آخر الأخبار
الموتُ حين يعيد التذكير بسيرة القريبين منا حدّ الذوبان !!
قبل أيام قلائل نشرَ سيرته الشخصية والمهنية والابداعية ، ثم اتصل بي لمعرفة رأيي بها؛ لم يكن صوته متعباً الا بحدود ما أعرف من متاعبه المستديمة التي تعايش معها طويلاً، ولم تقف، خلال أربعة عقود، عائقاً أمام طموحه ككاتب مخلص لمشروعه الإبداعي الكبير، ولمهنته كمعلم للغة الانجليزية في إحدى مدارس قريته البعيدة.
لم ينقطع تواصلنا منذ سنوات، وكان يعمل باستمرار على كسر عزلته التي تفرضها عليه متاعبه، فكان الهاتف المحمول وسيلة تواصله الأول مع الاصدقاء، ثم أنشاً صفحة شخصية له في "الفيس بوك" ، قبل أن يأخذه الـ "واتس آب" الى عوالمه الواسعة، ومكّنه من استعادة الكثير من مبادراته الابداعية ، ومنها إنشاء صفحة مهمة كمنتدى باسم الراحل الكبير "محمد أحمد عبد الولي" ، خلقت تفاعلاً وحراكاً شديد الخصوصية بين أعضائه الكثيرين من كتاب القصة والرواية والمهتمين بقضايا الأدب.
تعرفت عليه أول مرة بعد إتمامي خدمة التدريس الإلزامي صيف العام 1987 في منزل الصديق عبده محمد سيف في حارة الأصنج بمدينة تعز، حين كان ينشر عموداً يومياً ذائعاُ اسمه " نافذة" في صحيفة الجمهورية ، وكان اسمه يتردد كثيراً في أوساط الأدباء والكتاب بوصفه أحد أهم كتاب القصة القصيرة الشبان في البلاد ، وإن قصتين من قصصه القصيرتين فازتا ولعامين متتالين في مسابقة كان ينظمها المركز الثقافي في المدينة عامي 1978 و 1979 ، حينما كان لا يزال طالباً في مدرسة الثورة الثانوية ، وبعد عامين فازت احدى قصصه بالمركز الأول في مسابقة للقصة القصيرة نظمتها جامعة صنعاء في السنوات الأولى لتولي الدكتور عبد العزيز المقالح رئاستها, حين صار طالباً في كلية الآداب، وهذه القصة في الغالب هي قصة "انتظار" التي قامت الدكتورة سلمى خضراء الجيوسي بترجمتها باكراً ضمن قصص عربية أخرى، لهذا يعتبرالجيوسي واحدة من أساتذته الكبار الى جانب "عبد الباري طاهر، و عبد الودود سيف ،و محمود الحاج ، و محمد عبد الرحمن المجاهد ، و محمد لطف غالب ، و صالح الدحان ، و د عبد العزيز المقالح ، و د رجاء عيد ، و د يمنى العيد" كما ترد الأسماء مرتبة في سيرته.
لم يستمر طويلاً في صنعاء ، طالباً في جامعتها ، وقرر العودة الى تعز والتفرغ للكتابة الصحافية في صحيفة الجمهورية ، ويواصل نشر نصوصه الأدبية " السردية" في مجلات الحكمة واليمن الجديد والثقافة الجديدة والمعرفة والصحف السيارة الأخرى وعلى وجه الخصوص "ملحق الثورة الثقافي" . فترة تعز هذه صقلته كثيراً ، وكانت تلمذته على يد محمد عبد الرحمن المجاهد و مزاملته للمرحومين عبد الحبيب سالم مقبل وعبد الله سعد محمد، وعزالدين سعيد أحمد وعلي عبد الجليل المقري غيرهم أثرها العميق في تكوينه المهني.
في تلك الفترة ، وفي ذروة انتشارها ، قامت مجلة "اليمن الجديد" بنشر روايته المميزة " شارع الشاحنات" في حلقات متتابعة، بين عامي 1985، 1986 وهي الرواية التي ستعمده كاتباً سردياً عالي القيمة والتجديد في اليمن. وإن نصوصه القصصية المتفرقة هي التي ستشكل مجموعته " تحولات الجدار" التي نشر نصوصها في المجلات والدوريات اليمنية خلال أعوام، ولم أتحقق من ظهورها مطبوعة بشكل مستقل الا فيما اُلحق منها فيما بعد برواية شارع الشاحنات ، وعن هذه الفترة قال عز الدين سعيد أحمد: " محمد سعيد سيف صديق العمر والتعب الجميل وأبرز كتاب القصة في جيلنا ، تقاسمنا الحلم وطاولة الكتابة في صحيفة الجمهورية ، ومجلة المعرفة ، واتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين .. أجمل ما قدمت اليمن للحرف الملتهب"
كتب لي الصديق علي المقري عن فترة عودته إلى تعز قائلاً: "سكنا معاً في تعز ، وكتب في تلك المرحلة في اليمن الجديد. كان وقتها قد ترك الدراسة في جامعة صنعاء وعاد إلى تعز حوالي 1984 أو 1985، قبل أن يعود إلى صنعاء ويكمل الدراسة بها في وقت آخر . طبعاً كنا نحصل على انتاج فكري فقط من الصحيفة وليس توظيفاً. وحينها أسسنا نادي للقصة في تعز مع عبدالكريم المرتضى وعز الدين الأصبحي وعبدالاله سلام ونصر الجهيم (واحد اختفى)، وأنشطته كانت في فرع الاتحاد في منزل محمد عبدالولي. وكان محمد يكتب بشكل يومي في الجمهورية ؛ وقتها كان المخبرون الصحافيون يرهقونه جداً حتى في النقاشات لأنه لا يخفي اشتراكيته .. طبعا كان من أبرز من تنشر قصصهم في الملحق الثقافي للثورة في السنوات الأولى من الثمانينيات مع عارف الحيقي وأحمد محمد العليمي. وكان نشطاً في السجال السياسي ، وبالذات بعد أحداث 13 يناير حيث جاء الشاعر الراحل نبيل السروري من صنعاء إلى تعز ومعه بيان حول الحدث ، ووقتها عملت أنا وهو مقابلة مع نبيل نشرت في الجمهورية "
بعد تركه لتعز أواخر الثمانينات عاد الى صنعاء ، وبإصرار جبَّار استكمل متطلبات مواده الجامعية ، بعد عقد كامل من تركه للدراسة في كلية الآداب، وهذه المرة استكملها في كلية التربية - قسم اللغة الانجليزية ، وهو على عتبة الخامسة والثلاثين من عمره.
بعد أن وضعت حرب صيف 94 أثقالها، وهي التي أحدثت في روحه ثلمة حادة وغائرة عاد للاستقرار في قريته " جَنِّنْ" في منطقة بني شيبة الغرب للعمل كمعلم لطلاب الثانوية هناك؛ وبعد خمسة أعوام من استقراره في قريته قامت مجلة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين المركزية " الحكمة" وبمبادرة من رئيس تحريرها آنذاك الشاعر الراحل محمد حسين هيثم بإصدار روايته " شارع الشاحنات" اعتماداً على نشرها المتسلسل في مجلة اليمن الجديد أواسط الثمانينيات ، وبسبب خطأ تقني في أحدى الحلقات المنشورة، بتداخل نصه مع نص القاص الراحل عبدالله بامحرز المعنّون بـ " حقول الإسفنج" نشرت الرواية بهذا الاعتوار الفظيع في طبعتها الأولى، لكن أمر هذا الخطأ تم تداركه في الطبعة الثانية التي صدرت عن اتحاد الأدباء والكتاب في العام 2004، وملحقة بها مجموعة من النصوص القصصية تحت اسم "تحولات الجدار" التي كانت تظهر في سيرة الراحل باعتبارها مجموعة قصصية مستقلة.
ولم تبهت أفكاره ومبادراته ، حتى وهو محاط بالإحباط الشديد من محيطه.. مثلاً اتصل بي قبل ثمانية أعوام ، وطلب من مساعدته في اصدار نشرة طلابية يقوم طلابه في مدرسة الإصلاح " من الاناث والذكور" وزملاؤه من المعلمين بتحرير مادتها ، وإن الصديق "محمد عبده الشيباني" سيتولى تمويل طباعتها، وحين رحبت بالفكرة أرسل لي مع " طَبَل" القرية بظرف كاكي كبير به مجموعة كبيرة من المواد للطلاب والمعلمين ، فقمت بمساعدة ولدي تميم بصفِّها وإخراجها وتصحيحها ودفعها للطبع، وبعد أيام وصلتني منه رسالة شكر وثناء ، وتكرر الأمر مع عددٍ ثانٍ؛ وكان المزاج العام للنشرة أدبياً صرفاً، مع إفراد مساحات تربوية لخدمة الهدف من إصدارها ، وبواسطة هذه النشرة قدَّم العديد من طلابه النجباء ككتاب وأدباء في أول الطريق.
عن محمد سعيد سيف أتحدث ، وأكتب عن ابن لبلادٍ اسمُها اليمن ، تعلَّم في مدارسها بتعز" الثورة والزبيري" وعدن " كلية بلقيس" وجامعتها في صنعاء، وظل يحملها على ظهره الصغير محباً وعاشقاً .. فظهرت في كتاباته بذات ملامح شخوصه البسطاء والمنهكين، الذين كان يلتقطهم من هامش الوقت وفيوض الأحلام وانهدام المشاعر.. كتب عن عمال المطاعم الذين قاسمهم مراقدهم على أسطح المنازل ، حين كان طالباً يقيم في منطقة المصلى بتعز، كتب عن الثوريين الذين خانتهم الأحلام بعد أحداث يناير.. كتب عن العشاق الذين ارادوا صنع وجه آخر للعالم ولم يستطيعوا أن يرفوا كعصافير فصار هو العصفور تبعاً للقب الذي كان يُطلق عليه من قبل أصدقائه ؛ كتب عن القرويين الذين ينتمى لأحد قراهم الفقيرة.. عن المتشردين من أصدقائه كتب الكثير.
بقيت الأوضاع التي تمر بها البلاد تؤلم هذا الابن الجليل حتى آخر لحظة من حياته ، وقد أطلق ذات وقت من العام المنقضي" 30 يوليو 2019" نداء لإيقاف الحرب إنقاذاً لليمن من التمزق والضياع: "أنا محمد سعيد سيف الشيباني ، من بني شيبه الغرب و أعمل مدرساً لمادة اللغة الإنجليزية في مدرسة منطقتي و أمارس كتابة القصة القصيرة و الرواية و المقالات و الأبحاث الأدبية و الاجتماعية و السياسية منذ زمن طويل ، قضيتي الآن هي السلام ، إنقاذ اليمن من الحروب و الاقتتال و التمزق و الضياع ، لست وحدي في ذلك على أية حال، و أدعو الأدباء و الكتاب و الفنانين و المثقفين و المبدعين جميعاً إلى رفع أغصان الزيتون عالية فوق رؤوسهم و النضال من أجل السلام"
"محمد سعيد سيف" كان معي باستمرار، لم ينقطع تواصلنا مطلقاً ، وأزعم أني أعرف عنه كمبدع وإنسان الشيء الكثير، وبقي كإسمٍ كبير في بالي طويلاً، أريد الكتابة عن منجزه في أي لحظة، و في كل مرة كنت اُرحِّل جملة الأفكار التي أكوِّنُها باستمرار الى وقت أفضل ، ولم أكن أتخيَّل أن الموت سيختطفه بغتة، رغم معرفتي بمتاعبه الكثيرة .
آه ... وحدك أيها الموت من يذكُّرنا بمن نحب ، حتى وهم قريبين منا حدّ الذوبان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقال خاص بموقع المهرية نت