آخر الأخبار

عمر الجاوي .. سيرة التكوين وخلاصة الشاعر (2-2)

الأحد, 27 ديسمبر, 2020

قليلون هم الذين عرفوا أن النصوص الشعرية العديدة ، التي نُشرت في مجلة الحكمة والثقافة الجديدة و14 أكتوبر واليمن الجديد في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ،وكانت توقع تحت  اسم (ذو نواس) لم تكن سوى للمثقف الوطني "عمر عبد الله الجاوي 1938ـ 1997" ، لأن المتحقق الكتابي والمتعين الواضح في مسيرة الرجل، كانت تختزله ككاتب سياسي مختلف ، مُشكلاً في حضوره الصاخب، امتداداً لافتاً لمدرسة الأحرار اليمنيين، الذين زاوج منتسبوها بين انصرافاتهم الثقافية  كشعراء وكتاب ، وهمومهم الوطنية كمناضلين ضد منظومة الحكم الثيوقراطي المنغلق في شمال اليمن، و الحكم الاستعماري السافر  في جنوب اليمن .


 أما المتواري الحقيقي في هذه السيرة هو الشاعر، الذي ازداد استتاراَ خلف المرموز الإشكالي في تاريخ اليمن القديم " يوسف أزار ـ أحد الأذواء الحميريين / أو ما يُعرف تاريخياً  بذي نواس الحميري، الذي تنسب إليه محرقة نجران ، حسب المدونات التاريخية والأسطورية".


لكن التكشف والإبانة الكاملة لمنجز هذا الشاعر عند الكثير من القُراء، ستكون  بعد رحيله بستة أعوام، بصدور مجموعته الشعرية اليتيمة ،التي حملت عنوان (صمت الأصابع  - منشورات اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين عام 2003) والتي لم تُقرأ بعناية نقدية كافية، بعد سبعة عشر عاما من صدورها.


المجموعة في محصلتها استبصارات كتابة لموضوعات مُتجسِّمة وملتقطات لوقائع ، وحالات لم تَسِل في الكتابة السياسية  عند صاحبها ، بل تقطَّرت جمالياً في نصوص شعرية ، بمستدركات ظرفية ، لا يمكن أن تُحاكم بأدوات  قرائية  أعقبت بعض نصوصها بأكثر من نصف قرن.


النص الأول في المجموعة ، والذي حمل عنوان (خواطر عكفة) اُشير في تذييله الزمني أنه كتب في العام 1955 ، وقت كان طالباً في مصر غالباً  ،وهو عام انتقاضه الثلايا وجنوده في تعز ،غير أن الصيغة النهائية للنص،  ستتم في أواخر الخمسينيات وتحديداً في العام1959 وفق التذييل ذاته  وهو العام الذي طُرد منه - بمعية طلاب يساريين كُثر إلى مدينة تعزأيضاً.


فالشاب الذي لم يتجاوز عمره السابعة عشرة، لم يجد أمامه سوى أدوات الشاعر، للتعبير عما يعتمل بداخله ،ازاء موضوع  يشغل تفكير الكثيرين ،وهو علاقة العسكري بالمواطن ـ  غير أن التعبير السياسي عنه بوضوح سيكون بعد أربعة أعوام، حين سينتقل الطالب المبعد من القاهرة ، فيعيد صياغة النص المكتوب، بمقتربات انسانية واضحة، ستتعاكس مع النظرة الكلية عن العسكري البسيط، الذي اقترن حضوره في حياة الفلاحين، وقبل ذلك في الذهنية الشعبية بوصفه الأنموذج المكتمل و الواضح للحظة الاعتساف لنظام الحكم الإمامي .


الشاعر الذي سيلبس (قناع المتكلم) في النص، سيختصر معاناة العسكري مع النظرة التي قامت بشيطنته في الوعي الجمعي:
ثقل الخطوات / والليل المفزع والآهات/ يقذفني جبل، كي يهدمني ألف جبل/ دون أمل/ الا رعب الكلمات/ ألسنة الناس النارية/ تزرع دربي شوكاً فوق الشوك/ تدمي وجداني المنهوك/ الأعين ترمقني سخرية/ ................... / يحزنني  أن تبكي يا طفلاً / أن تسمع اسمي/ أن تشهد رسمي/ لا / لستُ المقلقَ نومك / لم أشرب دمع أبيك / لم أسبيك.

وحين تأخذنا المقارنة الى نص آخر ـ سردي ـ انجزه الراحل محمد عبد الولي في ذات الفترة تقريباً، وتضمنته مجموعته القصصية  الاولى (الأرض يا سلمى)  الصادرة ببيروت في العام 1966 سنجد ثمة مؤثرات ومشغلات سياسية وجمالية جعلت من رفيقين وصدقين تلازما في القاهرة وتعز وموسكو ينتجان نصين إبداعيين متقاربين زمنياً ،  يحفران بعيداً، في العمق الإنساني ، لكائن قادته الظروف ليكون عسكرياً  مذموماً ،لأن إنسانا مثل هذا سيغدو هو الآخر ضحية للمجتمع، والنظام السياسي.

 ومما جاء في نص  محمد عبد الولي (يا خبير) المنشور في مجموعته الأولى (الأرض يا سلمى) :
"اسمع يا خبير، أنت رعوي هانا في القبيطة، وأنا رعوي هاناك في حاشد. معي بيت وعائلة ومره وأولاد ما شاء الله ،لكن مامعانا (بيَّس) ما معانا أرض ... هاناك المشايخ، أخذوا الأرض ..أصبحنا عساكر، ندوِّر على رزق على لقمة ..قالوا الحجرية فيها ذهب ..جينا هانا اقسم بالله ما في الا الطمع، والنهب والحسد .. كل رعوي يشتي ينهب صاحبه."


المشغلات الكتابية في مجموعة (صمت الأصابع )، التي غطت نصوصها ثلاثة عقود وقليل  ،حسب التثبيتات الزمنية  لها توزعت على ثلاث موضوعات رئيسية هي الوطني ،والعاطفي ،والجمالي ـ إن صح توصيف مثل هذا  للأخير ـ ، واختزل  الموضوع الوطني، حضور الشاعر وانغماسه بعمق اللحظة السياسية الضاجة، وخصوصاً ارهاصات الثورة اليمنية وتحولاتها اللاحقة، التي أفضت الى الوحدة ،التي كان الشاعر أحد الأصوات العالية المنادية بها.


على قلة النصوص  ذات البعد العاطفي الصريح  في المجموعة،  إلا أنها مثلت استحضارا لافتاً  لامرأة  تدعى (ليدا نيكولايفنا) التي تحضر  في ثلاثة نصوص
الاشتغال على الموضوع الفني  في مجموعة (صمت الأصابع) سيعبِّر عن تلك الخبرات الكتابية  لقلم لم يبتعد عن عوالم الصحافة والأدب بالتعايش أو المزاولة لقرابة أربعين عاماً، فكان الشعري المتخفف  من حمولة السياسي  أشبه بشرفة واسعة ، أبصر منها الشاعر ،مالم يستطع السياسي الضاج  والمباشر أن يراه  من نوافذ ضيقة ، ظنها ملكاً للجميع .


السياسي والشاعر والمثقف، صفات  يختزلها بدون اقسارات او فذلكات (عمر الجاوي) ،الذي يتيح للمتتبع لتجربته في الكتابة، اسقاط ما شاء  عليه من خلال هذا التنويع في التأليف والترجمة والانجاز الفني؛  فاذا كان التأليف سيُختزل في كتبه (الزبيري شاعر الوطنية ،والصحافة النقابية في عدن، وافتتاحيات الحكمة ، وربورتاج حصار صنعاء )  والترجمة سيشير إليها كتابه عن الروسية (السياسة البريطانية في جنوب اليمن) فان الانجاز الفني  سيتيحه ديوان (صمت الأصابع)  ،كون نصوصه الباكرة تحيلنا الى موضوع  اشكالي يتعلق بموضوع الريادة الشعرية للقصيدة الجديدة في اليمن ،فقبل العام 1955 لم أتحقق شخصياً (من خلال القراءة والمتابعة) من نصوص شعرية كتبت متحررة من أوزان الخليل في الشعرية اليمنية المعاصرة قبل هذا التاريخ الا تلك التي أنجزها الشاعر الرائد محمد انعم غالب التي ستؤلف بعضها مجموعته الرائدة (غريب على الطريق) التي سيصدرها اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين في العام 1974 كواحدة من مطبوعات المؤتمر وبمقدمة لعمر الجاوي قال في سياق منها  "الميزة الأولى في هذا الديوان هي الصياغة الشعرية لتأملات أنعم الحضارية التي استطاعت أن تستوعب بمقدرة فائقة قضية الإنسان في اليمن لمراحل عديدة من تاريخه الطويل" ، وربما قصيدة "عودة بلقيس"  لإبراهيم صادق ، التي كتبت في ذات الفترة تقريباً ، وكل ذلك بعيداً عن مجموعة "ولائد الساحل" لحسين بن عبيد الله السقاف ، التي يُشار إليها كبوابة ريادة ، لأسباب فنية تتصل بالتمييز بين المرسل والشعر الحُر.


انحياز الجاوي للكتابة بطريقة شعر التفاعيل المتحرر - قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر كما درجت العادة على تسميته - جاءت للتعبير عن الاستجابة للتحولات التي شهدتها بنية الشعر العربي في المراكز الثقافية الفاعلة ، بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة،  بفعل التحولات الجديدة في المنطقة ،التي بشرت بولادة الدولة الوطنية منذ مطلع الخمسينيات، وتحيل بدرجة رئيسية الى تلك التفاعلات الإيجابية للشاعر مع محيطه الثقافي، التي أبرزت الى السطح شعراء الريادة مثل السياب والبياتي وعبد الصبور ونازك ولاحقيهم  الماغوط وأدونيس وأنسي الحاج... الى أخر القائمة .


الجاوي لم يكن جامداً، بل ديناميكياً، وظف كل ملكاته الإبداعية، للتعبير عن الإنسان الجديد، وكان الشعر، الذي لم يخلص له ، إحداها.
المقال خاص بموقع المهرية نت

لماذا يشوهون عدن الجميلة؟!
الأحد, 10 ديسمبر, 2023
الجبايات بموازين حسَّاسة!
الأحد, 26 نوفمبر, 2023