آخر الأخبار

من "دولة الهادي وفكره " الى "الثقافة الجمهورية" في اليمن !!

الأحد, 13 ديسمبر, 2020

في عام 1981 أصدر الدكتور (علي محمد زيد) كتابه المعروف " معتزلة اليمن ودوله  الهادي وفكره "، وكان محتوى الكتاب في الأصل  موضوع رسالته العلمية  لنيل درجة الماجيستر  من قسم الفلسفة  في الجامعة الأمريكية ببيروت ؛ من هذا الكتاب  بدأت علاقتي بالمؤلف كقارئ أواخر ثمانينيات القرن الماضي ، وحتى الآن لم أزل أرى فيه ، بموضوعه الفكري الإشكالي ، ومنهجه العلمي الرصين  واحد من كتب التكوين الباكرة،  التي لم تزل تفعل وبعمق في ذاكرتي منذ ملامستها الأولى.


أتذكر من هذا الكتاب، بعد ثلاثين عاماً ، تطوافه  البديع وبلغة رشيقة  في النشأة التاريخية للزيدية، وعلاقتها الباكرة بالمعتزلة ، ودور القاسم بن ابراهيم الرسي" جد الإمام الهادي" في اللقاء بين التيارين، الذي جعل من التلاقي بين الزيدية كحزب سياسي مناهض لنظام الحكم والمعتزلة كحركة فكرية أمراً ممكناً، إن  تغلبت على عثرة الحاضنة والمنهج والأتباع، وليس كما حدث في تاريخ اليمن الشائك.


الاستفاضة في تعريف المعتزلة والظروف السياسية والفكرية التي ساعدت هذه الفرقة على تكريس صوت العقل في مدرسة علم الكلام ، واحدة من أهم الاشارات الباكرة التي قدمها هذا الكتاب ، والاقتراب  من اسهامات رموزه في الحياة الثقافية والفكرية لقرون عديدة. أما مقاربة الاوضاع السياسية  والأحوال الاجتماعية والثقافية والاقتصادية قبل قدوم الهادي الى صعدة برحلتيه الأولى التي عاد منها خائباً بعد وصوله الى مشارف صنعاء، وعودته الى قرية في الحجاز، والثانية  التي كانت في 896 م بطلب من إحدى القبائل في صعدة التي دخلت في تنازع مع أخرى فهي جزء حيوي  من المعاينة التاريخية لأوضاع اليمن في تلك الفترة، وما تلاها من تحولات سياسية ومذهبية عميقة لم تزل تفعل فعلها في حياة اليمنيين حتى الأن.


بعد قرابة أربعين عاماً من اصداره هذا   قام المؤلف ،مع مطلع 2020 ، بإصدار كتاب"  الثقافة الجمهورية في اليمن" ، وبين الإصدارين قرابة عشرة عناوين في الترجمة والتأليف الفكري والتاريخي والأدبي، ومن هذه الكتب «تيارات المعتزلة في اليمن في القرن السادس الهجري»، وروايتي «زهرة البن» و«تحولات المكان»، وكتاب أحمد محمد نعمان «السيرة الثقافية والسياسية» إلى جانب ترجماته الرائدة من الفرنسية والإنجليزية لكتب مثل: «فن الغناء الصنعاني» و«اليمن المعاصر» و«المخلاف السليماني».


كتاب «الثقافة الجمهورية في اليمن» بمحتواه المتنوع هو إجابة طويلة ومتشعبة عن سؤال أطلقه بعض الشبان الذين التقاهم المؤلف ويُختزل في «ما الذي صنعته جمهوريتكم؟»، وفي تمهيد لهذه الإجابة، التي صارت في ثنايا الكتاب وقفات على أهم تمثيلات التحول الثقافي نحو التجدد والانفتاح.


في مقاربته لموضوع العزلة والانغلاق في «الفصل الأول» اعتمد المؤلف بدرجة رئيسة على كتاب أمين الريحاني «ملوك العرب» وكتاب الطبيبة الفرنسية كلوديا فايان «كنت طبيبة في اليمن» لتقريب تلك الصورة البائسة، بوصفهما من أهم الكتب التي صورت حال العزلة والانغلاق والتخلف في اليمن، التي فرضها الإمام يحيى وأبناؤه في ثلاثة عقود كاملة، واستشهد أيضًا بآراء لمحسن العيني ولمحمد سعيد العطار ولأحمد حسين المروني في الموضوع نفسه.


هذه العزلة وهذا الانغلاق انعكسا بدورهما وفي شكل مباشر على الحياة الثقافية، فصار الأدب تقليديًّا، استتبعها ضمور في حركة التأليف والنشر «فظلت الحركة الثقافية راكدة بركود الحياة العامة كلها في مملكة «النفق المظلم»، وكانت الكتب الجديدة تُهرَّب كما تُهرَّب المخدرات، وتُتَدَاوَل سرًّا».


الفصل الثاني خصصه المؤلف بالكامل للمنجز الشعري والنثري لمحمد محمود الزبيري، بوصفه حال مجسم لتحول المثقف الخارج من براثن العزلة والتقليد، وكيف صار شعره ونثره الفني «ثورة الشعر» والسردي «بلاد واق الواق» معبِّرًا عن خطاب الاستنارة والمقاومة التي أحدثتها حركة الأحرار اليمنيين منذ تأسيس حزب الأحرار في عدن في عام 1944م، الذي كان الزبيري ومعه الأستاذ النعمان على رأسه منذ إفلاتهما من سيف ولي العهد في تعز.


«دور مستعمرة عدن في التغيير الثقافي في اليمن» كان عنوان الفصل الثالث من الكتاب، وفيه تتبع المؤلف دور الجمعيات والاتحادات والنقابات والأحزاب التي نشأت في المدينة، والتي لعبت أدورًا في التحول الذي شهدته مناطق الشمال اليمني ومناطق المحميات الشرقية والغربية ذاتها، فمن نشاط الجمعيات والنوادي قبل قيام الجمهورية كان «تهريب الكتب والمطبوعات إلى الداخل، فكانت القناة الرئيسية لتسرُّب المواد الثقافية ولنشر الوعي بالحاجة إلى التغيير وأن هذا التغيير لا يقبل التأجيل، وحين حدث التغيير الجمهوري تدفقوا بالآلاف لنصرته والوقوف بجانبه والتضحية في سبيله». وتتبع أيضًا دور المطابع الحديثة في إنتاج وتسويق الأدب الجديد من قصة ورواية ومسرح، حيث شهدت المدينة ولادة أول رواية «سعيد»، وأول مجموعة قصصية «أنت شيوعي»، وعرضت فيها أول مسرحية في العشرينيات، «وقد كان من الطبيعي أن يكون ظهور القصة القصيرة والرواية مرتبطًا بازدهار الصحافة الليبرالية الحديثة في عدن ابتداء بصحيفة «فتاة الجزيرة» ومطبعتها حتى تعدد الصحف في الخمسينيات والنصف الأول من الستينيات. فليس من الممكن أن تزدهر القصة القصيرة والرواية في مجتمع تقليدي منغلق لا وجود لحركة ثقافية فيه».

النعمان الابن «محمد أحمد نعمان» وتجديد اللغة السياسية ودعوته الباكرة للجمهورية، هو عنوان «الفصل الرابع» من الكتاب، فهو يرى في «محمد أحمد نعمان سياسيًّا يمنيًّا مميزًا قام بدور مهم في التغيير السياسي والدعوة إلى تجديد الفكر السياسي في اليمن الحديث. فقد جمع بين السياسي المحنَّك المحاور اللبق المناوب من جهة، والمفكر السياسي المبتكِر للمفاهيم السياسية الجديدة، المبادِر الصريح من جهة أخرى، وهما صفتان إذا اجتمعتا كانتا مصدر تنازع وعدم رضى أو سوء فهم من الآخرين أحيانًا».


«إصدارات رائدة أثَّرت في تكويننا الثقافي» هو عنوان الفصل الخامس من الكتاب، وفيه قام بمقاربات فكرية ونقدية، لكتب «ابن الأمير وعصره»، و«التخلف الاقتصادي والاجتماعي في اليمن» لمحمد سعيد العطار، و«اليمن» و«غريب على الطريق» لمحمد أنعم غالب، و«طريق الثورة اليمنية» لمحمد علي الشهاري، و«نظرة في تطور المجتمع اليمني» لسلطان أحمد عمر، و«دراسات فكرية وأدبية، وكتابات» لأبي بكر السقاف.
«الفصل السادس» خصصه المؤلف لقضية التعليم من زاوية كون انعدام التعليم ظل رمزًا لغربة نظام ما قبل الجمهورية عن العصر الحديث، ويرصد في تتبعه لبشائر الخروج من السجن الكبير ومنها بعثة العراق 1936م التي قال عن نتائجها: «إن استنارة بعض أعضاء هذه البعثة قد كانت عميقة ومدهشة بحيث ظل بعض أفرادها يثابرون في العمل من أجل التغيير ويدخلون السجون ويخرجون ليواصلوا نضالهم دون تراجع». وعن مخرجات بعثة الأربعين إلى لبنان ومصر 1947م قال: إنه حين قامت الجمهورية اعتمدت على الكثير من هؤلاء الطلبة المؤهلين في البناء الجمهوري الجديد.

 
محمد الشرفي نموذجٍ للتمرد على الثقافة التقليدية، هو كل ما يمكن أن يقوله «الفصل السابع»، وفيه ينجز المؤلف قراءة نافذة للتجربة الشعرية والمسرحية للشاعر محمد الشرفي، الذي نذر شعره الباكر لنصرة قضية المرأة وتحديدًا في مجموعته الرائدة «دموع الشراشف» وأن ما أنجزه من نصوص مسرحية باكرة وكتبها شعرًا تارة على نحو «في أرض الجنتين» أو نثرًا في نص «حارس الليالي» صنَّفته كأحد رواد الكتابة المسرحية في اليمن. في الفصل الثامن من الكتاب الذي كرَّسه لقراءة تجربة رائد القصة القصيرة في اليمن «محمد أحمد عبدالولي» تحت عنوان: «القصة القصيرة وتطوير النثر في اليمن» يقارب وبكثير من الفحص النابه التأثيرات النفسية والثقافية للكاتب المولود في أحد أحياء العاصمة الإثيوبية في عام 1939م لأم إثيوبية وأب من المهاجرين اليمنيين. وبعد طفولة قصيرة في بلد المولد يؤتى به إلى قرية الأب، ثم يعود بعد سنوات قليلة مرة أخرى إلى موطن الأم لمواصلة دراسته، وحين ينتدب للدراسة الأزهرية في العاصمة المصرية منتصف الخمسينيات، يبدأ تشكل وعيه السياسي في إطار اليسار، وفي تلك الحقبة سيبدأ بكتابة القصة القصيرة التي تلتقط أفكارها من قساوة الحياة، ولن تصل إلى نضجها الباكر إلا في عام 1958م بنصوص متفرقة كتبها في الغالب في القاهرة قبل طرده مع مجموعة من أقرانه، بتهمة الشيوعية، وستتواصل إلى أوائل الستينيات حينما يستقر في موسكو طالبًا في معهد غوركي للأدب، بعد تركه لمنحة دراسة الهندسة، ومعظم هذه النصوص ستؤلف مجموعته القصصية الأولى «الأرض يا سلمى» التي أرست أساسًا متينًا لميلاد كاتب فنان، وتوطد في الحياة الثقافية اليمنية تيارًا جديدًا في النثر الأدبي مغايرًا تمامًا للموروث التقليدي الذي ساد الحياة الثقافية اليمنية قبل قيام الجمهورية.


الفصل التاسع حمل عنوان «بيان الشعر الجديد في اليمن»، عادًّا مقدمة الديوان المشترك للشاعرين عبده عثمان محمد وعبدالعزيز المقالح المعنون: «مأرب يتكلم» الصادر في عام 1971م، وكتبها الأخير بمنزلة اللحظة الفاصلة بين مرحلتي التقليد والتجديد في الشعر اليمني، وهي التي اختزلت أحلام جيل السبعينيات الشعري بتمرده وتجديده .


 فقد كانت «وثيقة يمنية ثقافية تاريخية فارقة في تطور الشعر في اليمن. فقد عرضت بحماسة واقتناع ووعي كل الحجج التي دارت خلال الصراع بين القديم والجديد في الثقافة العربية ونقلتها إلى الحركة الثقافية في اليمن، وزودت كل من يتعاطف مع تطور فن الشعر أو يتفهمه بأدوات نقدية جديدة وبدفاع مجيد يستطيع أن يستند إليه في الدعوة إلى التغيير في فن الشعر في اليمن لمواكبة التغييرات التي بدأت البلاد تشهدها وبخاصة في المجال السياسي، بالانتقال من نظام العزلة والانغلاق والتخلف إلى النظام الجمهوري بوعوده للتغيير والتطوير. وترافق كل ذلك مع وصول اليسار في عدن إلى الحكم وما أطلق في حينه من آمال عراض ووعود حالمة».


آخر فصول الكتاب خصصه المؤلف لـ«الإسهام الأهلي في تجاوز الركود الثقافي»، الذي ابتدأ من وجهة نظر المؤلف بمبادرة محمد عبدالولي حين اشترى عام 1970م مطبعة كان يمتلكها أحد أصحاب الصحف الأهلية في عدن، وأسس في تعز دار نشر سماها «الدار الحديثة للطباعة والنشر» وبدأ بإصدار الكتب ذات التوجه الجديد. النموذج الثاني للإسهام الأهلي كان مجلة الكلمة التي أصدرها في مدينة الحديدة أواخر عام 1971م محمد عبدالجبار سلام، وبدأت تستكتب من استطاعت من الشعراء والنقاد والكتاب والصحافيين اليمنيين.. أما مجلة الحكمة التي أعاد عمر الجاوي إصدارها في عدن باسم اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في عام 1971م فهي الإسهام الأهم في تلك المرحلة، «ولم يكن اختيار اسم «الحكمة» مصادفة، بل يرمز إلى مواصلة هذه المجلة الجديدة لدعوة التنوير التي حاولت الحكمة القديمة بثها في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين. وكانت الحكمة الجديدة في الواقع منبر الجاوي الذي جعله حاضرًا في قيادة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وفي الحركة الثقافية اليمنية والعربية».


كتاب «الثقافة الجمهورية في اليمن» هو إسهام مهم لإعادة التعريف بأهم المحطات الثقافية ورموزها من أشخاص وجهات في تاريخ اليمن الجديد، الذي ولد من قيام الجمهورية على أنقاض حكم ثيوقراطي استبدادي مغلق؛ لأن الكثير من هؤلاء بدأت ليست سيَرهم فقط ، وإنما إسهاماتهم في التحول،  بالإنطمار والنسيان.
المقال خاص بموقع المهرية نت

لماذا يشوهون عدن الجميلة؟!
الأحد, 10 ديسمبر, 2023
الجبايات بموازين حسَّاسة!
الأحد, 26 نوفمبر, 2023