آخر الأخبار
لماذا يشوهون عدن الجميلة؟!
أربعة أيام في شتاء عدن كانت بالنسبة لي كافية تماماً للاستجمام، والتمتع بأجواء المدينة الرائعة بعد أشهر طويلة من العمل اليومي الروتيني المنهك والمتشابه الذي لا تبدّده الاستقطاعات الوقتية لرؤية الأصدقاء صباحاً في ساعة واحدة وساعتين في المساء.
عدن بجغرافيتها، وإرثها المدني، وأهلها المتنوعين مدينة جميلة في كل الأحوال، وبكل المقاييس، ويكتمل جمالها أكثر في الشتاء حين يعتدل طقسها بعد كل صيف حارق، ويمكن الإحساس بذلك من قياس مزاج سكانها الذين يكونون قد تخفوا قليلا من جنون الحرارة (الحَمَا) بسبب مشكلة الكهرباء وانقطاعاتها المستديمة، غير أنّ هذا الجمال تخدشه بعض المظاهر المؤذية، والتي يمكن التغلب عليها بقليل من الإنصات لمجتمع المدينة الذي صودر حقه تحت لافتات وشعارات سياسية سائلة لا تمت لتاريخ المدينة وإرثها بشيء، ومن الخدوشات الفجة في وجه المدينة:
- انتشار النقاط العسكرية بكثافة في المناطق الحيوية في المدينة، والتي صارت لا تؤدي وظائف أمنية تماماً غير الجباية وابتزاز المسافرين، فبمجرد عبور أي سيارة تدل أنها تقل مسافرين، يتم إيقافها، وتفتيشها، واستجواب الركاب، الذين يكونوا قد خضعوا لنفس العملية في النقاط التي سبقتها، والهدف من ذلك هو الحصول على القليل من المال من السائق أو الركاب.
لدى البعض من المجندين في هذه النقاط طباع المتسولين الغليظة، يبحثون عن أتفه الأسباب لابتزاز الركاب، إما بتفتيش تليفوناتهم، أو التحقق من هوياتهم وألقابهم .. ففي إحدى النقاط استوقفنا جندي شاب أشعث طلب من السائق مبلغاً من المال، وحين اعتذر الأخير بحجة عدم امتلاكه للمال في ذلك الوقت من الصباح الباكر طلب منه التوقف جانباً، وبدأ بتفتيش السيارة، وحين رأى بعض النطف الحمراء على إحدى الدعسات طلب منه توضيحاً عن الدم، وعن المقتول فجن جنون السائق، حين قال أنه سيتواصل بالقيادة لمعرفة التفاصيل، فتدخلت لتهدئته، ثم أعطيته مبلغاً صغيراً فتركنا نمضي احتراماً لي فقط كما قال!! طبعاً كل النقاط في الخط الرابط بين صنعاء وعدن (مروراً بذمار وإب وتعز ولحج)، وضعت كلها للجباية وابتزاز السائقين والمسافرين، وكل الجنود بلا استثناء يتسولون القليل من المال الذي يصل إلى حد الرخص الفظيع.
- البناء العشوائي في مجاري السيول/ والمناطق الجبلية المحيطة بالأحياء السكنية في كريتر والمعلا والتواهي واحدة من ثلمات التشويه في الوجه الجميل لعرائس المدن، وفي ذات الوقت صارت الانهيارات، والتشققات الصخرية تشكل تهديداً حقيقيا لحياة السكان والممتلكات.
جاء في تحقيق لافت للزميل رشيد سيف منشور في "خيوط" أن الانهيارات الصخرية تهدد حياة وممتلكات الأُسَر القاطنة في أحياء مديرية المعلا الخلفية، وكريتر القريبة من منطقة "المعاشيق" مقر الحكومة المعترف بها دوليًّا في مدينة عدن.
وازدادت نسبة المخاوف بالتزامن مع تزايد التوسع العمراني والسكاني في تلك المواقع الجبلية الخطرة، خصوصًا مع اعتماد سكان تلك الأحياء في بناء منازلهم على شق الصخور والبناء بمنحدرات الجبال البركانية المتآكلة والمنفصلة.
وتسبّبت الحرب في اليمن منذ العام 2015، بحركة نزوح كبيرة إلى مدينة عدن، وانعكاس ذلك في التوسع العمراني الذي امتدّ ليشمل مناطق خطرة، وغير صالحة للعيش والاستقرار، كما أنّ الضائقة المالية الناتجة عن الانهيار الاقتصادي والمعيشي، دفعت مئات الأُسَر إلى البناء في المناطق الجبلية الواقعة في مناطق "المعلا وكريتر" هربًا من ارتفاع الإيجارات التي باتت تشكّل أعباءً كبيرة على المواطنين، بعد اعتماد عملية دفعها بالعملة الصعبة؛ الدولار الأمريكي والريال السعودي".
- بعض التحسينات الجمالية في الجولات وواجهات مدينة كريتر (جولة الفل والبنوك)، لم تخف التآكل الحقيقي في معالم المدينة التاريخية، وبنيتها التحتية، فطفح المجاري الدائم، وكثافة القمامة وروائحها النتنة في المناطق الشعبية، وانهيار بعض واجهات المباني التقليدية، واندثار المعالم التي بقيت تعرِّف بالمدينة لعقود. حينما سألت بعض السكان عن عدم ترميم وصيانة مبانٍ قديمة هي من العناوين البارزة في الأحياء، قالوا إن في هذا الأمر تواطؤ بين دوائر الأشغال ومن يدّعون ملكية هذه المباني، لإخلائها من السكان والمنتفعين، بحجة مخاطر الانهيار، في مقدمة لإزالتها وتشييد مبان حديثة بعيداً عن الطراز التقليدي للمدينة، على أيدي مستثمرين على صلة بنافذين في سلطة المدينة، وأجهزتها التنفيذية والأمنية، أو أثرياء جدد صنعتهم الحرب والفوضى، وصاروا جزءا من منظومة الفساد التي تغلغلت في كل المفاصل.
- التعديات على المجال العام، والمتنفسات والاستيلاء على الأراضي، والأملاك العامة والخاصة واحدة من تجليات الفوضى التي تضرب المدينة بفعل خارطة النفوذ التي رسمتها التكوينات القروية، وأذرعها الأمنية والعسكرية. الإتاوات والجبايات غير القانونية على رجال الأعمال والبضائع الداخلة عبر الميناء، وعلى أصحاب المحلات التجارية في الأسواق واحدة من العناوين البارزة لحالة الانفلات في المدينة الوادعة. وعلى ذكر الاتاوات - التي تفرضها الأذرع الأمنية والعسكرية ولا تذهب إلى الخزانة العامة- أن سعر الكيلو الطماطم ارتفع في الأسبوع الماضي إلى أرقام فلكية في عدن ومحيطها، بالتزامن مع موسم جنية في لحج وأبين، والسبب أن النقاط العسكرية لم تسمح بمرور المركبات المحملة بالمنتوج إلا بدفع إتاوات أكبر من سعر المنتج نفسه!!.
هناك عديد كتابات قرأت حالة عدن بعين متبصرة ومُحبَّةٍ تماماً، ومنها مساهمة أستاذ علم الاجتماع بجامعة عدن د سمير عبد الرحمن هائل في كتابه المهم (مجتمع كسيح ونخب متوحشة) حين قال:
"في أزقة وجادات وشوارع مدينة عدن تم تكسير أضلع الإنسان، وتدمير قيم المواطنة المتساوية، وإشعال الفتن العمياء، والإحترابات، والعنف، والإرهاب، وتوطين الفســاد، وتسويم الناس بالشعارات الغوغائيــة، والانحطاط الســلوكي، وهبــوط الثقافة تحت درجة الوعي وضمور الروابط الإنسانية وفقدان المعايير. لقد أثّرت الحرب وحرب الخدمات والتصدعات والأزمات والصدمات بشــكل عميق على ســلوك الأفراد والجماعات الاجتماعية، وشــهدت حياتهم انهيارات فظيعـة في خضم الفعــل البشري والتدمري العمدي للبنية الاجتماعية والســلطة والمؤسسات وتقطيع أوصــال الروابط الاجتماعية واتســاع مساحة الغربة والضياع."
هذه المدينة الوادعة والمسالمة لا يُراد لها أن تتعافى، فعلى امتداد سنوات طويلة نقل إليها المتحاربون جنونهم، والقرويون فوضاهم تحت شعارات ثورية منفلتة لم تزل تستخدم وتوظّف حتى اليوم بصيغ مختلفة، ونقل الفاسدون إلى أرجائها ومعالمها وقيمها المدنية سمومهم القاتلة.. تعافي عدن هو إشارة واضحة لتعافي اليمن برمتها، لهذا ستبقى على الدوام في عين العاصفة، مادامت الأدوات المحلية تعمل ضمن مخططات اقليمية للتمزيق والتفكيك المخطط له بعناية.