آخر الأخبار

كيف أوصلوا اليمن الى عين العاصفة ؟!

السبت, 06 يونيو, 2020

التغريدة التي أطلقها عبد الخالق عبدالله  مستشار محمد بن زايد بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على اعلان دولة اليمن الموحد  والتي قال في جزء منها (ليس هناك  قوة في الكون قادرة على إعادة اليمن لما كان عليه...)  هي تحصيل حاصل لما أحدثته  أزمات البلاد المتلاحقة ، السياسية منها والاقتصادية  ، وتوَّجتها بهذه الحرب العبثية التي تعمل على تفكيك التراب وهتك النسج المجتمعي لليمنيين ، بأدوات وكلاء الداخل و "شُقاته"  لمصلحة رعاة المحيط والإقليم  ، بما  فيهم الراعي الذي يعمل  له الناعق  مستشاراً.  ولن تعود اليمن  الى ما قبل مايو 1990، لأن التجريف الذي طال كل المكتسبات السياسية لهذا المشروع الوجودي الكبير ، وأطفأ جمرة المشاعر الوقادة  تجاه الوحدة كان فضيعاً ومؤلماً .

لم تبلغ اليمن عين العاصفة ، الا وقد كانت الأزمات والإحتفانات  والحروب شمالاً وجنوباً قد أوصلتها نقطة اللاعودة ، و لا يمكن السيطرة عليها أو تخطيم  جموحها ، فارتدادات ثورة الربيع العربي ،التي تحولت الى ثورات مضادة  بأموال نفط الجوار ، كانت قاسية جداً وابتلعت معها أحلام الشارع العربي في التغيير ،التي ابتدأت ، في الأصل، مع ركوب تيار الإسلام السياسي ، بأموال نفطية أيضاً ، للثورات الشعبية في أهم حواضنها ( مصر وتونس).

استغل مهندسو الثورات المضادة  -  في أبو ظبي والرياض -  شَرَه  وجَشَع "جماعات الإسلام السياسي"  الموالية لقطر وتركيا الساعية لإبتلاع السلطة في بلدان الربيع ، فعملوا  على تهييج الشارع  ضد الحكام الجدد ، بخطاب إعلامي  تحريضي مستحكم . وعملوا في ذات الوقت على تحويل الثورات الشعبية السلمية التي تطالب بالتغيير السلمي الى حروب أهلية دامية ،  أحد  أبرز عناوينها كان سلاح التطرف وفتاوى جماعات التكفير ، التي اُستنبتت في جسم الثورات السلمية، لتشويهها في سوريا وليبيا والى حد بعيد اليمن.

نجحت ثورتهم المضادة  في مصر بعد أقل من عام من انتخاب الرئيس الإخواني محمد مرسي، بعد أن أعادت الحياة الى مؤسسات الدولة العميقة وعلى رأسها جهاز الإعلام ، الذي استطاع  ،في فترة وجيزة،  أبلسة الجماعة بذات أدواتها التي ظلت تؤبلس  بها خصومها لسنوات طويلة.

في تونس كانت الخضة أقل لأسباب ثقافية وسياسية، غير أن إستنبات جماعات جهادية كأذرعٍ لحركة النهضة الحاكمة ، وقامت بتنفيذ عمليات تصفيات للخصوم من التيار المدني العلماني ، والتعدي على مظاهر الحياة المدنية مثل الملاهي والإستراحات البحرية، وكذا التعدي على المزارات الدينية الشعبية ،  كادت أن تعصف بالبلد  المتوسطي المختلف.

وعودة الي الحالة  اليمنية  نقول لا يمكن  قراءة المشهد "الآن" دون تفعيل معاينة - ذات طابع  استرجاعي-  لمحطات الاختناق التي عصفت بالبلد خلال العقود الثلاثة المنقضية ، منذ تحقيق الوحدة .  وبعيداً عن الدوافع التي قادت نظامي الشطرين - سابقاً- الذهاب الى وحدة اندماجية فورية  آنذاك ، وتحاول  الإسقاط عليها عديد القراءات الموجهة الآن ، لا يستطيع أحدٌ أن يتجاهل سمو الفكرة ونبلها  وحتى جدواها  السياسية والاقتصادية في الجغرافية الفقيرة في تلك الظروف. غير أن العمل المتقن لتدمير الوحدة من داخلها ، وإبطال حواملها المدنية السلمية  بافتعال أزمات وتصفيات دموية ، ومن ثم خوض حرب ابتلاعية  باسمها ، كان الهدف منها ازاحة شريك الوحدة ( لانتمائه للعهد الإيديولوجي القديم) ، ليسهل على تحالف الحرب - من أصحاب الثارات القبلية السياسية والدينية مع الاشتراكي اليمني -  إغتنام الجنوب  ونهب مقدراته في البر والبحر  ، والأخطر طمس هويته الثقافية ،والغاء مكتسبات أبنائه الاقتصادية و الاجتماعية.

وأول عمل تم بعد  حرب جائحة الجنوب كان إحداث تبديلات جوهرية في دستور دولة الوحدة، وإبعاد مئات الكوادر والخبرات العسكرية  والمدنية، واستبدالهم  بموالين  محسوبين على أطراف تحالف الحرب  القبلي والديني والعسكري ، والذي أدار البلاد بمزاج الثأر، وكان لمرور الوقت أثرة في بروز التناقضات داخل التحالف  بسبب الخلاف في اقتسام السلطة و الموارد.

في مطلع الألفية  كانت صفقة الحدود (اليمنية السعودية) قد وصلت أتعابها ورشاها الى حسابات الرئيس والشيخ  وصف الموقعين الرئيسيين. كان في هذا الوقت صالح اكثر اطمئناناً ، للعب على ملفات أخرى في الداخل ،بعد أن ظن بأمنه من مكر الخارج (الجار). فبدأ بخطوات (التشبيب) داخل الأسرة بتمكين الأولاد- إبنه وأبناء أخيه- من إمساك الملفات الأمنية والاقتصادية والعسكرية  الحساسة ، بعيدا عن عجائز العائلة، والذي سبق وان تخلص من أعتاهم في مروحية صحراء حضرموت الشهيرة منتصف أغسطس 1999، في خطوة اُشتِّم منها أولى مراحل تجاوز عقبات التوريث .

  الاعتداءات الإرهابية علي المدمرة الأمريكية  يو.إس.إس كول في 12 أكتوبر 2000 في ميناء عدن. قبل قرابة عام من غزوة نيويورك -11 سبتمبر 2001 -  ثم على الناقلة الفرنسية " ليمبورغ "  قرب المكلا  بعد عام ، فتحت نافذة أخرى لعلي صالح ليطل منها على العالم الخارجي، بوصفه لاعباً في مكافحة الإرهاب، فعمل على ابتزاز الخارج  بقيادات قاعدية - اتخذت من جبال اليمن وصحاريها مركزاً بديلاً لتحركاتها بدلاً عن جبال أفغانستان - من أجل تمرير مشروع التوريث وإضعاف خصومه.

ابتزازٌ موازٍ مارسه على السعودية  بإطلاق جماعة (الشباب المؤمن/ الحوثيون لاحقاً) الموالية لإيران  في خاصرتها الجنوبية الرخوة ، وخاضت معها، من خلال قوات على محسن،  تسعة حروب صورية في أقل من عقد ، ابتدأت في العام 2004 ، وكانت تخرج الجماعة بعد كل واحدة منها أكثر قوة.

في انتخابات الرئاسة في العام 2006، وجد علي صالح نفسه بدون حلفائه التاريخيين، الذين اصطفوا مع بقية أحزاب المشترك  خلف مرشح المعارضة فيصل بن شملان، فلم يجد أمامه سوى اللعب مرة أخرى بملف الإرهاب في ابتزاز جديد للخارج، وكان ذلك من خلال إطلاق المتهمين في قضية المدمرة كول من سجن الأمن السياسي بتمثيلية مفضوحة  - حفر الأنفاق بالملاعق – وكان أول عمل قام به هؤلاء  بعض التفجيرات قرب منشآت مأرب النفطية ، قبيل الانتخابات الرئاسية بأيام ، وجهها صالح لدعم ترشيحه والاَّ فالبديل هو غولٌ كامنٌ في ظله . اُعلن عن فوز صالح في تلك الانتخابات  دون أن يعترف بنتائجها بن شملان حتى وفاته.
ما بعد انتخابات 2006 لم تكن كما قبلها ، في البلد الذي تفنن صالح وطبقة حكمه  بإدارتها بالأزمات المتلاحقة، اذ ستطفو الى السطح في 2007 القضية الجنوبية من خلال حراك سلمي نبيل - سبق في ظهوره الكثير من حركات الاحتجاج السلمي في البلدان العربية المأزومة - . هذا الحراك الذي نهض على إرث الخطاب الباكر المطالب بإصلاح مسار الوحدة، قبل أن يتحول الى احتجاج ذا طابع مطلبي بحل قضايا المتقاعدين المدنيين والعسكريين الذين قذفت بهم الحرب خارج الوظيفة العامة ، بمرتبات هزيلة لا تسد افواه أسرهم الجائعة.

ادى تعامل النظام مع هذا الموضوع بخفة وتعال ، وتالياً مع الإحتجاجات التي رافقته في مدن الجنوب بقسوة أمنية ، الى تعظيم المشكلة ، لكنه حين بدأ استشعار الخطر أنتج حلولاَ  ترقيعية في ملف الأراضي والممتلكات المنهوبة، غير أن الأمر كان قد فلت من يديه تماماً، وصارت المطالب الحقوقية شعاراً سياسياً يطالب بدولة فيدرالية من إقليمين شمالي وجنوبي، قبل أن يركب الموجة "التيار الراديكالي" الذي رفع شعار فك الارتباط  واستعادة دولة الجنوب.

في ظل أزمات بنيوية متلاحقة أطلقت أحزاب المعارضة مبادرات وتشكيل لجنة للحوار ، غير أن سلطة صالح ظلت تتعامل بخفة معها ، وفي ذات الوقت تناور بأوراق مختلفة ، ومنها ورقة تعديلات دستورية جديدة تمنح المناطق حكم محلي بصلاحيات كبيرة – الهدف منها احتواء الحراك الجنوبي -  وفي ذات الوقت تمنح  هذه التعديلات الحاكم موقعاً مؤبداً ( نظرية خلع العداد).

مع تباشير الربيع العربي الذي بدأ أواخر العام 2010  مع حادثة البوعزيزي في تونس ، وتحوله في اليمن الى احتجاج سلمى مع فبراير 2011 ، لم يستطع  النظام الأمني احتوائه عنفاً أو سلماً، وما رافق ذلك من التباسات ، بهروب أركان نظام صالح الى ساحات الاحتجاج، وإعادة  تسيير الاحتجاجات  بأدوات حلفائه التاريخيين. عنف النظام الذي رافق تلك الاحتجاجات السلمية ومنها احراق ساحة الحرية بتعز وقبلها مذبحة جمعة الكرامة وحرب الحصبة، وصولا الى العنف المضاد بتفجير جامع الرئاسة ، سرَّعت من إنتاج المبادرة الخليجية والتوقيع عليها في نوفمبر 2011، وأتاحت لصالح وأركان حكمه  عفواً غير مشروط ( قانون الحصانة).

لم يترك علي صالح  خليفته ونائبه السابق (منزوع القوة) والمنتخب  في فبراير 2012 يحكم بهدوء ،بسبب بقاء القوة بيديه.  وحين ذهب الجميع الى مؤتمر الحوار في 18 مارس 2013  برعاية دولية عمل بكل سطوته  لإفشاله ، في ذات الوقت الذي كان يرسم  فيه تكتيكات  لتحالفات جديدة مع خصوم الأمس ( الحوثيون) من أجل التخلص من  حلفاء الأمس وخصوم اليوم ( الإصلاح ومحسن وبيت الأحمر) والذين كان  لدى الحوثيون ثأراً عندهم .

وقبل ان يصل مؤتمر الحوار  الى محطته الأخيرة ، كانت القوات الحوثية  تقاتل من أجل إجتثاث أخر رمزٍ للتدين السلفي  في منطقة دماج - استنبتته السعودية ونظام صالح مطلع الثمانينيات في عمق المنطقة الزيدية في صعدة - ، وحين صاروا بالقرب من معقل أسرة الشيخ الأحمر حلفاء السعودية التاريخيين في منطقتي حوث وخمر، بدأ اعلام صالح بشيطنة  (جِهَّال الشيخ) أمام السعودية والامارات  واتهامهم بالأخونة وموالاة قطر وتركيا،  فقامت الأولى برفع الغطاء عنهم كنوع من التأديب ، والثانية بتقديم الدعم العسكري اللازم بواسطة السفير اليمني في ابو ظبي (نجل صالح)  في إطار سياسة  محاربة الإخوان.
في يوليو 2014سقطت عمران وهي آخر معاقل الإصلاح وحلفائه القبليين في شمال صنعاء بأيدي قوات الحوثي وجيش صالح المتخفي فيها. و منها تم الزحف على صنعاء ومحاصرتها وتالياً اسقاطها في 21 سبتمبر، في ذات الليلة لتوقيع اتفاق السلم والشركة الذي جرَد هادي وحكومة باسندوة  والإصلاح وحلفائه من كل أدوات قوتهم السياسية.

تشكيل حكومة الكفاءات الوطنية، بناء على صيغة الاتفاق الجديد برئاسة خالد بحاح كانت محاولة لترقيع معادلة مختلة في الأصل، لتسقط هذه الحكومة مع الاعلان الدستوري الحوثي واستقالة الرئيس هادي في 22 يناير 2015.

بعد  افلات هادي  وهروبه الى عدن  في 21فبراير وإعلانه العدول عن استقالته، وإعلان عدن عاصمة مؤقتة للبلاد ، قام الحوثيون وصالح بضرب مقره بالطيران ، وتالياً  اجتياح مدن الجنوب في إعادة لجائحة صيف 1994  ، فاضطر هادي الى الهرب الى عُمان ومنها الى السعودية ، في ذات الليلة التي أعلنت فيها السعودية إطلاق عاصفة الحزم لإسقاط الانقلاب وعودة الحكومة الشرعية، وهو امرٌ لم يحدث  حتى الآن ، فالحكومة والرئيس يتنعمون  في فنادق الرياض، والانقلابيون يديرون البلاد المتهتكة  ،بالانقسام والاوبئة والجوع ، من صنعاء وعدن.
 
المقال خاص بموقع "المهرية نت"
 
 

لماذا يشوهون عدن الجميلة؟!
الأحد, 10 ديسمبر, 2023
الجبايات بموازين حسَّاسة!
الأحد, 26 نوفمبر, 2023