آخر الأخبار

الثنائية من خصوصية الجغرافيا واللغة إلى الاحتكار المحبب..الفضول وأيوب نموذجاً

الثلاثاء, 07 يوليو, 2020

لحَّن أيوب طارش العبسي وغنَّى من قصائد  العديد من شعراء الأغنية في اليمن، والذين كتبوا نصوصاً غنائية بالملحون والفصيح وبكل اللهجات تقريباً، ولم يكونوا متيقنين أنها ستُغنى في الأصل، وبصوت مطرب مثل أيوب طارش، وبالمقابل لحَّن وغنّى العديد من فناني  اليمن الكثير من نصوص عبدالله عبد الوهاب نعمان "الفضول"، وهذه النصوص، ومثل بقية نصوصه الغنائية" قامت  على القوة والجزالة والأهم انسيابيتها إن خضعت للتلحين، وإن اكتشف الملحنون عبقرية كلماتها لتصير أغان خالدة..مع ذلك ارتبط الاثنان "أيوب والفضول" بثنائية " سيمائية غير مشوهة" صعُبَ تفكيكها، وأسسا معاً للون غنائي جديد، صار مع الوقت إضافة نوعية للتنوع  الغنائي في الجغرافيا اليمنية، عُرف باللون التعزي بخصوصيته "الحُجَريَّة".

الكثير من التفسيرات التي بحثت ولم تزل تبحث في هذه الظاهرة، ذهبت و تذهب إلى القول بتحول هذا الارتباط إلى صورة من صور الاحتكار المتبادل، وهو احتكار محبب ومحمود، والذي قد يصعب في ذات الوقت التسليم به كحقيقة متعينة وماثلة، إذا ما نظرنا إلى أن كليهما قد تعاون مع غيره من موقعه كشاعر كبير، أو حضوره كمطرب استثنائي، وأصاب كل واحد منهما في ذلك مراداً ونجاحاً غير خافٍ على ذائقة الاستماع في اليمن.
الفضول أعطى بعض نصوصه لعديد فنانين، بعيداً عن الاحتكار الأيوبي، ومنهم  عبد الباسط العبسي الذي غنَّى له مجموعة من النصوص الغنائية، التي تحولت بصوت باسط الى أغان استثنائية في المدونة الغنائية في اليمن، ومنها أغنيات "من الضحى حتى دنوِّ الأصيل" و" من مبسم الفجر" و" طعْمهْ قُبَلْ" و" يا حبّي يا أرضي و يا سمائي" و"هاتوا لقلبي كل طلِّ الصباح"  و" برْدانْ.. برْدانْ.. أين الحب يدفيني" و" يا حبي يا أرضي " و" حسنك لعب بالعقول"

حسنك لعب بالعقول
وانا مرَوِّحْ ضحيه
عنَّك حديثي يطول
فاسمع حديثي شويه
شلت ترابي السيول
وراح زرعي عشيه
وأنا معك في ذهول
أمشي على حسن نيه
مدريش ماذا تقول
عيونك البابليه
وأسمع رنين الحجول
مثل الأغاني الشجيه
وحليتك عقد لول
وقامتك يافعيه
وتحت نحرك حمول
فواكهه مستويه
تبقى بكل الفصول
ملآن صدرك طريه
هات الشهود العدول
شاقول آخر وصيِّه
شاموت ساكت خجول
وافوت من غير ديَّه
 
إلى جانب محمد حمود الحارثي وأحمد السنيدار ومنى علي"، وكانت أم كلثوم قريبة جداً من غناء  قصيدته الشهيرة " لك أيامي" ضمن مشروعٍ لها  تغني فيه  للشعراء العرب لولا وفاتها قبيل وقت قصير من أداء الأغنية، هذه القصيدة غناها تالياً أيوب وبلحنه :

لك ايامي وشوقي وحنيني
لك آهات فؤادي وشجوني
انت روحي انت ما لملمته من مُنى العمر وأحلام السنينِ
عشت دنيا أنت فيها حلمي
في أحاسيسي وفي نبض دمي
لا أرى بعدك الاَّ عدمي
يا حبيبي لن نتوب ليس في الحب ذنوب
بيننا عهد قلوب  عهد علاَّم الغيوب.

وبالمقابل  تعاون أيوب مع العديد من الشعراء المرموقين مثل أحمد الجابري وعثمان أبو ماهر وعبد الحميد شائف وعبده علي ياقوت ولحن وغنى لسلطان الصريمي وصالح نصيب وإبراهيم الحضراني  ومحمد أحمد منصور والعباسين المطاع والديلمي، وعلي سيف أحمد  ومحمد الجنيد،  وغيرهم.
منذ العام 1966، حينما غنّى من ألحان علي بن علي الآنسي وكلمات عبد الله عبد الوهاب نعمان، مع "منى علي" أغنية رح لك بعيد، وحتى وقت متأخر من التسعينيات، صار أيوب عنوانا  يستدل به على واحد من أعظم شعراء الأغنية الجديدة في  اليمن، ويدل عليه أيضاً.

الشاعر كتب للحب والإنسان والحلم والوطن، وكان صوت أيوب وعبقرية اللحن أداة توصيل مُثلى لهذه المشاعر وصدقها، وبها تحول أيوب كاسم إلى رمزٍ وأيقونة كبرى في سردية اليمن المعاصر، وصار الفضول رمزاً للعاشق الكبير والوطني الاستثنائي، وهو ما كانه في الأصل، منذ انخراطه في مشروع الأحرار والتنويريين في إطار الجمعية اليمانية الكبرى، وتاليا حزب الأحرار اليمنيين منذ العام 1944، وقبل أربعة أعوام من استشهاد والده الشيخ عبدالوهاب نعمان ضمن ثلة من ثوار وتنويريي حركة   1948الدستورية.

قبل متلازمة أيوب لم يكن الفضول في الوعي الشعبي البسيط، ولا حتى في السردية الثقافية السيارة غير ذلك الصحافي الساخر، الذي أصدر في مدينة عدن في العام 1948 صحيفة الفضول، تيمناً باسم الحلف التاريخي لنصرة المظلومين، فذاب اسمه في اسمها فصارت هي اسما له، وفي الوعي السياسي هو إسم  المناضل الصلب الذي تسنم اكثر من موقع حكومي كان أشهرها على الاطلاق موقع وزير الإعلام في واحدة من حكومات ما بعد العام 1967.
لكن قبل ذلك تقول أقرب التراجم عنه أنه من مواليد قرية ذبحان بالقرب من مدينة التربة مركز مديرية الحجرية في العام 1918، ووالده هو قائم مقام الحجرية، درس في زبيد وعلى يد  إبن عمه الأستاذ احمد محمد النعمان، والأستاذ محمد احمد حيدره في مدرسة ذبحان، وبعد عودة الأستاذ النعمان من مصر الى تعز أوائل 1941، وإنضمامه الى طاقم ولي العهد، انتقل الفضول الى تعز حيث عمل مدرساً في المدرسة  الأحمدية حتى العام 1944 حين التحق من جديد بابن عمه الذي فر الى عدن، وكان معه من أوائل مؤسسي حزب الأحرار اليمنيين.

في عدن عمل معلماً لمادة اللغة العربية في مدرسة بازرعة الخيرية، في منطقة العيدروس، ثم ترك التدريس في العام 1946 وعمل في صحيفة " صوت اليمن" الناطقة باسم الجمعية اليمنية الكبرى، التي بدأ منها كتابة المقالات الساخرة التي تتهكم على نظام الإمامة، بالإضافة الى كتاباته السياسية في جريدة فتاة الجزيرة بتوقيع "يمني بلا مأوى" وكتابة الشعر. وبعد فشل ثورة 1948 الدستورية، أصدر صحيفة الفضول لمدة خمسة أعوام، وإن بشكل غير منتظم، حتى أغلقتها الحكومة الإستعمارية بضغوط من حكومة الإمام.

انقطع عن الكتابة الصحافية، وعن كتابة الشعر لسنوات طويلة، حيث فضَّل الاشتغال بمهن حرة مختلفة، وبقي متنقلاً بين عدن وتعز وصنعاء، حتى العام 1966 حيث تم إعتقاله في سجن القلعة بصنعاء ضمن مجموعة من السياسيين المعارضين للتدخل المصري في الشئون الداخلية، وبالتزامن مع الإعتقال الشهير للرموز السياسية اليمنية وحكومة حسين العمري في السجن الحربي بالقاهرة، ولم يتم الافراج  عنهم  الا بعد نكسة 1967.
في هذه الفترة تقريبا عاود الفضول كتابة الشعر، بل وكتابة القصيدة الغنائية بشكل مكثف ،بعد أن كانت بالنسبة له نوعاً التنفيس، على نحو قصيدة شبان القبيلة التي لحنها في وقت مبكر" 1964" الفنان محمد مرشد ناجي وغنتها الفنانة  نجاة الصغيرة، والفنان  محمد صالح عزاني  في وقت لاحق، وأغنية  "رح لك بعيد" التي لحنها لمنى علي الفنان علي النسي.

يقول الفنان أيوب طارش عبسي إن أول تعارف له بالفضول كان في مدينة تعز في العام 1967، بعد أن صار أيوب اسماً معروفا وبدأت إذاعة تعز ببث تسجيلات لأغانيه الباكرة التي أرسلها من عدن للإذاعة  في العام 1965، ومنها أغاني  "بالله عليك وا مسافر لا لقيت الحبيب "،  "قد كان طبعك حلى"، "بس لا تأشر لي سلام بيدك"، وهي من كلمات أخيه الفلاح محمد طارش، بالإضافة إلى أغاني من الحان  أحمد عبد الرحمن الكعمدي " ارجع لحولك" و"رامي الغزال" و"واحبيب"  وأغنية عبده علي ياقوت الذبحاني "صُدفه من الصبح".

 أما بداية التعاون الفني بينهما كما يقول كان بثمان أغان تم تسجيلها في بيروت نصفها بمصاحبة الفرقة الموسيقية  "هات لي قلبك ،و يشتيك قلبي، و حبيت من فيه خاب الظن، ودق القاع" ، ونصفها الآخر بمصاحبة العود فقط  " نجم الصباح ،و  بكِّر غبش، و وادي الضباب ،و الليل والنجم ".

هذا التعاون سيصير في عقد ونصف من السنوات (1967ـ 1982) إختزالاً وتعبيراً لمعنى الثنائية  الفنية قي تظهيرها الأول في تعز.

(2)
كثيرة هي ثنائيات الشاعر والمطرب، التي اعتمدت بدرجة رئيسية على تقاربات ثقافية ولغوية  ونفسية ومناطقية، إن صح التوصيف بعيدا عن الحساسية السياسية ومحمولاتها .
ومن أبرز ثنائيات الغناء في اليمن، بعد ثنائية  الفضول وأيوب  ثنائية الشاعر " أحمد فضل القمندان والفنان فضل محمد اللحجي" وثنائية   "الشاعر حسين أبوبكر المحضار والفنان أبوبكر سالم باللفقيه" و ثنائية"الشاعر لطفي جعفر امان والفنان احمد ابن احمد قاسم" وثنائية " الشاعر محمد عبده غانم والفنان خليل محمد خليل"،  وثنائية "الشاعر عبدالله هادي سبيت" والفنان محمد صالح حمدون"  وثنائية " الشاعر أحمد عبد ربه العواضي والفنان أحمد السنيدار" وثنائية " الشاعر علي بن علي صبره والفنان علي بن علي الانسي" وثنائية " الشاعر "عمر عبدالله نسير والفنان محمد محسن عطروش" وثنائية " الشاعر "سلطان الصريمي والفنان عبد الباسط العبسي" وثنائية الشاعر" محمد الذهباني"  والفنان "محمد حمود الحارثي" وثنائية  الشاعر " محمود الحاج والفنان أحمد فتحي" وثنائية الشاعر" مصطفى خضر" والفنان "محمد عبده زيدي" غيرهم.

هذه الثنائيات استطاعت توصيل الأغنية الى آفاق رحبة  تتجاوز البيئات المحلية، التي قامت على أساسها الكثير من أعمدة هذا التشكل ،الى الجغرافيا الأشمل في كثير من الاوقات ،لكنها كثيراً ما كانت تعود  لتنكفئ على ذاتها وخصوصيتها المحلية، لتصير إرثاً متحفياً في تاريخ الأغنية، بسبب تفكك هذه الثنائيات، إما بموت أحد طرفيها أو خصومتها أو عدم تطورها . شهرة الفنان وحدها من حافظت، في كثير من الأوقات على ديمومة التواصل  والتوصيل ،على نحو انموذج حسين المحضار وأبوبكر سالم .

غير أن ثنائية الفضول وأيوب، وخلال ثلاثة عقود من موت أحد طرفيها " الفضول  في يوليو 82"، حافظت على حضورها دافئا في وجدان اليمنيين جيل بعد جيل، ليس لأن كلمات النشيد الوطني ولحنه كانت الحبل السري في عملية التواصل، وإنما جملة الأغاني  العاطفية والوطنية التي ارتأها الجميع أنها كتبت ولُحنت وغُنت لتكون خاصتهم بدون تمييز، لهذا لم يُجمِع اليمنيون  على شيء مثل إجماعهم على "أيوب والفضول"، لأنهم ارتأوا في إرثهما تجاوزاً لكل الحساسيات ، ونفذت الى أسماعهم ووجدانهم بدون مصدَّات لغوية ،لأنها في الأصل لم تنغلق على خصوصياتها المحلية.
 
(3)
المتابع لتاريخ الاغنية اليمنية، سيكتشف  أن السبب المباشر لانكفاء أكثر الأغنيات  على بيئتها المحلية والبيئات القريبة منها يعود الى استغراق كلمات الأغاني  في محليتها وإن تجاوزت هذه المعضلة تقع في فخاخ الموضوعات المتشابهة، ومكرورة الإيقاعات والألحان.

غير أن هذا الأمر سيختلف كلية مع الفضول وأيوب، إذ صارت الخصوصيات اللغوية، التي كُتبت بها النصوص  جزءاً حيوياً وفاعلاً من القاموس السلس، الذي يقترب من الفصيح، حتى وإن غرقت بعض الملفوظات في لهجتها المحلية الصرفة، فإنها تستبدل في بنائها  المفصَّح  باللهجوي في عملية إذابة شاهقة:

حبيت من فيه خاب الظن
والود قد ضاع
حبيت وأخلصت في حبي
لمن كان خدَّاع
يا ويل من حب مثلي
ضحى واخلص  وخاب
شاقول لمن حب قبلي
اني بجرحك مُصاب
واقول لمن حب بعدي
العز قبل العذاب
وقول لكل المحبين
إن المحبة سراب.

المقال خاص بموقع المهرية نت 

لماذا يشوهون عدن الجميلة؟!
الأحد, 10 ديسمبر, 2023
الجبايات بموازين حسَّاسة!
الأحد, 26 نوفمبر, 2023