذاك قلنا له:
(*) ما السؤال الذي كان يتقدم وجهكَ؟
ربما هناك أكثر من سؤال واحد. إلا أن الأهم كما أعتقد كان ذلك الذي يقول: ما الذي يثقل زجاج النظارة التي تتقدمني بين الحشود البشرية على تلك الأرض.
(*) وهل لنظارتك أفكار؟
حتمًا. فالزجاج لا يعكس حركة البرق وتنهدات المصابيح التعبة على أعمدة الكهرباء الممتدة على طول الشوارع، بل نظارتي تعكس ما في نفسي من بشر وحيوانات وجنّ.
(*) ما نسبة القلق الذي كان يفترس النفس الخاصة بك؟
ذلك ما لم أستطع قياسه طوال حياتي.
(*) هل كان قلقك ذئبًا يعيش في أعالي جسمك على سبيل المثال؟
أجل. وقد تأكدت من ذلك.
(*) كيف؟
لقد عرفت ذلك بشكل دائم، فما إن أرمي برأسي على الوسادة في الليل، حتى أسمع عواء ذئبي الربيب متصاعدًا على السلالم الموسيقية لروحي، مما يستدعيني إلى مغادرة السرير لصيد القمر، وتقديمه له على طبق من الذهب، ليأكله ويذهب.
(*) أهي رشوة الشاعر. أم كنت تفعل ذلك مقابل شيء آخر؟
مقايضة. مقابل ساعات من النوم فقط.
(*) هل كنت تتفاوض مع الذئاب على ساعات النوم؟
بالطبع. وطالما حرضتِ الذئابُ الجنَّ على تخريب أعماقي، وجعلها مناطق مأهولة بالأشباح.
(*) وكنت تؤمن بالسحر يا محمد؟!
نعم. السحر الشعري الذي يفتح أمام النفس المجال الفيزيقي للكتابة.
(*) متى يصبح الشاعرُ مشعوذًا في رأيك؟
حينما يُصاب بالشغف.
(*) وما نفع الشغف في رأيك؟
هو الموقد الذي تشتعلُ فيه اللغةُ لتحبل بالقصائد المشتهاة.
(*) وأين مقام الشهوات من هذا الذي تقوله على مسامعنا؟
كل مفردة تخرجُ من القاموس هي شهوة تحمل بذورها وتمضي في التيه، بعد أن تقطع حبل
"ما إن أرمي برأسي على الوسادة في الليل، حتى أسمع عواء ذئبي الربيب متصاعدًا على السلالم الموسيقية لروحي، مما يستدعيني إلى مغادرة السرير لصيد القمر، وتقديمه له على طبق من الذهب، ليأكله ويذهب"
السّرة مع الرحم الأول.
(*) القطيعة مع الأسلاف واجبة، أم القطيعة ضرورية؟
لم أفكر بالقطع، ولا بالقطيعة. كنت مع التوازن لولا خيانة السلفي لنفسه، وتمسكه بالبقاء في الماضي العتيد.
(*) ربما هو يدافع عن قيم الأسلاف، ممن جُبلت قصائدهم من تراب الماضي. ألا يحق لهم ذلك على سبيل المثال؟
لا يمكن اعتبار الشاعر الكلاسيكي السلفي اليمني عدوًا للشعر. إنما هو متشبث بالبقاء طيرًا منزوع الأجنحة، ولا هوى لديه للطيران أبعد من تلك الأعمدة والأقفاص الوزنية التي تمتلك تاريخًا من الفراهيديات المموسقة على التناغم الصحراوي.
(*) ألا تظن أن انقسامًا حصل في الشعر ما بين البداوة، وأهل المدينة؟
أعتقد بأن الشعر يرفض تلك المقاربة، بسبب الروح التي تسكن في جسد اللغة، حيث يتعلق الأمر بالذات الشعرية وحدها، بعيدًا عن الجغرافيات.
(*) جغرافيات الشعر تقصدُ.
لا وجود لوحدة شعرية بتراب جغرافي واحد.
(*) هل بسبب وجود المعادن المختلفة، كما تعتقد؟
أجل. فكل معدن له فلزاته الخاصة التي تهدر وتبكي وتستعرُ وتحبُ وتجنُ وتقتفي آثار الشياطين داخل خزائن اللغة.
(*) قيل إنك شاعر سبعيني. ما ردّك؟
أجل كنت هناك، وسرعان ما فضل الموت إخراجي من السجل التراتبي للزمن، ليتركني حرًا بتصرفاتي التي تليق بمواقيت التأليف بنيران الذات.
(*) وهل كنت تواقًا للعمل كمشعل للحرائق؟
نعم. فتربية النيران أفضل من تربية الخنازير، أو الدجاج، في شوارع الشعر، أو حظائر اللغة، أو في صناديق الذاكرة.
(*) وبعد رحيلك عن الأرض، متى سيكون لطفولتك صندوق بريد؟
لا حاجة لصناديق البريد. الطفولة رسائل تذهبُ في كل الاتجاهات، ولا تحب حلاقة شَعرها
"لا يمكن اعتبار الشاعر الكلاسيكي السلفي اليمني عدوًا للشعر. إنما هو متشبث بالبقاء طيرًا منزوع الأجنحة، ولا هوى لديه للطيران أبعد من تلك الأعمدة والأقفاص الوزنية"
المتطاير تحت أشعة الشمس.
(*) ألا ترى بأن الشيخوخة قد سطت على بنوك الطفولة في اليمن اليوم، فأصبحت عصفًا مأكولًا تحت آلات الحرب المجنونة القاتلة؟
أجل. وإلى درجة أن أطفال اليمن لم يعد يصلحون حتى كتماثيل في المتاحف.
(*) أنت كشاعر. كيف تنظر إلى الحرب؟
ليس أقل من نظرة العقل إلى جرائم النازيين الجدد.
(*) وإذا ما رغب الشعر بالذهاب إلى الحرب، فما الجهة التي يختارها في رأيك؟
جهنم ليس إلا.
(*) هل ألقيتَ بنظرة إلى جهنم السماء؟
لم أر نارًا، لأنجذب لحرارتها كامرأة. كل ما في العالم الآخر هنا هو زمنٌ يحملهُ شعراءُ الحداثة، وهم يمارسون الطواف حول ما يكتبون.
(*) هل هذه نظرية سبق أن طرحتها في كتابك الشعري الأول (اكتمالات سين)، الذي افتتحت به حياتك الشعرية، كما تعتقد؟
نعم. أنا طورّت نفسي على أمراض كثيرة حملتها مجموعاتي «اكتمالات سين»، و«الحصان»، و«مائدة مثقلة بالنسيان»، و«رجل ذو قبعة ووحيد»، و«رجل كثير»،
و«استدراكات الحفلة»، و«على بعد ذئب».
(*) أتظن، كشاعر، أن في اللغة أمراضًا تنمو وتتشبع بالخطر، وتنتقلُ من كلمة إلى أخرى في بناء الجُمل؟
نعم. فالجمل الشعرية لا تنضج إلا في المستشفيات التابعة لمخيلة كل شاعر.
(*) كثيرًا ما يُمتدحُ الجنون الشعري. ولكن لمَ، وبأية صفة، إذا كان الجنون مرضًا لا يليق بالأسوياء من البشر؟
ذلك صحيح إلى حد ما. فالشعراءُ مختلفون، وما يميز أحدهم عن الآخر هو منسوب الجنون في نصه الشعري القائم على شروط قبول المختلف والنادر وغير المنتهك في الصورة والتصوير الشعوري.
(*) كيف قدمت نصوصك إلى القارئ على تلك الأرض؟
كنت أنتزعُ نصوصي من داخلي، انتزاع الرغيف من التنور.
(*) هذا التوصيف يقودنا إلى سؤال في السياق نفسه، ألا وهو العلاقة ما بين القمح والشعر. هل ثمة اندماج ما بين الاثنين؟
بالضبط. يوجد مثل ذلك الاندماج، طالما رأينا أن الشعر غذاء روحي، مثلما هو القمحُ غذاء للبدن.
(*) هل رأيت الشعرَ حقلًا من القمح؟
تمامًا. فأنا لم أفصل تجاربي اللغوية عن تجارب تطوير السنابل جينيًا.
(*) من أجل حمايتها من التلف السريع؟
وأيضًا من أجل أن لا تكون من ضحايا الحشرات وهجمات الجراد.
(*) هل استفاد من تجاربك شعراء التسعينيات من الشباب؟
أعتقد ذلك. فقد ناضلت لتخليص الشعر اليمني من الشوائب والمعيقات الحجرية، وتأسيس روح نوعية لكتابة القصيدة اليمنية الحديثة.
(*) هل كان المناخ الثقافي في اليمن مهيأ لتلك التحولات الشعرية في رأيك؟
نعم. وبسرعة فاقت الوصف.
(*) بسبب كساد الشعر الكلاسيكي تقصد.
لا. ولكن مجاميع الشعراء كانت مثل نمور لا تريد التدجين في أقفاص لتمارس ألعاب السيرك في حدائق الحيوانات.
(*) هل ترفض وجود حيوانات في النصوص؟
أفضل الخيول فقط.
(*) هل هي محاولة لتبني مفهوم الفروسية في اللغة، على سبيل المثال؟
ولمَ لا.
(*) كيف يكون الشاعرُ فارسًا في تصورك؟
عندما تتوفر المهرة، نتحدث عن ذلك.
(*) وما هي المهرة. وكيف تكون؟
المهرة، في رأيي، هي أصعب رقم في المعادلات الحسابية. إنها المرأة التي نصفها حرير
"ناضلت لتخليص الشعر اليمني من الشوائب والمعيقات الحجرية، وتأسيس روح نوعية لكتابة القصيدة اليمنية الحديثة"
ونصفها الآخر نار.
(*) والفارس في رأيك، كيف يكون؟
أن يقف على حافة الهاوية، ويقرأ قصائده للريح.
(*) وبأي الحواس تسمع الريح؟
بحاسة العاصفة ليس غير.
(*) وما الفرق ما بين الريح والعاصفة؟
هما، وإن كانا في حراك مستمر، إلا أن الريح أرضُ الهواء، فيما العاصفةُ منجلُ لقطف ثمار ما ينتجه ذلك التراب.
(*) من كان الأكثر تأثيرًا وأثرًا في تكوينك الشعري؟
الغراب.
(*) هل كان أستاذك في التربية والتعليم، مثلًا؟
لا. ولكنه جاري الحائر من بين كل الجيران الذين كانت جميع نوافذي تطل عليهم.
(*) يقال إن الغراب بذهن متقد ومعرفي. هل من أجل ذلك رغبت بمصاحبته جارًا. ما رأيك؟
ربما. وربما لأنه كان الغراب المشؤوم يفتح لجنازتي الطريق نحو المقبرة.
(*) أليس هذا كلامًا أيديولوجيًا عنصريًا ضد الغربان؟
لا. ليس ذلك كلامًا عنصريًا. أنا عرفت ذلك في ما بعد، يوم وجدت أسرابًا من الغربان وهي تطير بجثماني إلى سابع سماء.
(*) ربما لتطمئن على وصولك إلى هنا بعد رحلة الموت، لئلا تضيع بين قدامى رموز اليمن وعناصر تاريخه؟
وربما لأن اليمن بات سعيدًا بمقابره، بحيث لم تبق في نفسي رغبةٌ في الكلام عن السعادة بمختلف أوجهها.
(*) ولا حتى السعادة العسكرية لحرب الأخوة الأعدقاء من حلفاء الموت؟
تراب اليمن كبريت.
(*) ما الذي تقصده بالتراب الكبريتي؟
ما أعنيه هو أن بلادي حاضنة دافئة للمحبين، وهي كبريت حارق تحت أقدام الغزاة والبيادق
"اليمن بات سعيدًا بمقابره، بحيث لم تبق في نفسي رغبةٌ في الكلام عن السعادة بمختلف أوجهها"
التي تتلاعب بمصيرها الكراهية والعنصرية الدينية.
(*) هل كنت أيديولوجي الانتماء للماركسية؟
نعم. علمًا بأن كل نظريات العالم لا تستطيع تدمير دبابة، أو تغيير مسارها، كي لا تمشي مجنزراتها في حقول اللحوم.
(*) والشعر في زمن الحرب. ماذا يفعل في رأيك؟
يفجر اللغة بمواجهة الأسلحة، ويأبى توزيع المناديل الورقية على الأعين المضطرة للبكاء بعد ملاحم الأنين.
(*) كيف يبكي الشاعر؟
عندما تمزقُ العاصفةُ مظلته، ويستمر في المشي تحت البرق مع كلبه دون اكتراث.
(*) هل كان عندك كلب؟
أكثر من واحد. فنحن، الشعراء في اليمن، عادةً ما نتولع بتربية النباح، وذلك من أجل تبادله ما بين القبائل.
(*) ولمَ التعوّيل على النباح مثلًا؟
لأنه من نصوص الهجاء بلا منازع.
(*) هل تعتبر الفلسفة في النص الشعري بمثابة أعشاب ضارة؟
كنت رؤيويًا على السطر. ولكن ليس من المستغرقين في متاهات الفلسفة.
(*) لماذا تقول ذلك؟
لأنني لم أكن متذوقًا جيدًا للتهويلات الضالة التي يحاول الفلاسفةُ تسويقها على الورق، وفي غرف الأذهان.
(*) ألا تظن بأن الكلمات تموت فيما لو رفضت أن تكون من نسل الرصاص؟
لا أعتقد بذلك أبدًا، حتى لو كانت الجائزة هي الأوسكار.
(*) وأنت. هل حصلت بعد الموت على جائزة ما؟
بل أصبحتُ بعد الموت (على بعد ذئب) من الحياة الشعرية.
(*) متى تتحوّل القصائد إلى قطعان تخاف من مهاجمة الذئاب؟
حينما تصير من تبعية الخراف، وتحت سيطرة راعٍ أعمى.
(*) ما الفرق ما بين عدن الأرضية، وجنة عدن، في هذي السماوات؟
كما الفرق ما بين الملح والسكر.
(*) هل هذا إعلان عن انتهاء الأحلام القديمة الخاصة بالحنين إلى مفردات الماضي، على سبيل المثال؟
لم تصمد بنيوية أحلامنا. كلها سقطت في وادي جهنم.
(*) وعلى منْ سيكون التعويل في رأيك؟
لا بد وأن يكون على الغياب.