آخر الأخبار

الجبايات بموازين حسَّاسة!

الأحد, 26 نوفمبر, 2023

افتقدت صديقي الفرَّان لأيام، وحين سألت عنه أخبرني جاري أنه يرتّب لبيع فرنه أو تأجيره لمن يرغب في ذلك ممن يعرفهم. استغربت الأمر كثيراً كون الفرن المملوك له يعمل بكل طاقته، ويحظى منتوجه من المخبوزات (الروتي والرغيف والكُدم) وفي الأوقات الثلاثة برضى تام من زبائنه في الحيّ، وإن آخرين من خارج الحي يقطعون مسافات طويلة للوصول إليه من أجل شراء منتوجه وخصوصا (الكُدم) وقت الظهيرة، لهذا تجده مزدحمًا رغم وجوده في شارع خلفي في أطراف السوق.


وحين وجدته سألته عن صحة الأخبار التي تقول أنه سيتخلى عن فرنه؟ فأكّد لي صحة ذلك، معللا الأمر أنه يتكبد خسائر مضاعفة شهرياً، رغم عمل الفرن بطاقته القصوى في الأوقات الثلاثة!!


قال إنه في سنوات ما قبل الحرب كانت الأفران تحصل على حصص من الدقيق والوقود (الديزل) المدعوم، وكان يُفرض على ملاكها بيع أصناف الخبز بأسعار محددة، وكل مخالف كان يحرم من الحصة، فيضطر المخالفون من ملاك الأفران إلى شراء الدقيق والوقود بأسعار السوق غير المدعومة، فكانوا لا يستطيعون المنافسة، فيضطرون للإلتزام بالتسعيرة والوزن، مع اعتراف صاحبي أنه في تلك المرحلة كانت هناك تجاوزات وفساد واضحين.


 أما اليوم التموين لا يدعم الدقيق ولا الوقود، ويفرض تسعيرة محددة للبيع بالكيلو أو الحبة بوزن خمسين جراما بسعر عشرين ريال لكل حبة، وهنا تكمن المشكلة كما قال، لأن الوزن المنفرد لا يُضبط تماماً بسبب الشغل اليدوي التقليدي، فتنقص بضع جرامات هنا وتزيد هناك، ولا يضبط الوزن إلا إذا كان البيع المباشر بالميزان وبالكيلو، ولأن أغلب الزبائن لا يشترون بالكيلو ويشترون بالحبة، وإن حالة الوزن المنفرد للحبات ينتج عنه فوارق كسرية في الأسعار ( ريالين، ثلاثة، خمسة، عشرة وهكذا)، لا يمكن توفير هذه الكسور كسيولة بسبب انعدامها من التداول.


في الآونة الأخيرة استعانت مكاتب وإدارات التموين بمئات المتعاقدين بشكل موسمي، ومنحتهم صلاحيات تفتيش متكرر ويومي يصل إلى مرتين في اليوم الواحد، ومن قبل أشخاص مختلفين على الأفران، يحملون موازين حساسة جداً، أشبه بميازين الذهب، يداهمون المكان، وينتقون أصغر قطع الخبز، ويضعونها على الميزان، فإن قلّ وزنها بجرامين أو ثلاثة أو خمسة عن الوزن المطلوب يحرّرون مخالفات مقدارها مئتي ألف ريال حسب التعميم، وحين يُطلب منهم إخضاع قطعة من ذات المجموعة أكبر قليلا للوزن، يكون وزنها زائدًا على المطلوب يرفضون، فنضطر لمصالحتهم برشاوى بين خمسة وعشرة ألف ريال وهكذا، وإلا سنضطر لتعطيل العمل، والإغلاق والبهذلة من الطلوع والنزول للإدارة.


قال لي صديق يعمل في المديرية إن أغلب مفتشي التموين الذين يجولون بين الأفران حاملين الموازين، ودفاتر السندات هم من غير الموظفين الرسميين، جيء بهم بواسطة النافذين، ورؤساء الدوائر من أقربائهم أو معارفهم، ومطلوب من كل شخص منهم تحصيل مبالغ محددة يومياً مما يسمونها بالمخالفات، وإن النسبة الكبيرة من هذه المبالغ توزّع بينهم، ولا تذهب للخزينة العامة غير مبالغ رمزية، وفي أوقات متباعدة.


المسالة هنا ليست إنفاذ قوانين، وتنظيم عمل، ومحاربة الاحتكار والغش، وحماية المستهلك كما يقولون، وإنما هي صور أخرى للتعدّي والابتزاز غير القانوني تحت شعارات قانونية. تأجير شخوص من معاريف ومحاسيب المتنفذين من أجل الجبايات صار أمراً معتادا في مكاتب التموين والأشغال والضرائب والأوقاف، مهمتهم المرور على أصحاب المحلات والمطاعم والبوفيهات للتفتيش، ورفع المخالفات، التي تتخفى خلفها كمائن الجباية غير القانونية، فبمجرد أن يصل المفتش فمعنى ذلك على صاحب المحل تدبير مبلغ مالي لمصالحته، إن كان مرتكباً مخالفة أو لا، فهو في نهاية المطاف قد وصل، ولن يغادر دون مال.


سبق وأن كتبت في هذا الموضع تحت عنوان (الجباية التي تأسست على إرث إمامي قديم) في أبريل 2022م، ويتكرر، من وقت لآخر، أثناء قعودنا في المقهى أن يمر أشخاص غريبون ( شخصان أو ثلاثة) ومعهم دفاتر أو كشوف مدوّن عليها أسماء المحلات وأصحابها، ويطالبونهم بدفع رسوم أو مستحقات للجهات الإيرادية (ضرائب - أوقاف - زكاة -أشغال- تحسين)، وفي الغالب يكون هؤلاء متعهدو تحصيل من داخل هذه الجهات أو من خارجها، يقوم أقرباؤهم أو معارفهم في هذه الجهات بمناولتهم قوائم بأسماء المحلات التجارية والمطاعم والبوفيهات، ويطلبون منهم إحضار أصحابها إلى واحدة من الجهات التي زودتهم بالقوائم أو ابتزازه؛ يحدث أن يكون صاحب المحل قد استوفى كافة رسوم الدفع فيُخرج لهم الوثائق التي تثبت سداد ما يدعون به، لكنهم يتصلَّبون في موقفهم فيصرون على أخذه معهم لحل مشكلته في مكاتب الجهة، فيضطر وقتها لمصالحتهم بأي مبلغ، لأن ذهابه معهم سيتسبب بتعطيل عمله، وإن ما سينفقه على مشوار مرافقتهم سيكون مبلغاً مضاعفاً لمرات عما سيعطيه لهم.


قال لي صاحب محل معروف أن هؤلاء يقومون غالباً بالاتفاق مع نافذين في هذه الجهات لتزويدهم بهذه الكشوف (لقاء مبالغ محددة)، ويحصلون على أثمانها مضاعفة من أعمال التهديد والبلطجة التي يمارسونها على أناس مسالمين، يفضلون الدفع على الجرجرة والبهذلة، وعادة ما يكون مثل هؤلاء المحصلين في منتهى الرخص والبذاءة.. الجباية صارت سلوكاً متفشياً لسلطة تتضخم بأموال الفقراء.

لماذا يشوهون عدن الجميلة؟!
الأحد, 10 ديسمبر, 2023
الكتاب في مواجهة الخراب
الجمعة, 17 نوفمبر, 2023