آخر الأخبار

الدمعةُ الأولى!

السبت, 21 يناير, 2023

كانت الساعة الثامنة والنصف مساءً عندما دخل عليَّ أبي،  قال لي:  أكمل دروسك وبعدها تعال إليّ لأعطيك  هديةً جميلة، كانت عينا أبي في تلك اللحظة تنظران لي بحب كبير وكأنهما تقولان ها قد كبر صغيري وأصبح في الصف السادس وقريبًا سيكون سندًا للأسرة إلى جانبي.

صمتَ قليلًا وهو ينظر إلي ثم ودعني بابتسامة مكسوة بالشرود، عدت لإكمال دروسي وفي رأسي أسئلةٌ كثيرة،  ما هي الهدية يا ترى؟ خشيت أن أذهب إليه دون أن أكمل دروسي؛  لأني لا أحب أن أكذب وهو من رباني على ذلك، انهمكت في كتابة واجب مادة اللغة العربية والذي  هو كتابة الدرس خمس مرات، هكذا أمرتنا المعلمة؛  لأن واحدًا من الطلاب أثارشجارًا بينه وبين صديقه داخل الصف فتحملنا جميعنا عقوبة ذلك.

 انتهى حبر قلمي  قبل أن أكمل المرة الخامسة في الكتابة،  خشيت أن أطلب قلمًا بهذا الوقت من أبي؛  فهو قد اشترى لي هديةً وهذا يكفي، قلت في نفسي:  تبقى القليل سأكمله  يوم غدٍ بإذن الله، سأستلف من زميلي قلمه وأكمل،  غلبني النعاس وأنا أفكر ت في نوع الهدية وكيف سأكمل كتابة واجبي؟، نمت على الكتب دون أن أنتبه، كان نومًا عميقًا مليئًا بالأحلام الجميلة التي أخذتني بعديدًا عن قساوة الواقع ومرارته، لكن شيئًا ما في هذا الحلم أثار في قلبي الخوف، رأيت أبي وهو يودعني بعينين دامعتين، إلى أين ستذهب يا أبي؟... هكذا سألته في منامي،  لكنه لم يجبني إلا بتلويحة من يده  أنْ وداعًا، سألته مرة أخرى وثالثةً لكنه مستمر بالتلويح والتراجع للخلف بعجالة حتى اختفى من أمامي فصحت بأعلى صوتي، إلى أين ستذهب يا أبي؟! ولمَ أنت صامتٌ هكذا؟.

 صحوت من نومي حينها، لقد كان حلمًا التفتُ إلى ساعة الحائط والتي تشير إلى السابعة صباحًا، صوت أمي يأتي من المطبخ، تسألني هل صليت الفجر؟، أجبتها، لا   لكنى سأصلي الآن، ثم سألتها من أخذني إلى فراشي؟، وأين أبي الآن؟، قالت أمي:  إن أباك هو من أخذك إلى فراشك لقد انتظر قدومك لكي يعطيك هديتك لكنك لم تأتِ فقدم إليك لكنه وجدك نائمًا وفضل عدم إيقاظك، هيا صلِ وتعال تناول فطورك.
 
سألتها بتململ وأين أبي الآن؟، أجابت: 
ذهب قبل ساعة من الآن، أنت تعلم أنه يجب عليه الذهاب مبكرًا إلى حرج العمال لكي يحصل على عمل، تعلم أن الحصول على عمل بهذا الزمن أمر ليس باليسير إطلاقًا.

أخذتُ نفسًا عميقًا ثم ذهبت مسرعًا إلى الحمام... وبعدما صليت الفجر ولبست زي المدرسة لملمت كتبي، كنت أنظر لكراسة اللغة العربية وأسأل نفسي ماذا ستقول لي المعلمة لأني لم أكمل واجبي؟، هل ستغضب مني؟! لا أظن ذلك، إنها تشجعني كثيرًا وأنا أحصل على العلامة كاملة في مادتها وكل المواد الأخرى، تركت الكراسة في الحقيبة وأنا أنظر لها وأتمنى ألا تخيب ظني فيها.

تناولتُ وجبة الفطور على عجلٍ ثم سألت أمي، أين هي الهدية التي جلبها لي أبي؟ أريد أن أراها،  قالت الأفضل ياصغيري أن تراها عندما يأتي أبوك  تعلم إنه انتظرك كثيرًا ليلية أمس ليريكها ويرى فرحك بها.

تفهمت رأيها رغم حماسي الكبير  لرؤية الهدية، طبعت قبلةً على خد أمي وأسرعت باتجاه المدرسة لحقني زميلي أسامة في منتصف الشارع، فجأةً أمسك بيدي بقوة  وهو يقول ضاحكًا: 
حسام؟  هل أكملت واجب المعلمة؟
قلت له أنت من تسبب بذلك، ما الذي حملك على إثارة الشجار أثناء الحصة؟
قال أنا لا أحب تلك المعلمة وأنت تعلم، حتى أني لم أكتب الواجب الذي طلبته.

قلت له:  لا تكن هكذا، هذه معلمتنا واحترامها ضروري، هكذا تقول أمي، تقول إن احترام المعلمين واجب علينا، حينها صاح بي زميلي غاضبًا مني وتركني...   مضى مسرعًا، حاولت أن أناديه لكنه قد مشى مسافةً طويلة، وفجأة اهتز الشارع هزةً كبيرةً، ضغطُ الهواء دفع بي للجهة الأخرى... صياحٌ يملأ المكان دخان يحلق في الفضاء صورة زميلي اختفت عن نظري تمامًا، ما الذي يحدث؟ ما هذا الصوت الكبير؟  أين وقعت؟ أين وقعت؟ سمعت أصوت رجال يتساءلون أين وقعت، فعلمت أنها قذيفةٌ جاءت لتأخذ أرواحًا جديدة من هذه المدينة التي يزورها الموت بكل حين، ويقتطف أرواح الأبرياء على مرأى ومسمع من العالم الصامت.

تسمرت في مكاني،  لا أدري هل أنا أعيش حلمًا أم أن هذا  واقع حقًا،  الناس ينادون إسعاف، إسعااااف، رأيتهم يحملون رجلًا مغطى بالدماء معطف هذا الرجل الذي يحملونه يتدلى من بين أيديهم، حدقت كثيرًا، يبدو إنني أشبِّه فقط،  فهذا ليس أبي، إن أبي في العمل، نعم ليس هو، مروا من أمامي  مسرعين، نظر إليَّ بعضهم، وقال البعض الآخر:  هذا ابنه، والبعض يسأل لماذا لا نخبر زوجته؟، التفتُ إلى الخلف فوجدت مجموعةً من الرجال يتوجهون صوب المنزل الذي نسكن فيه، أيقنت حينها أن من كان محمولًا بين أيدي الرجال قبل لحظات هو أبي، تذكرت الحلم الذي رأيته ليلة أمس، تذكرت يد أبي التي كانت تلوح لي، هل فعلًا سيكون وداعًا أخيرًا؟ فزعني من شرودي صوت أمي وهي تصيح، خرجتْ من المنزل بكل جنون تبحث عني،  تسألهم أين أنا، تسأل أين أبي، كنتُ أنظر إليها لكنني لا أقدر على الحركة، جرت نحوي، احتضنتني، تحسستني سألتني هل أنت بخير؟، وأنا سألتها أين أبي؟ أبي في العمل أليس كذلك؟

احتضنتني مرة أخرى، حملتني وأخذت تمشي وتسأل بأي مستشفى هو؟، إلى أين أخذوه؟ أجابوها بقولهم : أخذوهما إلى مستشفى الثورة هو وأسامة، أسامة زميلي الذي ترك يدي قبل قليل عندما غضب مني وذهب مسرعًا؛  لأني قلت: إنه السبب في في غضب المعلمة.

وصلنا إلى المستشفى، كان جارنا يكفكف دمعه،  سمعت صوت الطبيب وهو يقول سيعلمون الآن أو غدًا، هذه هي طبيعة الحياة" كل نفسٍ ذائقةُ الموت" سقطتْ أمي على الأرض عندما سمعت قولهم، لكني بقيت في ذهول، من الذي ذاق الموت هذه المرة؟، احتضنني جارنا، جاءت الممرضات أخذن أمي على  الكرسي، سألتُ جارنا: أين أبي؟ في أي غرفة هو؟ وأين أسامة؟،  غصةٌ في حلقي تكاد تقتلني لكني لا أقدر على البكاء، أدخلني جارنا إلى الغرفة التي فيها أبي فرأيته  جثةً هامدة،  مسكت معطفه بخوف كبير، كان مبتسمًا مسكت وجهه، حاولت تحريكه لكنه لا يتفاعل معي كما كان في السابق، نزلت دموعي وهذه أول دمعة تخرج مني  دون بكاء، دمعة مليئة بالحرقة، بالندم، دمعةٌ مليئة بالوجع والتساؤل كيف سأكون بدونك يا أبي؟، دخلت أمي وهي تبكي بكاءً ما رأيته من قبل، كانت تتحسس وجه أبي وتصرخ  تارةً، وتضمني إليها تارة أخرى، مجموعةٌ من الممرضين كانوا يقودون سريرًا عليه طفل مبتور القدمين، حدقت أكثر، إنه صديقي أسامة، لا يتحرك، أومات هو الآخر؟  لقد كان غاضبًا مني؟ رأيت طبيبًا يبحث في يد أسامة عن وريد ليزوده بالدم فعلمتُ أنه ما يزال على قيد الحياة.

ساعاتٌ وعدنا إلى البيت، بعدما أودعوا أبي ثلاجة الموتى،  كانت خطواتي كلها خيبة أمل، كلها ندم، ذهب أبي دون وداع، ودعني في منامي فقط،  كانت أمي تنتحب،  قدمت لي صندوقًا ذا لون بني، قبلته قبل أن تضعه بين يدي، قالت لي:  هذه هديتك، افتحها، قلت لها سأنتظر أبي سنفتحها  معًا، زاد بكاؤها لكنها سرعان ما تمالكت نفسها وفتحت الصندوق  وهي تقول: الشهداء  يذهبون لحياة أخرى أفضل من هذه الحياة المليئة بالوجع، سنلتقى بهم في الجنة، سيكونون شفعاء لنا فلا تحزن، ثم أخرجت  من ذلك الصندون علبةَ  ألوان ومجموعةً من الأقلام وساعةً جميلة وورقة صغيرة مكتوب عليها" اليوم هو عيد ميلادك الثاني عشر، أتمنى لك عمرًا مفعمًا بالجمال والسعادة" قرأتها أمي وهي تبكي أما أنا فقد جاء الوقت الذي أخرج فيه ما في صدري من بكاء، بكيت كثيرًا...  بكيت حتى غلبني النوم وليتني ما صحوت.

المزيد من إفتخار عبده