آخر الأخبار

عن سؤال "فرانك مراميه" ونساء صبر ومدينة تعز!

الأحد, 08 نوفمبر, 2020

كتب لي ، منذ أيام ،  الروائي علي المقري مستفسراً عن  "متى  بدأ يتقلص دور نساء جبل صبر في المتاجرة  وبيع القات في مدينة تعز؟ " ،  بناء على طلب الباحث الفرنسي المعروف  فرانك مراميه ؛  فكتبت له بعض الأفكار، التي أوصلها بكل أمانة وباسمي شخصياً لمراميه   ، والذي بدوره اعتبرها معلومات مهمة ودقيقة ؛  ففي زيارتي الأخيرة إلى تعز وجدت بعض النساء ( الصبريات) المسنات لم يزلن يزاولن مهنة بيع القات.. طبعاً لم يعدن بذات الكثرة ، حتى القات  ذاته  صار يُستجلب معظمه  من أماكن غير جبل صبر،  الذي غدا إنتاجه شحيحاً  بسبب الجفاف ، وتآكل الرقعة الزراعية،  وهجرة مهنة الفلاحة،  حتى النساء الصبريات اللواتي لم يزلن  يبعن الفواكه وبعض محاصيل الجبل من البقوليات ، ويمكن مشاهدتهن في أسواق المدينة (المركزي وباب موسى وباب الكبير) يجلبن معظم  الفواكه من سوق الجُملة؛  وإن أغلب البائعات لم يعدن صبريات ينزلن الى المدينة ويعدن إلى قراهن كما كان يحدث في  الماضي ، فقد صار أغلبهن من قاطنات المدينة ، ويتزين باللباس التقليدي لنساء الجبل،  لإبقاء ذلك الرباط الوجداني  قائماً مع إرث الجبل وعلاقته بسوق المدينة".


كتبت بعدها مباشرة لعلي برغبتي في توسيع هذه الأفكار لتصير مادة مستقلة خاصة للنشر  فرحب بالفكرة ؛ وأبدأها هنا بالنفاذ مباشر إلى صلب السؤال الذي يبحث عن إجابة محددة  " عن وقت تقلص دور نساء جبل صبر  في المتاجرة وبيع  القات في مدينة تعز" ؟  ؛  وأظن أن أسباباً عديدة ، بالإضافة إلى ما ذكرناه، ساهمت في هذا  التقليص، ومنها تزايد واستكلاب الظلامية السياسية والاجتماعية  التي بدأت تتغلغل في الحياة العامة في المدينة ، وعموم اليمن منذ أواخر السبعينيات ، والتي تزامنت مع زيارة السادات للقدس وثورة الخميني في إيران  ومهاجمة جماعة السلفية الجهادية للحرم المكي ، أو ما عرفت بحركة جهيمان العتيبي ، وصولاً لاجتياح القوات السوفيتية لأفغانستان ، و تفجر حرب الخليج الأولى " الحرب العراقية الايرانية" ، وهنا أعود  بالضبط  لمادة مطولة  تنشغل  باستعادة صورة المدينة في تلك الفترة عنوانها  " الوقت بخطوات عجولة " تنشر على حلقات في منصة خيوط "؛ فقد كتبت في الجزء الثالث منها:
 "مع تباشير الثمانينيات، وبداية المد الأصولي ، بفعل الظاهرة الخمينية وتفشي الوهابية كوباء، بدأت هذه المظاهر تبهت شيئا فشئيا، حتى انطفأت، فلم تعد نساء الحارة يذهبن الى السينما ، والصبريات  صرن  صور باهتة ومقلَّدة  من نساء  في المدينة ، يجلبن بضائعهن من أسواق الجملة ويبعنها باعتبارها من منتجات الجبل، تماما كما كانت تفعل الصبريات الأصليات بالحُلي المقلدة ،التي كن  يلبسنها  للفت الأنظار إليهن ، وأن  بعض الأسر العدنية ذابت في  مزاج المدينة المنكفئ ، وأكثرها غادرت إلى مستقرات جديدة في الخليج وأوروبا"
 سبب ثان ٍ لهذ التقلص وهو استزراع مساحات  واسعة  بشجرة القات ، في مناطق لم تكن تزرع فيها أصلاً ، في أرياف تعز القريبة والبعيدة  ، ومع تعاط قطاع واسع من التركيبة السكانية  لهذه النبتة ، صار الطلب على القات الأكثر رخصاً ، والذي يباع في أسواق مزدحمة  لا يُشاهد فيها  نساء يزاولن مهنة البيع فيه ، وإن الأسواق التقليدية في المدينة والتي كانت تتواجد فيها مثل هذه البائعات ، فبالكاد تشاهد النادر منهن مفترشات الأرصفة والأزقة ،  يبعن قاتاً لا يتميز بجودة مختلفة عن المعروض  في السوق، ولا يختلف عنه الا بأثمانه المرتفعة قليلاً ،التي تطلبه البائعات أنفسهن.


سبب ثالث ،أقوله من باب التقريب الفكه ،  وهو أن التواصل بين أجيال البائعات بدأ يضمر ، بسبب أن المهنة لم تعد تُبذل أمام الفتيات الشابات لمواصلة مشوار الأمهات والجدات لعوامل  تتصل بمسارات الحياة وضغوطها " الزواج والتعليم والمنع" ، فصار كفاح المسنات أقرب تمثيلاً بشيخوخة الممالك  التي تصِّر على انتقال السلطة  في جيل واحد دون إتاحة  الأمر للأبناء والأحفاد  للاقتراب منها، فتصير سياسات هذه الممالك  الى الشيخوخة السياسية والترهل.


 الانفلات الأمني ، وسيلان الغرائز،  وتراجع الضوابط الأخلاقية في الشارع  أدت  الى  تعاظم الشعور بالخوف في أوساط النساء ، وعلى وجه الخصوص الشابات منهن وأسرهن،  فغدا الدفع بالفتيات في هذا الطريق محفوفاً بالمخاطر كما يقال تقعراً، وهذا سبب إضافي لهذا التقلص.   

    
تعز بدأت تتخلى عن إرثها  الثقافي ، والذي كان يتطرز بمثل هذه المناظر،  ومثل هكذا مهن ،  بفعل غمامة الحرب السوداء ، التي غطت ليس على العيون وإنما على الأفكار ، التي بدأت تُعلي من مقولات  العيب والمحرَّم.

 
أستعيد هنا  التعليق الذي كتبته  قبل أكثر من عام على كتاب أنور العنسي الذي أسماه (مرايا الأزمنة)، وتحديداً عن  الجزء المتصل  بالمدينة ، التي كانت قبلة اليمنيين بوصفها مركزا تنويريا واقتصاديا وجماليا مهما، مقارنة  ببقية مدن شمال اليمن في حقبة السبعينيات ، فكان ينظر الى العائدين منها إلى ذمار- المدينة التي نشأ فيها  العنسي -  بوصفهم كائنات من عالم آخر، يتحدثون عن النساء اللائي يدرسن ، ويعملن ، ويمارسن الرياضة ، ويمشين سافرات ، ويتحدثون عن السينما وأفلام القاهرة ودلهي وهوليوود.
وحين أتاها  العنسي مشبعا بالحنين ذاب فيها ليكشف عن تفاصيل جمالها الاستثناء من خضرة جبلها ومياه أوديتها ، عن طيب هوائها ،وأشجار الجهنمية ذات الأزهار الشفقية اللون المتدلية من أعلى أسوار الفلل الفخمة، وكانت تضعه في ما يشبه طقسا بديعاً لمدينة بعيدة ، أو جزيرة على البحر المتوسط او الكاريبي.


  وأكثر من دور تعز في حقب التنوير السياسي والاجتماعي منذ منتصف القرن الماضي كان يغريه ذلك المعنى الذي كادت تعز تعطيه للمدينة الحديثة، والصورة التي سعت لأن تجعل منها نموذجاً لمجتمعنا الجديد.


يحكي الفنان محمد محسن عطروش عن أغنيته ذائعة الصيت " يا بائعات البلس والقات"  أنه في أول زيارة له إلى مدينة تعز أواسط الستينيات من القرن الماضي  شدته  مظاهر الحياة المختلفة في المدينة التي كانت قبلة الثوار والمثقفين والمغامرين، ومنها  بيع نساء جبل صبر للقات والفواكه ، وبعد عودته الى "أبين"  بدأ يحكي لزوار مقيله عن المدينة  وعن نساء الجبل في حضور خاله الشاعر الراحل الكبير " عمر عبدالله نسير" الذي  انتحى جانباً ليكتب هذه القصيدة، وهو الذي لم يزر المدينة أصلاً ، واستلهمها من حديث الفنان العطروش :  
" يا بائعات البلس والقات/ يا حوريات يا نازلات من علالي الى البندر/ يا لابسات الذهب زينات/ يا سُعد من يشتري من صبايا صبر الاخضر/ في حسنهن شا ضيع يابوي .. لو ذا الجمال للبيع يابوي .. عتشتريه الناس.
بِكمًّا اشتيت قالت لي / وتنظر لي وتضحك لي/ نسيت اسمي /نسيت أهلي / يا رب يا ساتر  يابوي / من نونها الأخضر  يابوي.. هيمرعوه الناس."


 هذه  مدينة تعز التي تخلدت في وجدان اليمنيين كمدينة للتنوير والتسامح  ، وعبرت عنها مثل هذه الكتابات من خارجها ، فهل بالإمكان أن تستعيد هويتها الثقافية  بعيداً عن جنون المتحاربين وأهوائهم ونزعاتهم الظلامية ؟ التي تريد أن تلف ليس هذه المدينة فقط ، وإنما كل مدن اليمن ، بالحزن والدم.
المقال خاص بموقع المهرية نت

لماذا يشوهون عدن الجميلة؟!
الأحد, 10 ديسمبر, 2023
الجبايات بموازين حسَّاسة!
الأحد, 26 نوفمبر, 2023