آخر الأخبار

جيل لم يتلطخ بعد

الثلاثاء, 25 مارس, 2025

في الوقت الذي كان البؤس مسيطرًا على واقعنا في عدن، المدينة التي دمرتها قوى العنف والسيطرة بدعمٍ خارجي، والخارج لا يدعم من أجل سواد العيون، فللخارج مآرب، ومآربهم في اليمن أن لا تنهض لتكون نموذجًا راقيًا، يُغري شعوبهم بالمطالبة بالحرية والعدالة والإنسانية، ويكشف نهضتهم العمرانية التي تُغطي على مساوئ الحكم الأسري والسلالي، والتمايز العرقي والطبقي، والاستغلال القذر للإنسان، ويكشف استئثار الأسرة بثروة البلد، كنظامٍ إقطاعيٍ مضمون.



وفي الوقت الذي كنا فيه منشغلين بقوت رمضان، ووجع الزمان، وحاجة العيد والراتب الضائع والحقير الذي لا يسد ولا ينفع، رنّ الهاتف، أستاذ أحمد معك أحد طلابك دفعة 1985م ثانوية العاشر من سبتمبر، ندعوك وكل المعلمين الذين ما زالوا على قيد الحياة لنلتقي معًا بطلابٍ فرقتهم السبل منذ أربعة عقود من الزمن، وهم بحاجة اليوم ليستعيدوا ذلك الزمن، ويقدموا الوفاء والعرفان.


وبعد بحثٍ وتواصل، اكتشفنا أن معظم زملائنا قد فارقوا الحياة، وهم عند ربهم يُرزقون، وجمعنا ما تبقى، وكانت لحظاتٌ زاخرةٌ بالدفء والإنسانية، حين اجتمعنا بطلابنا، لقد حمل اللقاء في طياته حكاية إنسانية مليئة بالحنين والمحبة والإخاء، تفجَّرت خلالها المشاعر العاطرة، وعادت ذكريات الماضي ببهائها تُحيي في النفوسِ صورةً عن زمن جميل جمعنا تحت سقف واحد.


هؤلاء الطلاب، الذين غادروا مقاعد الدراسة قبل أربعة عقود، ها هم اليوم يقفون في مصاف النخبة: أطباء، وقضاة، ومعلمين، ومهنيين، ورجال أمن ودولة، ووكلاء وزارات، ومديري مؤسسات، اجتمعوا ليستعيدوا ذكريات مرحلة الشباب، التي شكَّلت منعطفًا حاسمًا في مسار حياتِهم، تلك المرحلة التي تُنمي الشخصيةَ، وتُهيِّئ الفردَ لاختيارِ مستقبلِه الأكاديميِّ والمهني. 



ورغم تباعدِ السُّبلِ واختلافِ التخصصات، اتفقوا جميعًا على العودةِ إلى حيثُ بدأوا، ليُعبِّروا عن وفائهم وعرفانِهم لمعلميهم، الذين أضاءوا لهم دروب المعرفة، وغرسوا فيهم قيمَ العلم والأخلاقِ، فكانوا الشمعة التي أضاءت طريقَهم، واليد التي دفعتهم ليكونوا لبنات صالحة في بناءِ المجتمع.



ما إنْ تدخلْ قاعة الحفل حتى يعود بك الزمنُ إلى تلك الأيام، فينهالُ عليك الطلابُ بالعناقِ والتحايا، يُقبِّلون رؤوسَنا تقديرًا وعرفانًا للجهودِ التي بذلناها قبل أربعين عامًا. إنهم الثمرةُ التي تُزهِرُ بها حياتُنا المهنية، والرمزُ الذي يُخلِّد إرثَنا التربويَّ جيلًا بعد جيل. في هذا اللقاء، استعدنا إنسانيتَنا، التي كادت تغيبُ في زمنٍ طغَت فيه الصراعاتُ السياسيةُ الفارغة، فبدلًا من أن تكونَ السياسةُ أداةً لتنظيمِ العلاقاتِ وخدمةِ الصالحِ العام، تحوَّلت إلى آلةٍ للتفريقِ والتمزيق، تُفرِّغُ الروابطَ من قيمِها، وتفتحُ أبوابَ الكراهيةِ مكانَ المحبة، فكان هذا اللقاءَ الحميمَ تذكرةً بأن اللحظاتِ الإنسانيةَ الخالصةَ قادرةٌ على تجديدِ الأملِ، وأن تكرارَها سيُعيدُ إلينا، شيئًا فشيئًا، ما فقدناه من قيمٍ تُعيدُ للمجتمعِ تماسكَه.

كم نحن بحاجةٍ إلى مثلِ هذه اللحظاتِ! نلتقي فيها لنتهادى الحنينَ، ونُحيي ما تبقَّى فينا من مشاعرَ إنسانيةٍ، فننشرَها كالعبيرِ بين أفرادِ المجتمعِ؛ وفاءً وعرفانًا وإخلاصًا، لنكونَ جسرًا للتعافي الفرديِّ والجماعيِّ، ولنستعيدَ معًا وطنًا يسعُ الجميعَ بالخير.


في الختام، أتوجَّه بالشكرِ لرب العالمين، أن لازالت الإنسانية تعيش في ذلك الجيل، ولم يتلطخ بمساوئ الصراعات والحروب، فقرروا تنظيم هذه المأدبة الرمضانية المباركة، خططوا وتواصلوا ونفذوا، فكان اللقاء رسالة للأجيال القادمة بأن الوفاءَ للجذور والإيمان بالإنسان هو الطريق الأمثل لاستعادة الذات والمجتمع من براثن اليأس.


*المقال خاص بالمهرية نت *  

اليمن والضالعون بالتآمر
الخميس, 20 مارس, 2025
اضطراب الشعوب
الثلاثاء, 11 مارس, 2025
عدن بين الدعوة والمخاض
الإثنين, 24 فبراير, 2025