آخر الأخبار
السؤال القديم الجديد ... هل أنجزت الحرب وظيفتها في اليمن ؟!
من الوظائف الرئيسية للحروب، عبر التاريخ، أنها تفرض واقعاً جديداً داخل جغرافيا التصارع، مُنتجة في تجليها العُنفي حدثًا تأسيسيًا في حياة الشعوب كما يقال. وإن "المبدأ العام الذي كانت تقوم عليه أنها لم تكن هدفًا في حد ذاتها، بل هي وسيلة من أجل وضع قانون، وخلق واقع ونظام اجتماعي بديل".
ولتبرير قيامها دائماً ما يرفع قارعوا طبولها، الشعارات المشبَّعة بالصياغات الأخلاقية، التي تجذب إليها أدوات القتل ومفاعيلها، وفي مقدمتها القوى البشرية، التي تذهب إليها مطمئنة ،مدفوعة بما تراه حقاً وواجبا.
الحروب القائمة في المنطقة، بما فيها الحرب في اليمن، تخلصت من موجهاتها ومشغلاتها التاريخية ،وفي مقدمتها فكرة النُبل، التي ترى في الحرب " الشر الكامل الذي يتوجب تجنبه، وإبعاده عن حياة الناس، لكنها حين تصير واقعاً لا مفرَّ منه ينبغي على المتحاربين اخضاعها لضوابط أخلاقية شديدة". غير أنها تخاض الآن بدوافع غريزية منفلتة، هي خليط من التعصب والتكسب والاستبداد والعبث والجُبن .
فالحرب التي أشعلها "الحوثيون وصالح" ابتداء من صيف 2014من أجل هدف، بدا لكثيرين نبيلا في تأسيسه: "إسقاط الجرعة والحكومة الفاسدة وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني" صارت حربا من أجل الحرب ذاتها، تتوسل السلطة بالقوة ،وهو ما تم بفعل الانقلاب الذي اكتملت أركانه في فبراير 2015 الإعلان الدستوري.
هذه الحرب استدعت بدورها حرباً خارجية أعم وأشمل، رفع أصحابها بدورهم شعارات تبريرية جاذبة للاصطفاف تحت لافتاتها، على نحو "إنهاء الانقلاب وإعادة الشرعية الى الحكم"..
غير أنه و بعد ستة أعوام من اشتعالها ،لم تزل الحرب ( الباردة والساخنة) تعتمل في كل الجغرافيا، ولم تزل تُخاض تحت شعارات مُبرَّرة، داخل مكونات الإستقطاب فيها.
تحالف الحرب الداخلي الذي بدأ" صالحوثياً"، وانتهى سلالياً خالصاً بعد التخلص من الحليف صالح في شتاء 2017 ، وبعد استنفاده لشعار التأسيس الأول، الذي عرَّاه وكشف زيفه الإنقلاب واستباحة المدن في الشمال والجنوب، صار يرفع شعاراً وطنياً مراوغاً، لم يزل قادراً على تأطير المحاربين وتنظيمهم تحت مشغلاته التحفيزية : "مجابهة العدوان والحفاظ على وحدة التراب اليمني ومكافحة الإرهاب والتطرف ( محاربة الدواعش) ".
غير أن هذا الشعار تحول إلى قناع، يخفي رغبات انتقامية فجة، من سكان المناطق المقاومة له، تتجلى في حصار المدن وقصف التجمعات والأحياء السكنية فيها، مثلما يحدث حتى اليوم في مدينة تعز، وأيضاً الانتقام من إرث الحركة الوطنية اليمنية وتاريخ ثورتها السبتمبرية الرائدة، التي أخرجت اليمنيين من ظلمات القرون التي أغرقتهم فيها الإمامة ، ويحاولون استعادتها اليوم بشعارات الخرافة، التي تجد لها منافذ كثيرة للوصول الى أتباع ملبوسين بالجهل والتعصب.
وفي المقابل لم يستنفد "التحالف السعودي الإماراتي " شعاره الرئيس الذي يُبرِّر له خطاب حلفائه في الداخل ، والمستنفعين من استمرار الحرب. هذا التحالف مستمر في عملياته العسكرية المشبوهة، التي لم تزل تحصد الضحايا من المدنيين، ولا تحدث فوارق حقيقية مع بنية الانقلاب، التي لم تسقط حتى الآن، بل وتتعزز أكثر ؛ والشرعية ، التي جاء لدعمها بحسب خطاب التبرير ، هي الأخرى ، لم تجد لها موطئ قدم فعلي في داخل الأراضي اليمنية، بما فيها العاصمة المؤقتة عدن، التي تحولت، مع تقادم سنوات الحرب والدم، إلى عنوان بارز للإنقسام والفوضى وتغذية الكراهية، من قبل قوى انعزالية، تتوسل السلطة ببيع الوهم، لقاعدة جماهيرية عريضة مخدوعة، وبعد أن صارت ، عدن أيضاً، منذ أغسطس 2019 بيد المجلس الإنتقالي، الذي يحظى بدعم خاص من الطرف الثاني في التحالف، ولا يعترف في الأصل بالشرعية.
الحرب في اليمن لم تنته، بحسمها لصالح أحد الطرفين فيها ، لكنها بالمقابل استطاعت خلال ستة أعوام أن تنتج أسئلتها الخاصة وعلى رأسها السؤال المحوري :
هل أتمت وظائفها الرئيسة، وإن ما يجري على الأرض ليس أكثر من تنويع على التفاصيل؟
نعم الحرب أنجزت أهم وظائفها فقد عطلت السياسة، وأعادت ترسيم الجغرافيا بالدم، وهتكت النسيج الاجتماعي الهش ، وأحيت في المجموعات المتحاربة عصبويات ما قبل الدولة، وأنتجت صيغ تحالفية بديلة داخل المكونات الاجتماعية التاريخية. بمعنى أدق انها أنتجت أحداثها التأسيسية الجديدة في حياة اليمنيين. ومع كل ذلك لم تصمت مدافعها ، ولم تتوقف شلالات دم الضحايا، وغدا المواطنون محاصرين بالجوع والأوبئة والقتل المجاني. ومقدمات تفكك الجغرافيا أصبحت مكتملة الشروط ،وأوضح من أي وقت مضى.
السعودية توهم الجميع أنها اقتربت من تحقيق ما تريد في تأمين أمنها القومي في حدودها الجنوبية، وأنها أوجدت لها منافذ استراتيجية آمنة في محافظة المهرة وحضرموت، وقبلهما مأرب ، وتحاول جاهدة الإثبات لخصومها أنها وحدها من يمسك بالملف اليمني في الشمال والجنوب ،وقادرة على إعادة بناء تحالفاتها السياسية التاريخية ،من مدخل إضعاف الجميع بالحرب. والأهم من ذلك تسويق نفسها باعتبارها قوى إقليمية، تريد الاستمرار والبقاء برهانها على المركز الروحي للعالم الإسلامي ، وعلى قوتها الاقتصادية المؤثرة، وعلى قوة عسكرية "واعدة" لها خبراتها الميدانية في ادارة الحروب ،ولو من الباب اليمني الضيق، وهي موضوعات تتعرى يوماً بعد آخر بفعل ارتباكاتها الكبرى في إدارة ملف الحرب ، وبناء التحالفات ، كون خصومها الإقليميين في طهران والدوحة وإسطنبول، لم يزالوا ينتجون تحالفاتهم على الأرض بكثير من الحيوية، ويهيئون لها مستنقعاً شديد الإحكام.
أما الإمارات فقدمت نفسها، لمستخدميها الاقليميين، كقوى ناعمة قادرة على ادارة الفوضى الخلاقة بعسكرها، وبرموز ومرتزقة محليين يشتغلون بأموالها، لتنفيذ مخططاتها في إدارة "الثورات المضادة " وتفكيك الأوطان ، وأنها قادرة على منح رعاتها الجدد في "تل أبيب" الكثير من المزايا الاستراتيجية ، التي طالما حلموا بها، في البحرين العربي والأحمر والمحيط الهندي، أكثر مما يقدمه الحوثيون لحلفائهم الإيرانيين في ذات الممرات المائية الحيوية.
الحرب أتمت وظيفتها في اليمن، وما سنراه غداً ليس كثر من كيانات فقيرة مفككة على الخريطة ،تعمدت بدم الضحايا، وأحيت في الناس عصيبات ما قبل التعايش.
(*) المادة في تخطيطها الأول اُنجزت ونشرت في صيف 2017، والإضافات لتأسيساتها اليوم يجعلها ابنة وقتها تماماً، وربما ابنة الغد، إن ظلت الأمور على حالها في البلد المنسي.
(**) ينظر الفاهم محمد " باراديغم الحرب العالميّة الثالثة " ـ محاولة في تحديد مفهوم الإرهاب ـ موقع الأوان أغسطس 2013.
المقال خاص بموقع المهرية نت