آخر الأخبار
عمر الجاوي .. سيرة التكوين وخلاصة الشاعر(1-2)
"حرص الجاوي دوماً أن يكون بكيانه وبفكره قريباً من الناس والجماعات المختلفة ، غير مهتم بالمناصب ؛ كما أن كتاباته تلقي ضوءً هاماً على التاريخ الثقافي لليمن في العصر الراهن ، بما في ذلك قضية الصراع بين القديم والجديد ، والعناصر التي شكلت ثقافة اليمن المعاصر. وفضلاً عن ذلك اتسمت كتاباته ومواقفه بالجسارة في مواجهة الأزمات والكوارث التي عصفت باليمن في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين"
د أحمد القصير
من كتاب (اصلاحيون وماركسيون )
(1)
بين مولد عمر عبدالله السقاف (عمر الجاوي) في قرية الوهط التابعة للسلطنة العبدلية في لحج في العام 1938 ، وبين سفره ضمن بعثة طلابية للاتحاد اليمني في العام 1954 إلى القاهرة - ضمت خمسة طلاب من قرية واحدة سيكون لأكثرهم شأن في تاريخ اليمن المعاصر في الشمال والجنوب وهم : أبوبكر السقاف ، ومحمد جعفر زين السقاف ،وعمر الجاوي ، محمد عمر اسكندر السقاف، علي عيدروس السقاف" - تقتضي المقاربة الاشارة إلى التأثيرات المبكرة ،الثقافية والسياسية، في وعي الطفل الذي بالكاد كان يقف على عتبة العاشرة من عمره وهو يتلقى تعليماً نظامياً حديثاً في عاصمة السلطنة العبدلية مدينة الحوطة ، وتحديداً في المدرسة المحسنية العبدلية ، التي أسسها الأمير محسن بن فضل شقيق السلطان عبد الكريم فضل ،واستقدم لها المناهج والمعلمين من مصر والسودان والعراق،" وتخرَّج منها رواد العمل السياسي والثقافي في السلطنة والجنوب واليمن عموماً، وأنه بعد اعتراف المعارف المصرية بشهادة المدرسية "المحسنية" ،بدأت معارف السلطنة بإرسال البعثات إلى مصر، لإتمام تعليمهم الثانوي والجامعي، كما يقول السلطان علي عبد الكريم في مذكراته.
بعيد ثورة يوليو المصرية في العام 1952، كانت" رابطة أبناء الجنوب العربي" هي الطرف السياسي الفاعل داخل السلطنة العبدلية ، وإن السلطان علي كان يتخذ من رئيسها محمد علي الجفري مستشاره الأقرب، وإن خلافات الرابطة العميقة منذ تأسيسها في العام 1950، مع الجمعية العدنية ، جعل السلطان والرابطة أقرب للخطاب العروبي ، الذي بدأ يسطع في العاصمة المصرية، في الوقت الذي احتمت فيه الجمعية العدنية بخطاب انعزالي ، تغذيه السلطة الاستعمارية، لهذا كان العديد من رموز الطبقة الوسطى في المحميات الجنوبية ومدينة عدن يتواجدون في صفوف الرابطة، حتى أولئك كانوا لاحقاً على رأس الأحزاب والتنظيمات اليسارية والقومية.
في تلك الفترة نشطت وبشكل لافت بعثات الطلاب اليمنيين من الشمال والجنوب إلى المدارس والجامعات والمعاهد المصرية ، فكان للسلطنة بعثتها التعليمية ، ومثلها نادي شباب لحج، وحزب الرابطة، والأندية القروية في عدن ، والأهم الاتحاد اليمني، الذي تحصل على عديد من المنح إلى مصر في العام 1953 إبان رئاسة الشيخ عبدالله علي الحكيمي له، وكانت أول منحة تضم أسماء رائدة منها ( سعيد الشيباني، وفتح الأسودي، وأحمد الشجني، وعبدالوهاب عبد الباري، وعلي الدعيس، ومحمد عبد الملك أسعد) ،وفي العام الموالي كانت بعثته الثانية التي استوعبت السقاقفة الخمسة إلى جانب محمد عبد الولي وعبدالله حسن العالم ، وانضم إليها في ذات العام محمد علي الشهاري، وسلطان أحمد عمر.
في قراءته للتكوين الباكر لمحمد عبدالولي في فترة القاهرة ، وهو ما يمكن أن يُسقط على كل زملائه القريبين ومنهم عمر الجاوي و أبوبكر السقاف ، يقول الدكتور علي محمد زيد في كتابه الثقافة الجمهورية :
" في سنة 1954 حصل على منحه للدراسة في مصر ومعه مجموعة من الطلبة الذين سيكونون فيما بعد من العاملين للتحرر من ظلام القرون الذي يهيمن على اليمن، ونجوما في المجال الثقافي، مثل عمر الجاوي وأبو بكر السقاف وخالد فضل منصور وأبو بكر باذيب. ومن الملاحظ أن المنحة الدراسية التي حصلوا عليها كانت إلى الأزهر وأنهم أقاموا في مدينة البعوث الإسلامية في القاهرة.
وحين وصلوا إلى مصر للدراسة كانت القاهرة في حالة غليان سياسي وثقافي . فهي السنة التي تحقق فيها جلاء القوات البريطانية من مصر ، وزوال آخر مظهر من مظاهر الاستعمار البريطاني لمصر. وهي أيضا السنة التي حُسِّم فيها الصراع بين قيادة الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة 23 يوليو 1952 وأنهوا الملكية وأقاموا الجمهورية على أنقاضها، لصالح صعود نجم جمال عبدالناصر بدعوته إلى القومية العربية ، وتوِّج هذا الصعود لمكانة مصر ولزعامة جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس سنة 1956 واستعادة مصر للسيادة عليها، ونجاح الدبلوماسية المصرية في التصدي للعدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على بور سعيد وانسحاب القوات المعتدية. وكان للاتحاد السوفيتي السابق ولحركة عدم الانحياز دور مهم في دعم صمود مصر وتصديها للعدوان.
وكان المتوقع أن يقع الطالب وزملاؤه إما تحت تأثير التيار الإسلامي بفعل دراستهم في الأزهر، أو تحت تأثير الحركة الناصرية التي كانت في أوج صعودها ، حتى حققت أكبر إنجازاتها بتوحيد مصر وسوريا وقيام "الجمهورية العربية المتحدة" سنة 1958 ، محققة حلم أجيال من القوميين العرب بوحدة أبناء الأمة العربية في دولة واحدة وتحت علم واحد لكنهم فاجأوا الجميع بانتمائهم لليسار، واقترابهم من الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في مصر المعروفة اختصاراً بـ"حدتو"، وهي حركة - يسارية سرية شارك ضباط منتمون إليها في تنظيم الضباط الأحرار الذي فجر الثورة في مصر، ومن أشهرهم خالد محيي الدين، ويوسف صديق.
وفي هذه الفترة برز مجموعة من - زملائهم - في الدراسة في القاهرة وفي حركة اليسار، مثل محمد أنعم غالب، وعبده عثمان، وإبراهيم صادق ، وهي المجموعة التي تولت قيادة "مؤتمر الطلبة اليمنيين الدائم في مصر" وأصدرت بيانا ما يزال يعد وثيقة تاريخية تجاوزت غموض حركة الأحرار المعارضة، وظل هذا البيان وثيقة تاريخية مهمة تمسكت به المجموعة اليسارية التي كتبته وأصدرته وناضلت في سبيل تحقيقه، وكان عمر الجاوي أكثر من اعتبره رسالة حياته كلها حتى غادر الحياة دون أن يتخلى عن قناعاته الوحدوية على الرغم من التراجعات والانهيارات السياسية التي شهدتها البلاد."
أمام هذه الجزئية توقف أيضاً الدكتور أحمد القصير في كتابه ( اصلاحيون وماركسيون) حين قال:
" اسهمت الحركة الطلابية اليمنية في مصر بدور اتسم بالريادة فيما يتعلق بقضية الوحدة اليمنية ، فقد طرحت تلك الحركة مفهوم الوطن الواحد ووحدة التراب اليمني ؛ وكانت أول حركة سياسية يمنية تضم جميع أبناء اليمن الطبيعي.
كانت التنظيمات السياسية اليمنية تعمل ، في ذلك الوقت، في اطار واقع يقوم على تجزئة البلاد وتقطيعها ما بين الاستعمار والإمارات في الجنوب والإمامة في الشمال، غير أن الحركة الطلابية اليمنية تجاوزت ، منذ إنشائها هذا الواقع على مستوى كل من الفكر والممارسة ... كما أسهمت أعداد ليست قليلة - من المنتمين إليها- بفعالية في النشاط العام الذي كان يجري في مصر وفي تلك التطورات ذاتها ؛ وكان ذلك من خلال انضمامهم إلى منظمة ( الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني ) المصرية المعروفة باسم (حدتو)؛ وهو ما أكسبهم معرفة ونضجاً وأغنى تجربتهم . وكان قادة الحركة الطلابية اليمنية بمصر يحرصون دوماً على أن يسخِّروا وعيهم وخبرتهم لخدمة قضية مستقبل اليمن ووحدته"
لم يصل قادة العمل الطلابي إلى العام 1959 الا وكان ناشطيهم من صفوف اليسار على راس قوائم المخابرات المصرية، التي قامت بملاحقتهم ، وطردهم من مصر و كان أبرز المطرودين " عمر الجاوي ومحمد عبد الله باسلامة، ومحمد جعفر زين السقاف " ، فلم يجد بعض زملائهم من وسيلة للاحتجاج غير التضامن مع المطرودين بالعودة إلى الداخل اليمني ومن المتضامنين العائدين كان: أبوبكر السقاف ومحمد أحمد عبد الولي وعلي حميد شرف وحمود طالب وأحمد الخربي و عبد الله صالح عبده و عمر غزال ونجيب عبد الملك أسعد و عبد الرحمن البصري وعلوي جعفر زين و خالد فضل منصور، وآخرين ".
عودة الجاوي ورفقيه المطرودين، ولاحقاً بقية المتضامنين إلى تعز، شكلت محطة جديدة في تجربة التكوين عند الجاوي ، اذ ستتصادف مع اقامة المفكر اليساري عبدالله عبد الرزاق باذيب فيها أثناء اصداره لصحيفة الطليعة ، بعد طرد السلطات الاستعمارية له من عدن، فاستغل الجاوي هذه الفرصة لنشر العديد من المقالات والمواد الصحافية في الصحيفة ذات التوجه اليساري
لمدة عام بقي الجاوي وصحبه في تعز يتابعون منح دراسية ، حيث عمل ولي العهد (محمد البدر) ، وبعد مراسلات و تظلمات ، وبعد موافقة والده المريض في ايطاليا ، على إعادة ابتعاثهم للدراسة الجامعية في عدد من دول المعسكر الاشتراكي مثل روسيا وألمانيا ، ومن الذين اُبتعثوا: محمد جعفر زين الى المانيا الشرقية لدراسة القانون ، و أبوبكر السقاف و عمر الجاوي ومحمد عبد الولي وعبد الله حسن العالم الى موسكو ، فتخصص الأول بالفلسفة والثاني بالصحافة والثالث هرب من الهندسة الى الآداب أما الرابع ( العالِم) فدرس العلوم السياسية والاقتصاد في جامعة موسكو.
تخرج الجاوي من كلية الصحافة في جامعة موسكو صيف العام 1966 حاملاً درجة الماجيستر عن رسالته الموسومة ( الصحافة النقابية في عدن) لكن قبل ذلك كان قد عاد إلى تعز في العام 1963 حيث عمل مدرساً ومترجماً في المركز الحربي، وعن هذه المحطة يقول سلطان أحمد زيد في كتابه ( محطات من تاريخ حركة اليسار في اليمن):
" أتذكر حينها وصل إلى تعز من كانوا يوصفون "بالحُمر" أصحاب الهامات المرتفعة ذات الوزن والثقل الثقافي والفكري - كما كنا نطلق عليهم - وهم: الجاوي عُمر، والسقاف أبوبكر، وعبد الله حسن العالم، وحسين السقاف من موسكو تاركين دراستهم وملتحقين بمسار موكب الثورة ومدها بكوادر من الشباب مثلهم مثل شباب البعث يحي الشامي، وسيف أحمد حيدر، الذين وصلوا من القاهرة. فقد كان يقوم الجاوي ورفاقه بمهمة الترجمة للخبراء السوفييت."
فترة التكوين الباكرة لعمر الجاوي ارتبطت بدرجة رئيسة بالتعليم الحديث، الذي تحصل عليه أولاً في المدرسة المحسنية في حوطة لحج ، بمدرسيها العرب المستنيرين حين كان طالباً بها مطلع الخمسينات، وتالياً بالتعليم العصري الذي نعم به في المدارس والكليات المصرية في ذروة المد الناصري ، والذي كان يمثل القيمة المتعاظمة لتأسيسات الخطاب العام الذي تشربه مع صعود حركة التحرر الوطني بعيد الحرب العالمية الثانية ، وثالثاً بدراسته للصحافة في جامعة موسكو في ذرة الاستقطاب الأيديولوجي ، لهذا كان من الطبيعي جداً أن يصير الهم الوطني على رأس شواغل الطالب المتمرد ، الذي لم يكل أو يمل طيلة حياته من مقارعة الاستبداد والقوى الرجعية المعيقة لبناء الدولة وتطور المجتمع.
( يتبع) المقال خاص بموقع المهرية