آخر الأخبار
على ماذا تأسس الانقسام الثقافي في اليمن ؟ مقاربة للحافزات المناطقية والمعضلات الطائفية
الفلسفة المستديمة التي أنتهجها واتكأ عليها طويلاً نظام "علي عبد الله صالح" بتحالفاته القبلية والدينية والسياسية كانت إدارة البلاد بالأزمات المتلاحقة، و ذلك من أجل الهروب من الاستحقاقات الكبيرة التي يُدين بها كسلطة ونظام حكم للمجتمع.
الأزمات الاقتصادية ابتدأت بهندسة اختناقات طويلة ومتعاقبة تمنع وصول السلع الأساسية المتصلة بالمُعاش اليومي إلى المواطن البسيط ،فكانت تظهر وبشكل متلاحق " أزمات غاز وكهرباء ومشتقات نفطية وسلع تموينية" وترتب على ذلك أن كان يقضي المواطن ، وينفق من وقته الكثير في الطوابير أمام المحطات والمؤسسات، مطارداً حاجاته اليومية ، مديراً ظهره للسياسة والشأن العام ، وهو ما كان يريده النظام تماماً.
وملازمة لهذا التوجه تبنى النظام تنفيذ جُرعات سعرية قاسية ، مع تخليه النهائي عن دعم كثيرٍ من السلع الأساسية ، وكل ذلك حتى يفسح المجال أمام تخلُّق اقتصاد ظل موازٍ، مرتبط بشبكات الفساد الكبيرة التي تدير مفاصل السلطة، وسهَّل الطريق أيضاً أمام عصابات الداخل ابتكار وسائل عدة لغسل الأموال والمضاربة بها ، وتحويل البلاد الى محطة حيوية لتهريبها إلى مناطق الجوار، تماماً بذات طريقة تهريب الديزل المدعوم وبقية المشتقات النفطية إلى دول القرن الأفريقي بواسطة أسماء مرتبطة برأس النظام.
خلال سنوات قليلة تشكلت طبقة فساد جديدة في المجتمع لها فلسفتها ،ارتبطت بشكل مباشر برموز السلطة " سياسية وعسكرية وقبلية". وهذه الطبقة عملت على ضرب وتخريب القيم الأخلاقية للرأس المال الوطني بخبراته التاريخية الطويلة التي راكمها منذ ثلاثينيات القرن الماضي في مدينة عدن ودول المهجر ، واستبداله برأس مالٍ طفيلي موال يعمل بمقدَّرات الدولة وبحماية رموزها، وعمل في كل شيء ابتداء من تهريب المواد و السلع والاستحواذ على وكالات العلامات التجارية المسجلة باسم البيوتات التجارية المعروفة ، وانتهاء بمقاولات الباطن للشركات النفطية ، دون أن يجرؤ أحد على مساءلة مالكيه الحقيقين من رموز الحكم.
الأزمات السياسية بدأت باكراً ، وتحديداً منذ اقتران شرط توحيد البلاد بالديموقراطية والتعددية السياسية وحرية الإعلام، فعمل النظام على شق الأحزاب وتفريغها من حواملها المدنية ، قبل أن يخوض حرباً تحت لافتات الوحدة لإقصاء معارضيه وشركائه في صنع الوحدة، وتمترس النظام خلف حزبين رئيسين يمثلان تحالف الحكم " المؤتمر والاصلاح" فدُعِما بقوة، في الوقت الذي تم فيه التضييق على بقية الأحزاب إما بتجفيف مواردها أو تفتتيها وإقصائها بطرق شيطانية . ومع أول انتخابات برلمانية في أبريل 1997 صَفتِ الساحةُ على هذين الحزبين ، ليس لجماهريتهما الحقيقية وإنما للإمكانيات التي كانت توفرها خزانة الدولة وأجهزتها في توجيه أصوات الناخبين.
مع بقية أحزاب المعارضة تم استخدام كافة الوسائل لإعاقة تجديد نفسها بمنع الموارد عنها أو تعطيل عقد مؤتمراتها الداخلية ، حتى لا تُفرز، هذه المؤتمرات، مراجعات حقيقة لبناها التنظيمية وخطابها الجماهيري أو تعمل ضداً على تصعيد قيادات جديدة غير تلك التي استطاع النظام وأجهزته احتوائها وتدجينها، وربطها بشبكات مصالح ومنافع كبرى، وكان من مصلحة هذه القيادات تعطيل عقد مثل هذه المؤتمرات، وإن اُرغمت على ذلك تحت ضغط كوادرها ، في حالات نادرة، فإنها كانت تقوم بتوظيف الأموال "المدنسة" لتسيير مخرجات المؤتمرات الى الواجهة التي تخدمها.
وبذات الطريقة تم احتواء منظمات المجتمع المدني بإعادة هيكلتها وربطها بالنظام البيروقراطي من حيث حصولها على الموارد وتصاريح مزاولة النشاط ، وبهذه الطريقة استطاع النظام إعادة تدجينها بواسطة قيادات موالية والنموذج الذي يحضر في الذهن هنا هو اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، الذي " رُبط بالمؤسسة البيروقراطية للنظام المركزي بإعادة تسجيله مثل أي جمعية خيرية بعد حرب صيف 1994، ودمج مخصصاته بموازنة وزارة الشؤون الاجتماعية ، وهو فعل ساعد على تدجينه وانخفاض صوته السياسي، وساعد في ذلك أيضًا تواري قياداته الوازنة والمؤثرة إما بالموت أو بالإزاحة أو بإعادة ترتيب أوضاع البقية منها في مواضع حزبية ووظيفية، فصار الاتحاد كموقف وحضور استجراراً لماضيه.
وما لم يستطع النظام فعله طيلة ربع قرن فعله في سنوات قليلة من خلال فرض المحسوبين عليه، ومتساقطي الأحزاب في مواقعه القيادية، من خلال إعادة شروط التمويل والدعم أو شراء أصوات مقترعي المؤتمرات، وكان الهدف من ذلك توظيف إرث الاتحاد وتاريخه ضمن عملية "تنصيع" صورة النظام الشائهة، حين بدأ بتقديم تجربة الحكم الهلامية في البلد المتخلف بوصفها ديمقراطية ناشئة، بحاجة للإعانة والدعم الخارجي.
طال هذا الفعل أيضاً، وإن بتدابير أقل، نقابة الصحفيين اليمنيين واتحاد نساء اليمن واتحاد عمال اليمن واتحاد الفنانين وغيرها من الاتحادات والنقابات المهنية والإبداعية ، التي كان يؤملُ عليها أن تكون قاطرة للوعي الجديد في المجتمع، وكانت على مدى سنوات طويله حاضنة لصوت التنوير.
المنشغلون بقضايا التعليم يعرفون قبل غيرهم كيف تحول التعليم في اليمن إلى حصة طويلة من التلقين الموجَّه ، الساعي الى محو المحطات العقلانية في المنهج المدرسي، التي تراكمت في حصيلة الجمهورية الأولى، لصالح التعليم المعلَّب بشواغله الغيبية، والذي يعظِّم من مبدأ الإذعان، ولا يرمي في تربة العقل بذور الأسئلة في الحياة والكون ، وابتدأت المعضلة بإيجاد تعليم ديني مواز لأغراض سياسية ،عمل مسيروه على شق وعي المجتمع وإحداث الانقسام الأول فيه.
مع كل محطة لتدمير التعليم بحوامله العقلية، كان يبرز خطاب رسمي تسطيحي بموجهات إعلامية وثقافية ، لتمجيد الحاكم الضرورة بمنزعه الفردي الاستبدادي، وإعادة تصوير أفعاله في الحكم والإدارة كنموذج للاحتذاء ، فكان أن بدأت تتغلغل في الوعي الجمعي القيم الرثة، التي ترى في الفساد والتجاوزات والمولاة الرخيصة أفعالاً محمودة ينبغي التعايش معها للحفاظ على السلم الأهلي ، لهذا كان يُقَابل أي فعلٍ مناهضٍ لاستبداد الحاكم وفساده بخطاب إعلامي فج ، يهدد الجميع بالصوملة والأفغنة والعرقنة.
هناك مسألة خطيرة جداً عمل عليها النظام لتفكيك المشروع الوطني ، الذي ينهض على تماسك المجتمع وصلابة هدفه الاستراتيجي نحو عملية التحول ، وهي الاشتغال على تفاصيل التمزقات ببعدها الثأري والتمييزي .. وقبل ذلك تدمير البنية المدنية بحواملها الشابة في بعض المناطق التي كانت تعيق مشروع الحاكم ... كيف ؟ فعندما وجد النظام في الجنوب صوتاً مناهضاً لمشروعه الاستحواذي الباكر عمل على إعادة صياغة خطاب الثأر السياسي الذي تأسس على محمولات أحداث يناير، تماماً كما فعل في حملته ضد شريك الوحدة حين قام بتحريض المتضررين من قرارات التأميم وضحايا الصراعات منذ الأيام الأولى للوحدة. والتحريض ضد تعز باعتبارها المنطقة الوحيدة التي استحوذت على مقدرات البلاد في الشمال والجنوب ، تماما كما تم الترويج ضدها- في أوساط الجنوبيين- واتهامها باختطاف قرار الحزب والدولة في الجنوب بواسطة رموزها السياسية التي وصلت إلى مواقع حساسة، مكنتها من إشعال و إدارة الصراع بين أبنائه.
تم إغراق عدن وتعز والمكلا بالممنوعات ، وعملت أجهزة النظام على تسهيل ترويجها في أوساط الشباب، فصار الإدمان سمة واضحة بين أبنائها، و كان الهدف منها تحييد هذه الطاقات الجديدة من الانشغال بقضايا المجتمع والشأن العام .
هذا التفكيك المنظم لقيم المجتمع ، وبذر الشقاق بين مكوناته كان الهدف منه صرف نظر الجميع عن المطالبة باستحقاقاتهم وشراكتهم في السلطة والثروة على اُسس مواطنة غير تمييزية ، لكن مع مرور الوقت تحولت هذه السياسات إلى عبئ على النظام نفسه ، إذ لم يلبث طويلاً هذا المشروع في التمدد حتى انفجر من داخله ، وانقسم رأسياً ، ليقود هذا الانقسام إلى جملة انقسامات أخطر وأنكى على الأرض، ومنها الانقسام الثقافي الذي نحن بصدد مقاربة تحققاته المناطقية والطائفية.
كتبت قبل فترة عن المثقفين اليمنيين وخطايا الاستبداد و الحرب وقلت إن (الاستقطابات القوية، في أزمات البلاد المتعاقبة، امتدت لشريحة المثقفين، الذين بدأوا بالتحوصل داخل هوياتهم الأضيق (السياسية والمناطقية والطائفية)،حين لم يجدوا المؤسسات الثقافية ،التي ينتمون إليها ، قادرة على حمايتهم ،والتعبير عن استقلاليتهم ،وقبل هذا إذابة أحاسيسهم بالتمايز داخلها، فصاروا مع الوقت عنوانا لانقسام المجتمع ،عوضا عن وحدته وتماسكه.
بل وصاروا عنوانا لمتاريس المتحاربين في كل الجبهات، لأنهم ببساطة لم يستطيعوا تشكيل صوت نابذ للحرب ومجرَم لها، بسبب الضغوط الشديدة عليهم، وبسبب هشاشة تكويناتهم الفكرية، التي من المفترض أن تكون عابرة للجغرافيا والطائفة والعائلة.)
(2)
أما الحالة الأكثر تمثيلاً لحالة الانقسام هذه كانت في إعلان ولادة اتحاد أدباء وكتاب الجنوب في 2018، في انشقاق سرَّعت فيه جائحة الجنوب الثانية في العام 2015 لكن قبل ذلك كانت ثورة فبراير 2011م قد عرِّت النظام وكشفت هشاشته. ساحات الشمال كانت تطالب بإسقاط النظام وساحات الجنوب كانت تطالب بإسقاط الوحدة، وليس لاتحاد الأدباء من صوت واضح حيال ما يجري. وفي هذا التوقيت تحديدًا بدأت الاستقالات من عضوية الأمانة والمجلس من أسماء جنوبية وازنة، أعلنت صراحة سعيها لتشكيل اتحاد أدباء وكتاب جنوبي.
بروز المجلس الانتقالي كوريث لكل فصائل الحراك، ومعبِّر سياسي وعسكري لصوت فك الارتباط مع الشمال في مايو 2017م، كان اللحظة المثلى التي استثمر فيها الصوت الداعي لتشكيل اتحاد أدباء وكتاب الجنوب، واستطاع في ذكرى استقلال الجنوب في 30 نوفمبر 2018م إعلانَ هذا الكيان وبدعم من المجلس، كتعبير جليّ عن موجة سياسية عاتية أكثر منها فعلًا ثقافيًّا ونقابيًّا يمكن ترسيخه كمفهوم للتنوع.
خلال عامين من بروز هذا التكتل ستتبدى في حالة الانقسام ما هو أخطر من هذا ، حين تم الفرز داخل بنية المثقفين ليس على أساس ومناطقي أو جهوي سياسي وإنما على أساس طائفي تمييزي ، وعبرت عنه حالة السجال الشديد التي أعقبت تسريب لائحة قانون الزكاة ، التي أصدرها " الحوثيون في صنعاء" لتكريس حالة تميزية عنصرية في المجتمع ، واتضح من هذا السجال أن صوت المثقفين " الهاشميين" في هذه المعركة غائب تماماً، ولا يُبرر غيابه سوى تواطؤه الفج مع هذا المنزع لحركة عنصرية طالما تباهى أكثرهم بمسيرتها التجريفية لهوية اليمنيين .
هذا الصوت بحضوره الأدبي والإعلامي ، داخل اتحاد الأدباء ونقابة الصحافيين والمؤسسات الثقافية الأخرى، وعلى مدى سنوات ظل يقدم نفسه باعتباره صوتاً مدنياً ضد احتكار الدين واستبداده، لكنه مع ابتلاع " الحوثيون الهاشميون" للسلطة والثروة في صنعاء ومحيطها وبعض المحافظات في الغرب والوسط والشمال، صاروا تبشيريين كبار للحركة الرادِيكاليَّة التي تسعى لاسترداد اليمن كإرث مملوك للسلالة ، ولم نسمع منهم صوتاً نابذاً أو مجرِّماً لتجاوزاتها الدموية، ولا لتجريف الوظيفة العامة سلالياً على حساب ألوف الكوادر المؤهلين من غير الهاشميين ، لأن المسالة مرتبطة بانتفاعاتهم التي لا تنتهي من هذا التجريف ، بما فيها صِيَغ الخُمس في لائحة قانون الزكاة ، التي تميزهم عن سواهم من اليمنيين.
(1) ينظر مقال للكاتب تحت عنوان "عندما ينقسم اتحاد الأدباء اليمنيين إلى جنوبي و شمالي" https://www.alfaisalmag.com/?p=15644 مايو 2019
(2) ينظر مقال للكاتب في مجلة نزوى العدد 102 ابريل 2020https://www.nizwa.com/%D8%A5%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%AC-%D8%B5%D9%8A%D8%BA-%D8%A3%D8%AE%D8%B1%D9%89-%D9%84%D9%84%D9%87%D8%A7%D9%85%D8%B4/
المقال خاص بموقع (المهرية نت)