آخر الأخبار
"النمل الحاقد" حارساً للرواية الإسرائيلية في الإعلام الفرنسي
اعتداءات إسرائيلية في فلسطين
الثلاثاء, 18 مايو, 2021 - 01:52 مساءً
تثبت الهجمات المتواصلة بلا هوادة مرة أخرى ما يحتاجه الصحافيون الفرنسيون من عزيمة فولاذية لتغطية الأخبار في فلسطين وإسرائيل، بين مضايقات تقوم بها حفنة متهيجة من المؤيدين لإسرائيل وتردد هيئات التحرير. هذا ما آل إليه الوضع بعد الحملة العنيفة ضد الصحافي الفرنسي شارل أندرلان لبثه صور مقتل الطفل محمد الدرة في تقرير تلفزي.
بعد أن أسفرت اعتداءات اليمين المتطرف الإسرائيلي في القدس الشرقية على عودة المواجهات بين الجيش الإسرائيلي وحماس، تتبين لنا مرة أخرى أهمية وجود رؤية مستقلة في عين المكان، وهو عادة دور مراسلي وكالات الأنباء والصحف. برقياتهم ومقالاتهم تفضح التصريحات الكاذبة لحكومة بنيامين نتانياهو التي يُعاد نشرها على صعيد واسع ودون تنسيب -خاصة من قبل جزء من الإعلام السمعي البصري الفرنسي- من قبل أنصار إسرائيل الذين يشكلون لوبي سياسي وإعلامي واسع تطرقنا إليه خلال هذا التحقيق. وتبدو المعركة غير متساوية أمام شراسة هذه الدعاية. لكنها لم تُحسم بعد.
هنا يروي ثلاثة صحافيين، من ثلاث هيئات تحرير، عملوا في ثلاث فترات مختلفة، غطوا أوضاع إسرائيل وفلسطين، طالبوا بعدم الكشف عن هوياتهم، عن المكالمات الهاتفية غير اللائقة، والتهديدات غير المبطنة، واللعبة المزدوجة لرئاسات تحريرهم.
عمل الأول، دعونا نسميه إيتيان، كمراسل في القدس ليومية وطنية، والثاني، مارك، في وسيلة إعلامية سمعية ــ بصرية، وكان الثالث، فيليب، مبعوثاً خاصاً منتظماً لأسبوعية.
مثل معظم المبعوثين الخاصين والمراسلين في إسرائيل، يثني هؤلاء على جودة العمل في هذا البلد: الصحافة هناك متعددة، ومصادر المعلومات كثيرة ومفتوحة، والمواضيع متنوعة. وحدها المعلومات المتعلقة بـ"الأمن القومي" تخضع للجنة الرقابة العسكرية، ويُمنع نشرها في بعض الأحيان، والسبب بشكل أساسي هو منع التعرف إلى هوية الجنود في وسائل الإعلام السمعية ــ البصرية. ولكن هذا يخص أساساً الصحافة الإسرائيلية التي غالباً ما تكون عنيدة، ولا تزال كذلك على الرغم من المناورات الكبيرة لبنيامين نتنياهو وأصدقائه من مليارديرات وسائل الإعلام لتطويعها.
نشر العديد من مراسلي صحيفتي "لوموند" و"ليبيراسيون" أو هيئات تحرير أخرى عند عودتهم من إسرائيل كتباً غالباً بقدر ما تكون رائعة، تكون نقدية بخصوص المجتمع الإسرائيلي. لا يكمن المشكل إذاً في إسرائيل، "نعمل هناك بشكل جيد، فالناس معتادون على الصحافة ويمكن الذهاب إلى كل مكان، كل شيء مفتوح. المضايقات نتعرض لها في فرنسا". يقول روني باكمان ، الذي عمل لمدة طويلة في "لو نوفيل أوبسرفاتور"، وهو اليوم يعمل في موقع "ميديابارت". ولكي نكون أكثر دقة: تتم مضايقة الصحافيين، والتعتيم على المثقفين المنتقدين للسياسة الإسرائيلية.
لنترك هؤلاء الصحافيين الثلاثة يتكلمون بشكل أوسع:
إيتيان، مراسل سابق ليومية
"المفاجأة الأولى عندما أقمت في القدس، تمثلت في مجيء أحد رؤساء تحرير الجريدة لزيارتي وقدم لي أحد (الأصدقاء) القدامى من الموساد. ربطني هذا الأخير بعميل أصغر في الاستخبارات الإسرائيلية يطلق على نفسه اسم بول، وهو أحد الضباط المسؤولين عن الصحافة الأجنبية. قدم لي بول بانتظام وثائق في مجلدات بلاستيكية لا أستعملها، لأنه لا يمكنني التأكد منها من مصدر ثانٍ أو لأن المعلومات التي تتضمنها غير مهمة. غير أنني كنت أجد هذه المعلومات نفسها منشورة في الجريدة في أكثر من مرة، بتوقيع رئيس التحرير، الذي تبيّن أنه يأتي إلى إسرائيل من دون إخطاري. وقد ذهب حتى إلى إجراء مقابلة صحافية مع رئيس الوزراء من دون أن يشاركني فيها، على عكس العرف الذي ينص على أن يكون المراسل في البلد حاضراً خلال المقابلة.
بعد أشهر قليلة من ذلك، تلقيت تكليفاً غير عادي من قسم المجتمع في الصحيفة: مقال حول اليهود الفرنسيين الذين هاجروا إلى إسرائيل بسبب تنامي معاداة السامية في فرنسا. لكنّ استطلاعاً سريعاً كشف لي أن الواقع مختلف تماماً. فعدد المهاجرين القادمين من فرنسا لم يكن قد ارتفع في فترة تكليفي بالتقرير، وكل من قابلتهم قالوا لي إنهم قدموا إلى إسرائيل بوازع صهيوني وليس خوفاً، وأن "البلد الذي يتعرض فيه اليهود للخطر هو إسرائيل.
في السياق نفسه، زوّدني مصدر في الوكالة اليهودية بإحصائيات حديثة تظهر البروفايل (النضالي) للمهاجرين من فرنسا: أكثر من 90 في المائة منهم مروا في فرنسا بمدارس أو هيئات يهودية. وتؤكد أغلبية كبيرة منهم بأنها هاجرت لأسباب أيديولوجية. لكن هذه النتيجة لم ترضِ الصحافية المكلفة بمتابعة مقالي من قسم المجتمع، ولم أكن أعرف وقتها بأنها مقربة من اليمين الإسرائيلي. في اليوم التالي وجدت مقالي في الجريدة مبتوراً ومنقوصاً من الأرقام المزعجة. الصحافية نفسها عادت وكتبت مقالاً مجاملاً عن (الجالية اليهودية الفرنسية الغاضبة من الصحافة).
كذلك، وبما أنني كنت أذهب بانتظام إلى الضفة الغربية وغزة وأعطي الكلمة للفلسطينيين، احتج المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (كريف CRIF)، لدى إدارة الصحيفة التي أعمل فيها. وقد عرفت ذلك من رئيس الـ(كريف) نفسه. في نهاية مؤتمر كان يشارك فيه في القدس استدعاني جانباً وسألني: (هل اتصل بك مديرك؟)، سألته لما يمكن أن تهمه اتصالات خاصة بالجريدة، وأجبته: (لا يتصل بي مديري مطلقاً، فهو يثق بي تماماً)، ثم تركته.
عرفت بتفاصيل القصة لاحقاً بعد سفري إلى باريس. إذ التقيت مدير التحرير الذي شرح لي: (لقد دُعيت إلى رحلة لإسرائيل من قبل الكريف، وذهبت إلى هناك من أجل أن أنعم بسلام. لم أرغب في محادثتك بشأن ما قالوه لي، حتى لا أزعجك أو أؤثر عليك، وبالطبع لم أكتب أي شيء عن الموضوع). عندما تم استبدال هذا المدير بعد تغيير أحد المساهمين في الجريدة كنت قد عدت إلى باريس. وتباهى خليفته في كل مكان بأنه جعل من اليومية (صحيفة مؤيدة لإسرائيل)".
مارك، مراسل وسيلة إعلامية سمعية بصرية
"تسعى إسرائيل منذ زمن طويل إلى تطبيع صورتها دولياً، ولكن المشكلة لا تكمن في بنيامين نتنياهو بقدر ما تكمن في داعميه في فرنسا. عندما ننفذ تحقيقاً صحافياً من الضفة الغربية، ينزعج وينفعل هؤلاء على الشبكات الإجتماعية، وفي مواقعهم ويتهموننا بمعاداة السامية وبترويج أخبار كاذبة. إنه هذيان كامل. المشكلة بالنسبة لنا في المؤسسات السمعية البصرية، أنه خلافاً للصحافة المكتوبة، التي ليس عليها رقابة خارجية، يتم تتبعنا من طرف مجلس السمعي ـ البصري الأعلى، علماً أنّ أعضاء هذا المجلس لا يعرفون شيئاً ولا يدركون حتى كيف نعمل، ولكنهم يعتبرون أنه علينا (ضمان معالجة متوازنة للنزاع)، كما يمكنهم أن يوجهوا إلينا (تحذيرات). إنه سيف ديموقليس مشهر فوق رؤوسنا.
هكذا تم توجيه الاتهام لـ(راديو فرانس)، في يوليو/ تموز 2020، من قبل مجلس السمعي ـ البصري الأعلى بخصوص تقرير حول تدمير الجيش الإسرائيلي لعيادة متنقلة لمكافحة فيروس كورونا في الأراضي المحتلة بثته (فرانس أنتير). لقد كذّبت تنسيقية الأنشطة الحكومية في الأراضي المحتلة، وهي فرع الجيش المكلف بالسلطة في المناطق المحتلة، التقرير المبني على مصادر خاصة بإذاعة (فرانس أنتير). وقدّم النائب الفرنسي ميار حبيب شكوى إلى مجلس السمعي ـ البصري الأعلى، علماً أن الرجل يعتبر أساساً بأن إذاعة (فرانس أنتير) هي وكر للإسلامويين ـ اليساريين. كل ذلك يجعلني حذراً، وعليَّ أن أفكّر مرتين قبل أن أقترح موضوعاً ما. فأنا لا أريد التعرض إلى المضايقات باستمرار، كما أن رئاسة تحريري لا تريد تلقي توبيخات من مجلس السمعي ـ البصري الأعلى".
فيليب، مراسل خاص لمجلة
"زرت إسرائيل وفلسطين كثيراً، رغم أن ذلك لم يكن جوهر عملي. ذهبت إلى هناك للمرة الأولى قبل 20 عاماً في رحلة استكشافية نظمتها اللجنة اليهودية الأميركية في باريس. لم أكن الأول ولا الأخير الذي قام بهذا النوع من الرحلات. كان ذلك منظماً ومدفوع النفقات بالكامل. تدعو اللجنة اليهودية الأميركية عادة مختلف أنواع الزملاء وليس فقط المراسلين في الأقسام الدولية. فهناك كُتاب أعمدة، ورؤساء تحرير، وصحافيو أقسام. في مجموعتي كان هناك صحافي متخصص في مسائل النقل، وزميلة تغطي قضايا الاستهلاك والحياة اليومية في قسم تحرير تلفزيوني. كانت الأمور محكمة ويتم تسييرها بسرعة، قمنا بجولة على متن طائرة عمودية في النقب والتقينا عدداً من النواب والوزراء، والتقينا حتى في ذلك الوقت ممثلاً عن معسكر السلام. على حد علمي لم يكتب أحد شيئاً ولم يكن يطلب منا شيء، ولكن بالطبع عندما تتم دعوتك إلى رحلة شبيهة، لا يمكن البصق في الصحن. في البداية لم أواجه أي مشكلة في تمرير مقالاتي، على الرغم من أن أحد رؤساء التحرير كان ينشر افتتاحيات موالية أكثر فأكثر لإسرائيل وكانت تتناقض مع ما كنت أكتبه… تلقيت بسبب أحد مقالاتي العديد من الرسائل المعادية وأعرف أن رئاسة التحرير هي أيضاً ومن دون شك تلقت مكالمات من أصدقاء مؤثرين في الجريدة. ثم شيئاً فشيئاً، ومن دون أن يخبرني أحد بشيء، صار من الصعب أكثر فأكثر الذهاب إلى هناك. كان يقال لي: (هل أنت متأكد؟)، (في الحقيقة لم يعد القراء مهتمون بهذا الموضوع)، (أليس ذلك مكلفاً بعض الشيء؟)، ولكن كل هذه الحجج لم تكن تقدم في ما يخص كتابة الافتتاحيات. فالرأي المؤيد لإسرائيل أصبح جامحاً في الجريدة من دون أن يقابله تحقيق ميداني أكثر اتزاناً".
رقابة ذاتية؟ جبن؟ كسل؟ تأييد؟ "قليل من كل ذلك"، يقول آلان غريش
تجربة غيوم جاندرون
عرض غيوم جاندرون، مراسل جريدة "ليبراسيون" في إسرائيل ـ فلسطين بين عامي 2017 و2020، الحال هذا، في مقال نهاية عمله كمراسل هناك، نشر في اليومية في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2020:
"أصبحت إسرائيل وفلسطين اليوم متشابكتين أكثر من أي وقت مضى، بحقائق ليست متوازية بل متكدسة، وبأقدار كما لو أنها مكبلة بالأصفاد. ففي حين يتجذر المستوطنون، ما يضفي على الضفة الغربية طابع التكساس ـ كوشير، نوع من بلاد دونالد ترامب المتكررة، حيث يقوم رعاة البقر الذين يرتدون القلنسوة الصوفية (كيبا) بإعادة لعب أسطورة الحدود، بشاحنات صغيرة وبنادق أم 16 أمام هنود وعرب، ويقوم عامل بناء من جنين بكسب قوته في ورشات تل أبيب وراء الجدار المجتاز بتصريح أو بدونه. في الوقت نفسه لا يحلم الشباب الفلسطيني، المحروم من أي آفاق، سوى بالبحر".
في لقاء له مع دومينيك فيدال في معهد البحث والدراسات /المتوسط والشرق الأوسط/ (إريمو)، بعد أسابيع قليلة من نشر هذا المقال، تأسف جاندرون، مثله مثل كل الصحافيين الفرنسيين الذين يغطون الأحداث في تل أبيب وفي القدس ورام الله، من المضايقات التي يقوم بها المتعصبون للدفاع عن إسرائيل في فرنسا. "هناك طريقة جد منظمة في تسيير الاعتداء، هناك أشخاص يقومون بذلك طوال اليوم على شبكات التواصل الاجتماعي، يفككون تقارير مراسلين بحثاً عن معلومات مظللة مزعومة". يواصل غيوم جاندرون: "في البداية كنت أجادل، ولكن مع أشخاص بهذا الكم من سوء النية ومستعدين لتحريف كلماتك، تأتي الأوقات التي لا يجب الدخول فيها في النقاش لأنه في الواقع ليس نقاشاً".