آخر الأخبار
هوامش وتعليقات على أفكار مقتضبة !!
منذ فترة طويلة تفرغ الدكتور علي محمد زيد لمشروعه الثقافي والأدبي الكبير، و نشر خلال العام المنصرم وحده ثلاث كتب دفعة واحدة - روايتان " الفقاعة، و وكوبنهاجن في بيتنا " وكتاب عن البردوني "عزاف الأسى " ، وقبل ذلك بعامين أصدر كتابه المهم" الثقافة الجمهورية في اليمن"، ليعود لإصدار طبعة جديدة منقحة مطلع هذا العام.
بخبرته البحثية والكتابية الكبيرة استطاع تسريب الكثير من مواقفه وآرائه السياسية وقضايا الشأن العام من خلال هذه الاصدارات، لكنه من وقت لآخر ينشر وعلى نطاق ضيق ، عبر وسيطة الواتس، فلاشات قصيرة اشبه بتعليقات مقتضبة على قضايا تثار هنا وهناك، أو يقارب مشكلة عامة ذات أثر حيوي في حياة المجتمع، وبلغة مقتصدة ونافذة يوصل مضامين ما يريد لقرائه الشغوفين بما يكتب، وقد استوقفتني في الآونة الأخيرة العديد من هذه الفلاشات التي اطلقها وقادتني إلى خلق حالة من الاشتباك القرائي معها. سأعرض لحالتين قاربهما خلال يناير2023، الأولى على هيئة تعليق، والثانية تعرض لأخطر القضايا في المجتمع واكثرها استدامة كمشكلة.
في 8 يناير كتب في سياق رده على مقال للأستاذ عبد الباري طاهر عن الوحدة ما يلي:
" هناك بعد ينبغي أخذه في الحسبان، هو عجز قوى الحرب عن تحقيق الوحدة ، وهم تحقيق انفصال مستقر ومعترف به، وأن الانفصالات تعني مواصلة الحرب ولا تقدم أي حل، حتى لوكان حلاً ناقصاًن ومع ذلك لا ينبغي للمثقف اليمني أن يتنازل عن حلم الوحدة اليمنية القائمة على اسس الديمقراطية والمساواة واحترام حقوق الإنسان، والضامنة للسلام والتنمية المستدامة"
وهمان كبيران تسوقهما قوى الحرب ومتناسلاتها للمجتمع الغارق في الفقر الفوضى والحرب، هذان الوهمان هما : وهم الوحدة ووهم الانفصال، فالوحدة بمشغلاتها العاطفية لم تزل تُستثمر من قبل القوى التي أجهزت على مضامينها الانسانية بأدوات الضم والألحاق والفيد، وتعمل على تسويقها للأتباع بشعارات مخادعة وزائفة وتنتج خطابها التعبوي تحت لافتاتها حتى اليوم ، ويقابل هذا الوهم ، في ذات الوقت ،وهم الانفصال بالطريقة الشعبوية التي تستثير غرائز العامة لتبيعهم سراباً ملوناً بالوعود. كلا الخطابين يتغذيان من حالة الفوضى واستدامة الحرب التي تخصب مثل هذه الأفكار الميتة في وعي مالح . الأخطر في الأمر هو انقسام المثقفين على متراسي هذين الفخين المخادعين، والذي من البديهة أن يكونوا أكثر المتنبهين لزيفهما.
لعبت الشعبوية السائلة دوراً ترهيبياً في أوساط المثقفين، وقادت الكثير منهم للعمل تحت إحدى اللافتتين الزائفتين، بل وذهب البعض للإشتغال في مساحات ارتكاسية غير قابلة للحياة ، لأن دوافعها غير ثقافية بالمرة ولا حتى اجتماعية، بل سياسية بامتياز، وتخدم مشروعاً تفكيكياً واضحاً في سياق التسابق المحموم لاقتسام النفوذ في بلد متنوع وغزير الثروات، وصار من السهل شراء نخبه وقواه الاجتماعية بأموال مدنسة.
في 3 يناير عرض رأياً في حال التعليم على النحو التالي:
" في الوقت الذي يتراجع فيه التعليم في اليمن، تتحرك المناطق الريبة منا نحو إعطاء الأولوية القصوى لتحديث التعليم ليكون رافع للتحديث الاقتصادي والاجتماعي ولزيادة معدلات الانتاج والنمو في جميع المجالات. فمثلاً كينيا التي كانت إلى الستينات تعتمد على ميناء عدن اصبحت في أفريقيا حالياً تشبَّه بوادي السيلكون في أمريكا ، عاصمة تكنولوجيا المعلومات والاتصال في العالم، كل هذا من خلال التركيز على تحديث التعليم وتحسين محتواه وفقاً للمعايير فس أكثر الدول تقدماً"
التعليم الحديث القليل الذي شهدته مستعمرة عدن ابتداء من أربعينيات القرن الماضي، كان في أساسه استراتيجية استعمارية لتخريج كتائب من الموظفين لخدمة الإدارة مثله مثل المدارس الحديثة في غيل باوزير والمحسنية في لحج ، قابله أيضاً توجه شديد الانغلاق لنظام ثيوقراطي مستبد في المملكة المتوكلية في الداخل اليمني،أبقى على اكتاتيب البدائية وسيلة وحيدة للتعليم، لأنه كان يرى في التعليم الحديث خطراً يتهدد نظام الحكم، وهو ما كان فعلاً ، حين تأسست البنية الحديثة في النظام الجمهوري الجديد على جهود خريجي البعثات التعليمية ( المدنية والعسكرية) التي ابتعثها ابتداء في أواسط الثلاثينات، لتتحول إلى مدَّ جارف في الخمسينات منطلقاً من المدن المصرية على وجه التحديد.. تدخل الجيش المصري لدعم ثورة سبتمبر رافقه أيضاً تدخل في بنية التعليم حين وصل إلى اليمن مئات من المدرسين والخبراء المصريين مع مستلزمات التعليم الحديثة ( المناهج)، ليعملوا من الصفر تقريباً لتحديث وتطوير التعليم.
مع المصالحة الجمهورية الملكية، تم فرض نظام تعليمي ديني مواز وبرعاية رسمية ليحدث عذا الفعل أول انقسام في نظام تعليمي هش.. مع مطلع الثمانينات بدأت الجماعات الدينية المتشددة في التدخل الخشن في محتوى المناهج التعليمية لتتماشى مع توجهاتها الظلامية.
القليل من قشور الحداثة في المناهج ، تأكلت مع مرور الوقت بسبب عدم المواكبة، لتاتي الحرب وتفرض منطقها لتقضي تماماً على التعليم، بتحويل المباني والمنشآت التعليمية إلى ثكنات عسكرية، وتحويل الطلاب إلى وقود حرب في الجبهات، والمعلمين إلى عاطلين ومتسولين، ومن ارتبط منهم بالميليشيات المتناحرة تحولوا إلى قادة ميدانيين برتب عسكرية كبيرة.
صار التعليم ، بكل ضحالته، غير مجاني ، في تناقض صريح مع نصوص قانونية تقول بمجانية التعليم ( خصوصاً في مراحل التكوين الأساسي) ، وتُرك للأموال الخاصة تسليع التعليم في مدارس انتشرت كالفطر في الأزقة والحواري، بدون رقابة حقيقية، بسبب الطلب المرتفع على التعليم الخاص كبديل عن التعليم في المدارس الحكومية التي هجرها معلموها، وصار المتطوعون قليلوا الخبرة والتأهيل هم من يقومون بالتدريس.. يستغل ملاك المدارس الخاصة حاجة المعلمين والخريجين الجدد بمنحهم مرتبات زهيدة مقابل تدريس طلاب متيقنون سلفاً أنهم سينجحون بتفوق نظير الأموال التي تدفعها أسرهم مقابل هذه الخدمة.
مجانية التعليم التي قامت عليها فلسفة الحكم خلال ربع قرن في جمهورية اليمن الديمقراطية (من الروضة حتى الجامعة) صارت من الذكريات الجميلة، التي قضت عليها جوائح الحرب والفوضى ابتداء من العام 1994م حتى وقتنا الحاضر، لتصير عدن وبقية المحافظات الجنوبية تعيش هي الأخرى في عتمة التجهيل، وعادت الأمية للتفشي في لأريافها ومدنها، بعد أن كانت قد قضت عليها أواسط ثمانينيات القرن العشرين.
*المقال خاص بموقع " المهرية نت ".