آخر الأخبار
وطني عكا: فلسطين حصن الله في الأرض
الثلاثاء, 17 أكتوبر, 2023 - 01:21 صباحاً
عُرضت مسرحية «وطني عكا» للمرة الأولى، على خشبة المسرح القومي في القاهرة سنة 1969، وأخرجها في ذلك الوقت الفنان كرم مطاوع، أمَّا مؤلِّفها عبد الرحمن الشرقاوي فكتبها سنة 1968. مكان المسرحية أرض غزَّة، وزمانها يمتد ما بين عام 1967 وعام 1968، تتنوع الشخصيات الفلسطينية في المسرحية بين أجيال مختلفة، الجيل الذي عاصر نكبة 1948، مثل العم حازم وأم رشيد، اللذين عاشا قسماً من عمرهما في عكا، وبعد استيلاء اليهود على المدينة، تم تهجيرهما إلى مدينة غزة. والجيل الذي ترسَّخت النكبة في ذكريات صباه مثل ماجد، والجيل الأصغر وتمثله ليلى، التي قضت بضع سنوات من طفولتها في عكا. وهناك مقبل ورشيد أيضاً، وغيرهما من الشخصيات الفلسطينية الأكثر عدداً في النص المسرحي. وتتنوع الشخصيات الإسرائيلية بين جنسيات مختلفة مشتتة، وكلهم من الجنود العسكريين، فهناك الضابط الفرنسي، والأمريكي، والإيطالي، وهناك سعد الضابط الإسرائيلي الذي هو من أصل فلسطيني، أو هو بالأحرى من اليهود الذين كانوا يعيشون في فلسطين، قبل انقضاض العصابات الصهيونية عليها.
يبدو سعد شخصاً يعاني صراعاً، بين الانتماء لدينه ودولته المختلقة، وشعوره بأن كل هذا باطل، وليس سوى سلسلة من الجرائم، ترتكبها عصابة وإن كانت عصابة متقدمة! إذ يقول رداً على أحد زملائه من الجنود الإسرائيليين، الذي يتحدث عمَّا حقَّقوه من تقدم: «نعم تقدَّمنا.. تقدَّمنا وأتقنا فنون الختل والتزييف والقتل.. تقدمنا وأصبحنا ملوك الغدر.. تقدَّمنا وأصبحنا وباء العصر». إلى جانب الشخصيات الفلسطينية والإسرائيلية، هناك شخصية «الكاتب» وهو مفكِّر من غرب أوروبا، وشخصية «إيمي» وهي الأخرى صحافية من غرب أوروبا، وهناك كذلك شخصية المصري «أبو حمدان» وهو من عرب سيناء، وشخصية المجنَّد المصري «علي»، وهما من الشخصيات الثانوية.
فلسطين في مسرح عبد الرحمن الشرقاوي
يعد عبد الرحمن الشرقاوي من أبرز الكتاب المصريين، وهو شاعر المسرح، أو المسرحي الشاعر صاحب المؤلفات المهمة ذائعة الصيت، كـ»الأرض» و»الفتى مهران» و»النسر الأحمر» و»الحسين ثائراً» و»الحسين شهيداً». وتتسم أعمال الشرقاوي بالغنى اللغوي والتعبيري والقوة الشعرية، والعمق الفلسفي والإنساني والروحي، وصياغة الجمل والعبارات، التي لا تلمس قلب القارئ فحسب، بل التي يتشبث بها القارئ كأنه وجد ضالته، أو كأنه عثر أخيراً على ما كان يعتمل في نفسه، ولا يستطيع التعبير عنه، وقد صاغه بدقة كاتب محترف. كان الشرقاوي يستخدم اللغة الشعرية في أعماله، بدرجات متفاوتة، تكاد تقترب أحياناً من الشعر الخالص، وفي أحيان أخرى تكون أقرب إلى النثر. عاش عبد الرحمن الشرقاوي في الفترة من سنة 1921 حتى سنة 1987، ما يعني أنه عاصر النكبة في 1948، والنكسة في 1967، والكثير من مراحل الصراع الأخرى. وعند تأليفه لمسرحية «وطني عكا»، كان قد مضى عام واحد فقط على نكسة 1967، التي يتناولها بالطبع في فصول العمل، لكنه يعود أيضاً إلى سنة 1948، عن طريق الشخصيات التي تروي ما جرى وكانت شاهدة عليه، كالعم حازم الذي يحكي عن الصهيوني، الذي أتى إليه في عكا قائلاً: «هذه الدار لنا.. هي والبستان أيضاً.. فإذا لم تمتثل.. أقنعتك القنبلة».
ويستمر العم حازم يروي: «وتوالت فوقنا من كل أقطار السماوات القذائف.. ورأينا الدور تحترق والسماء تتشقق.. وحوالينا تهب الضربات القاتلة.. جمعوا منا السلاح وبقينا وحدنا.. والهول والنار محيطان بنا.. وطردنا كلنا». إذ يصف لنا الكاتب أحداث 1948، وعملية التهجير من عكا إلى غزة، من خلال كل شخصية وما شعرت به في ذلك الوقت، إذ تقول أم رشيد: «وهرعنا من طريق لطريق.. طرقات جللتها الآزفة.. وحشدنا في طريق الغيب.. تحدونا المخاوف». بينما يقول ماجد الذي كان صبياً حينذاك: «سرت ليلي ونهاري تحت أهوال الحريق.. وعلى رأسي أشلاء أبي.. ومضينا.. وأنا عكازة في يد أمي الباكية.. وخطانا في الدم الممزوج بالوحل.. ومن فوق سمائي الغاشية».
تعتمد المسرحية على الشخصيات والأفكار، أكثر من الحبكة والأحداث، وتغلب التأملات والأسئلة على الدراما، وكذلك الحوارات والجدل بين الشخصيات المختلفة، سواء الشخصيات الفلسطينية أو الشخصيات الأجنبية. عكا كما بدو من عنوان المسرحية، هي المكان البطل أو المحور المكاني، لكن دون وجود الشخصيات في هذا المكان، فالمدينة الفلسطينية حاضرة من خلال شخصية العم حازم، الذي يردد نداءه طوال العمل: «وطني عكا.. عكا عكا يا وطني»، ويصفها في موضع آخر قائلاً: «عكا حصن الله في الأرض». لا يكف العم حازم عن الحديث عن عكا، ويظل يحلم برؤيتها والوجود فيها مرة أخرى، هذا الحلم الذي نشعر أحياناً بأنه تحقق، أو بأنه لا يزال مجرد حلم. لا يمكن القول إن العم حازم هو بطل المسرحية، فالبطولة موزعة على الشخصيات الفلسطينية، لكن يمكن القول إن العم حازم هو صوت المؤلف، أو الشخصية التي اختارها المؤلف، ليضع على لسانها الأقوال الكبرى، والأفكار والرؤى المؤثرة، ويمرر من خلالها الرسائل المهمة. عكا هي المدينة الفلسطينية ذات التاريخ العريق، التي تحتوي على الكثير من الآثار، المصنفة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي. على حصون وقلاع هذه المدينة، تكسرت سيوف وأحلام الغزاة لأزمان طويلة، ثم جاء زمن الاستلاب والنهب، وشهدت عكا المجازر وعرفت الاحتلال، وارتوت أرضها بدم أهلها، ثم تجرعت مرارة الافتراق عنهم، وظلوا هم يبحثون عن وجهها في كل يوم، مثل شخصية العم حازم في المسرحية، وينتظرون اليوم الذي تمسح فيه عن وجهها خيوط بيت العنكبوت. كان ذهاب الكاتب عبد الرحمن الشرقاوي إلى عكا، ربطاً بين نكسة 1967 ونكبة 1948، كما لو أنه أراد أن يعود إلى بداية المأساة، على الرغم من أن المأساة تعود إلى تاريخ أقدم من ذلك بكثير، في أواخر القرن التاسع عشر.
يبقى العم حازم حتى نهاية المسرحية، بينما يستشهد الشباب كلهم تقريباً، وعن الشهادة يقول رشيد: «هذا ثمن الظلم القائم.. نحن نموت هنا شهداء.. نستصرخ وجدان العالم.. الاستشهاد هو الرفض الدموي الصارخ». كذلك يستشهد ماجد، الذي غادر فلسطين ليعمل في الخارج، فقد كان يرى أن المال هو ما يحتاج إليه، لينصر وطنه، وبالفعل عاد بالكثير من الأموال وهبها كلها للمقاومة، لكنه لا يكتفي بهذا وينضم للمقاومة ويموت شهيداً. تتكون المسرحية من مشاهد قصيرة نوعا ما، يتناول كل مشهد فكرة، من خلال الحوار بين الشخصيات، كمشهد النكسة، وأخبار النصر الكاذبة، التي يقول عنها العم حازم: «يا ضلال الكلمات.. جيشنا يزحف بالنصر إلى تل أبيب.. ربما يحتلها قبل الغروب.. جيشنا ارتد إلى شط القنال.. الطريق الآن مفتوح أمام العصبة الأشرار.. مفتوح إلى قلب دمشق.. أي أنباء نصدق.. ظلمات.. ظلمات.. كلمات تجعل الإنسان لا يعرف شيئاً ما على وجه اليقين.. كلمات تملأ الدنيا ضباباً.. كلمات تملأ الحلق تراباً». وعن المسؤول عما جرى وما آلت إليه الأمور، يقول العم حازم: «نحن جميعاً متهمون.. فلسطين ضيعها الصمت.. بل الكلمات».
كاتبة مصرية