آخر الأخبار

ماهي التكلفة البشرية لانهيار الرعاية الصحية في اليمن؟ (ترجمة خاصة)

مرفق صحي

مرفق صحي

المهرية نت - ترجمة خاصة
الجمعة, 24 مايو, 2024 - 01:19 مساءً

تعرضتُ لصدمة كبيرة في أغسطس الماضي حينما تم تشخيص إصابة والدتي بالسرطان. آنذاك، كنتُ أعمل مع زميل يمني على تحقيق استقصائي حول تزايد حالات الإصابة بالسرطان في اليمن، والصلة المحتملة بين ذلك والمواد الملوثة الناتجة عن صناعة النفط.

 

وظلت هذه المفارقة تشغلني،حيث كانت التقارير الإعلامية تشير إلى كيف أن شركات النفط في اليمن تنتهك حماية البيئة بشكل صارخ. وقد أصابني الخبر بالذهول وشل قدرتي على الكتابة لشهور.لقد ألقت بي هذه التجربة في محنة مرهقة ومستنزفة عاطفيًا، كانت بمثابة ماراثون طبي وعاصفة مالية.

 

مضى على ذلك عشرة أشهر، واليوم ها أنا ذا أستطيع أن أكتب ليس فقط لأروي قصة كفاح والدتي الشجاع وانتصارها النهائي على السرطان،بل لأتطرق أيضًا إلى أزمة أعمق وأشمل.لقد غيّرتني هذه الرحلة عبر المرض والتعافي بشكل جذري، وتركت آثارًا لا تُمحى. أدرك الآن، أكثر من أي وقت مضى، حجم الكلفة البشرية الهائلة لانهيار النظام الصحي في اليمن.

 

أدت سنوات الصراع في اليمن، التي غذتها قوى داخلية وخارجية على حد سواء، بدءًا من سيطرة الحوثيين على صنعاء في سبتمبر 2014 إلى التدخل العسكري الذي تقوده السعودية في عام 2015، إلى تدمير كل جانب تقريبًا من جوانب حياة الشعب اليمني.

 

تعود أحدث البيانات المتوفرة، والتي تعتبر قديمة أصلاً إذ تعود إلى عام 2020، إلى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. قدّر البرنامج عدد الوفيات الناجمة عن تداعيات الحرب بحوالي 377،000 حالة وفاة، ويعتبره العديد من الخبراء رقمًا متحفظًا. من المحتمل أن يكون عدد القتلى الفعلي أعلى بكثير.

 

ربما كان الموت بالنسبة للذين قضوا نحبهم بمثابة رحمة. أما الناجون فهم يواجهون واقعًا مأساويًا، حيث يكافحون في ظل نظام صحي دمره كافة أطراف الصراع.

 

يعاني حوالي 20 مليون يمني، من أصل 35 مليون نسمة، حاليًا من حاجة ماسة للمساعدة الطبية. أشارت منظمة الصحة العالمية، حتى فبراير 2023، إلى أن 46٪ من المرافق الصحية في اليمن إما تعمل جزئيًا أو متوقفة كليًا عن العمل، بسبب نقص الموظفين والتمويل والكهرباء والأدوية والإمدادات والمعدات الأساسية الأخرى.

 

العمل في مجال الرعاية الصحية في اليمن محفوفٌ بالمخاطر، بل وقد يفضي إلى الموت. ففي عام 2020، قُتل ما لا يقل عن سبعة من العاملين في مجال الصحة نتيجة هجمات استهدفت المستشفيات ومرافق الرعاية الصحية الأخرى، وخُطف خمسة آخرون.

 

بعد معركة والدتي الشجاعة ضد السرطان، أصبحت أدرك الآن، أكثر من أي وقت مضى، حجم الكارثة الإنسانية التي خلفها انهيار نظام الرعاية الصحية في اليمن.

 

بالنسبة لعامة الشعب اليمني، يُعد النظام الصحي المنهار بمثابة حكم شبه مؤكد بالموت عند الإصابة بأمراض خطيرة، بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية أو الاقتصادية. تنتشر حالات السرطان على نطاق واسع، لكن رعاية مرضى السرطان تحديدًا باهظة التكلفة ونادرة الوجود.

 

نتيجة للحرب، أُغلقت العديد من عيادات علاج السرطان، لذلك لم يعد بإمكان المرضى الحصول على العلاج سوى في عدد قليل من المستشفيات الموجودة في مدن مثل صنعاء وتعز وعدن وإب وحضرموت.

 

ومع ذلك، غالبًا ما تفتقر هذه المرافق إلى الموارد الطبية الكافية. بل إن بعض المرضى لا يستطيعون تحمل تكلفة التنقل من وإلى مراكز علاج السرطان القليلة المتوفرة.

 

أما بالنسبة لبعض اليمنيين المحظوظين، فالخيار الوحيد المتبقي هو السعي لتلقي العلاج الطبي في الخارج، عادةً في مصر أو الأردن، وهو ما يتطلب إما اقتراض مبالغ كبيرة أو إنفاق مدخرات العمر.

 

باتت مطارات صنعاء والقاهرة وعمان شاهدةً على انهيار الدولة،يتجلى ذلك في مشاهد تنفطر لها القلوب، حيث يتجمع اليمنيون أطفالًا ورجالًا ونساءً، سعيًا للحصول على الرعاية الطبية في الخارج في تلك المطارات.

 

أخبرني أصدقاء أردنيون خلال فترة علاج والدتي في الأردن، أن تقييدات كوفيد-19 أدت إلى انخفاض ملحوظ في عدد اليمنيين الذين يحتاجون لتلقي الرعاية الطبية الضرورية بالأردن، مما أثقل كاهل القطاع الصحي الأردني. على مدى سنوات، أصبح اليمنيون يشكلون نسبة كبيرة من المرضى في المستشفيات المصرية والأردنية.

 

تتعاظم الصعوبات اللوجستية لتزيد من وطأة المعاناة المالية. فحصول المرضى ومرافقيهم على تأشيرات يكتنفه الكثير من التعقيدات، كما أن تكاليف العلاج والمعيشة في الخارج تشكل عبئًا إضافيًا. يُعد علاج السرطان رحلة طويلة مصحوبة بالضغوطات البدنية والمالية.

 

بحسب مسؤول في وزارة الصحة اليمنية، طلب عدم الكشف عن هويته، يتراوح عدد مرضى السرطان بين 25 ألف إلى 30 ألف مريض سنويًا.

 

تكمن المأساة الحقيقية في وفاة ما يقارب 60٪ من هؤلاء المرضى نتيجة انعدام الموارد والأدوات والخدمات الطبية، بالإضافة إلى ندرة الأدوية في مراكز علاج السرطان. وفي بعض الحالات، لا يملك بعض الأهالي خيارًا سوى اصطحاب أحبتهم إلى المنازل ليموتوا ببطء أمام أعينهم.

 

لا تقتصر هذه الأزمة الصحية على تبعات الحرب فقط، بل تمتد لتطال ثلاثة كوارث بيئية رئيسية يشتبه في دورها البارز في الارتفاع الحاد لحالات السرطان. وتشمل هذه الكوارث: شبكات الصرف الصحي المتداعية، والانتهاكات البيئية التي ترتكبها شركات النفط والغاز، والانتشار الواسع للمبيدات الحشرية القاتلة.

 

في المقام الأول، بسبب إهمال واسع النطاق من قِبل وكالات الدولة، انهارت أنظمة الصرف الصحي اليمنية في العديد من مناطق البلاد، مما أدى إلى تلوث مياه الشرب.

 

هذا الانهيار لا يزيد من مخاطر الإصابة بالسرطان عبر التعرض للمواد المسرطنة والمعادن الثقيلة في المياه والتربة فحسب،بل ينشر أيضًا الأمراض ويخل بالتوازن البيئي. وقد تؤدي هذه الظروف بشكل غير مباشر إلى زيادة مخاطر الإصابة بالسرطان بسبب الالتهاب المزمن والتعرض المستمر للسموم البيئية.

 

ثانياً، تتحمل صناعة النفط في اليمن مسؤولية كبيرة، إذ لم تخضع للرقابة الكافية لا قبل الحرب ولا خلالها، وانتهجت ممارسات مدمرة للبيئة بشكل متكرر. أفاد قادة محليون ومسؤولون سابقون بأن التلوث النفطي أدى إلى تراجع إنتاج المحاصيل الزراعية وارتفاع معدلات الأمراض، بما في ذلك السرطان وأمراض الكلى في مجتمعاتهم.

 

وأخيرا،ينتشر استخدام المبيدات الحشرية القاتلة والممنوعة دوليا بشكل ينذر بالخطر، وذلك لغياب أي رقابة على هذه المواد.

 

في عام 2023، استوردت المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين حوالي 14.5 مليون لتر من المبيدات الحشرية، وهي زيادة هائلة مقارنة بالسنوات السابقة. بالإضافة إلى الكميات المستوردة رسميًا، تزيد عمليات تهريب المبيدات الحشرية الممنوعة من تفاقم الأزمة الصحية والبيئية، وتزيد من مخاطر الإصابة بالسرطان بين اليمنيين.

 

بالنسبة لعامة الشعب اليمني،فإن نظام الرعاية الصحية المتهالك يمثل حكمًا شبه مؤكد بالموت عند إصابتهم بمرض خطير.

 

تتحمل كل أطراف الصراع اليمني الطويل والوحشي، بما في ذلك الحوثيين والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، مسؤولية مباشرة عن معاناة مرضى السرطان في اليمن نتيجة تدمير نظام الرعاية الصحية في البلاد.

 

يتعين على جميع أطراف الصراع تحمل مسؤولية إعادة بناء نظام الرعاية الصحية في اليمن، وذلك تماشيا مع دعوات فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة بشأن اليمن. ولا بد من إنهاء حالة " اللا حرب ولا سلم " التي تعيشها اليمن.

 

حان الوقت أخيرًا للانتقال إلى اتفاق سلام دائم يتضمن سُبلًا لإعادة بناء وتعزيز النظام الصحي اليمني. لا يمكن للخدمات الطبية أن تتعافى في ظل استمرار تعرض الكوادر الطبية للتهديدات.

 

لا تقتصر أسباب المعاناة الصحية في اليمن على الحرب وحدها، بل يتعين على السلطات اليمنية أيضًا أن تفرض رقابة أكثر صرامة على استيراد واستخدام المبيدات الحشرية وعلى قطاع النفط في البلاد، نظرًا للاشتباه في ارتباطهما بالارتفاع الكبير في حالات الإصابة بالسرطان.

 

تلوح في الأفق أزمة بيئية أشد وطأة. وقد حذر كل من هيلين لاكنر وعبد الرحمن الأرياني في عام 2020 : "إن الحرب الأهلية الدائرة حاليًا في اليمن تهدد البلاد كنظام دولة، إلا أن الأزمة البيئية الأقل شهرة تهدد قابلية الحياة في اليمن ذاته كمكان قابل للعيش".

 

يصادف سبتمبر المقبل الذكرى العاشرة لسيطرة الحوثيين على صنعاء والحرب التي تلت ذلك من قبل التحالف الذي تقوده السعودية. عند النظر إلى الدمار والمعاناة في اليمن خلال السنوات العشرالماضية، يصعب استيعاب حجم المأساة.وكثيرا ما يسألني الناس :"أين اختفيت يا أفراح" ؟

 

ومثل الكثير غيري من اليمنين،وبأخذ نظرة للوراء،فكل ما كنت أحاول فعله هو فهم ما حدث لبلدي. 

 

 

*مقال نشرته منظمة الديمقراطية الآن في العالم العربي (DAWN) للباحثة اليمنية أفراح ناصر، وهي زميلة غير مقيمة بارزة في المركز العربي بواشنطن، والحائزه على جائزة حرية الصحافة الدولية من قبل لجنة حماية الصحفيين 

 

رابط المادة الاصليية هنا


كلمات مفتاحية: الصحة تدهور الأمراض ترجمة


تعليقات
square-white المزيد في ترجمات