آخر الأخبار
عن المقالح والأمل الذي لا يستطيعون إماتته !!
عمدت قوى الأزمة والحرب وبأغطية رعاتها الإقليميين والدوليين وتمويلاتهم إلى انتاج صورة معتمة عن حال المجتمع، وتضخيم حالة تهتكه وانقسامه وارتفاع منسوب الكراهية بين أبنائه ،مستخدمة في ذلك خطاب إعلامي سائل وبلا ضمير، الهدف منه السعي الحثيث لإتمام مشروعها التفكيكي الذي هُندس له بعناية فائقة ، وعلى أساسات ومحمولات طائفية ومناطقية وجهوية شديدة التعصب والانغلاق؛ أما أسهل طرق الوصول إليه هو استدامة الحرب وتقوية أدواتها.
غير أنه و بعد ثمان سنوات لم تعد تستطيع هذه القوى أن تقدم من الوعود لجمهورها أكثر مما قدمته، ولن تستطيع أن تصل يدها ، في النهب والسطو والتجريف، إلى أبعد ما وصلت إليه، ولن تستطيع الايغال في التدمير ولُعب الدم أكثر مما غاصت فيه.
ففي وعودها لم تستعد دولة ،ولم تبن مؤسسات ،ولم تصرف المرتبات، ولم تكافح الفساد والمحسوبية، وعوضاً عن استعادة الدولة تفننت من بناء سلطة التمكين للمحاسيب من السلاليين والقرويين والموالين ، وبدلاً من صرف المرتبات ضاعفت من الجبايات المفروضة على كل شيء، ليتحمل ثمن ذلك المواطن من قوت أسرته الشحيح ،وصار الفساد بتبريراته الدينية والسياسية هو الفاعل الظاهر والنزاهة هي الفعل المستتر وتداري فضائحا في كل منعطف في زمن السلطويين والميليشاويين الجدد والقدامى.
المزاودة بشعارات خادعة مثل هذه لم تعد تنطلي على المجتمع بتكويناته المتعددة وتمدده الجغرافي، حتى وإن سخّروا كل شيء لماكينة إعلامية عملاقة تعمل على انتاج صورة خادعة ومظللة وتضخيمها في وعي العامة.
لم يعد المواطن البسيط ينجذب إلى الشعارات السائلة التي ترفعها قوى التناحر الميليشاوي في شمال البلاد وجنوبها، وهو اليوم أكثر نقداً وفضحاً لها ، ليس في الغرف المغلقة كما كان يفعل بالأمس أو بالتخفي في الفضاء الأزرق ، بل صار يقولها في الفضاء المعُاش فعلاً ( الشارع، المقهى، وسائل النقل) ، ولم تعد ترعبه وسائل وأدوات السلطة الأمنية التي كانت تُستخدم ،ولم تزل، لإسكات الجوعى والمقهورين، ولم تعد لافتات التجريم القاسية ( باسم استعادة الدولة) تؤتي اُكلها في مواقف كثيرة يسجلها المقهورون، الذين اكتشفوا أن تجريف سلمية المدن وهتك نسيج التعايش الذي غزلته لعقود طويلة، هو السلاح الوحيد للقرويين الباحثين عن سلطة يغتنموها ،وليس استعادة دولة بوسائل سياسية حضارية تجتذب الجميع للدفاع عنها.
انخراط الكثير من المثقفين والساسة والوجاهات الاجتماعية في مشاريع التفكيك التي يقودها رعاة الحرب ووكلائهم في الداخل ، هو جزء من غوايات التكسب التي اتاحتها سنوات الحرب واقتصادها البشع بعجلته غير المتوقفة، وإلاَّ أي عقل وضمير يمتلكه أمثال هؤلاء وهم يروجون أو يعملون في منظومة فاسدة ومتخلفة، يقوم مشروعها على الاستعباد والسيطرة وبأدوات عصبوية قاهرة، لا تنتصر لأي من معاني الحياة، فيصير أصغر مشرف جاهل أو ضابط أمني هبطت على اكتافه طيور ونجوم من سماء قريته المعزولة هو ولي نعم ، ومسيِّر الرغائب الصغيرة عند هؤلاء.
تستطيع هذه القوى ترحيل وتأجيل أحلام المجتمع وآماله العريضة في حياة هادئة وكريمة، وتستطيع التشويش عليها بوسائل متعددة، أو قمعها بأدوات شتى وإلى حين، لكنها لا تستطيع إماتتها في ضمائر الناس ووعيهم.
(**)
اكتظت قاعة مركز الدراسات والبحوث اليمني يوم الأحد الماضي بأكثر من طاقتها الاستيعابية من الجمهور الذين حضروا فعالية تابين فقيد اليمن وشاعرها المتفرد الدكتور عبد العزيز المقالح في رسالة واضحة لجميع التجريفيين أن رمزاً جمهورياً وحداثياً، لعب الأدوار الأولى في مناهضة مشاريع التخلف والانكفاء ينبغي أن يؤبن كما ينبغي لاسم كبير ، حضرت اليمن في ضميره ووعيه لسنين طويلة، فكان بوابة التعريف الثقافي والأدبي لمحيطها وللعالم أو كما قال أديب عربي معروف هو جودت فخر الدين:" تصدَّر المقالح المشهد الثقافي اليمني عقوداً عدة ، ولما كانت اليمن في هذه العقود تعاني من العزلة والبعد عن مراكز النشاط الثقافي في العالم العربي، فقد شكَّل نافذة ثقافية لليمن على الخارج"
أو قول الدكتور عبد العزيز السبيل:" معظم مؤلفاته ذات صلة بتاريخ اليمن، وأدبه وشخصياته، اليمن الواحد بجغرافية شمولية, عبرت كتبه الحدود السياسية الشيقة ، وأهداها للقارئ العربي الذي ظل متعطشاً لمعرفة ثقافة أرض سبأ، أما دواوينه الشعرية فمعظمها يحمل رائحة اليمن".
كان الجمهور يقف مصفقاً ومحتفياً بأي من ملفوظات المتحدثين وتشير إلى معنى من معاني الثورة والجهورية والحداثة والتنوير، ارتبطت بتاريخ الرجل في ستين عاما، والتي اختزلها نجله المهندس محمد عبد العزيز المقالح في تقديمه للكتاب حين قال:
"ستّون عاماً.. ستّون كتاباً.. ستّون حياةً.. كلُّ ذلك انبثق من بين تلك الأصابع المضيئة المتّكئة على تلك الرّكبة المنثنية ويشدُّ كل ذلك انحناءةُ ظهرهِ المتقوّسةِ المنهمكةِ على قلمه وأوراقه، كأنه يحملُ بلاداً على ظهره!
لم يجلس على مكتب ليكتب طوال عمره.
وحتى حين كان يستقبل زوّارهُ وضيوفه وطلَبَتَهُ في المركز أو الجامعة كان يجلس إلى جوارهم جنباً إلى جنب.
في ظهيرةِ فاجعةِ رحيله، وبعد أن أضاءَ وجهُهُ بلقاءِ ربّه، وأضاءت شهقتُهُ الأخيرةُ المكان، مستلقياً على جنبِهِ الأيسر، كانت أصابعُهُ تضيء على ركبتهِ التي أبَتْ إلا أن تظل واقفةً منثنيةً كعادتها لحظة ميلاد القصيدة. حاولنا فَرْدَها بلا جدوى!
في روحي في روحنا جميعاً.. في حنايا بلادٍ بأكملها لن ينطفئ ضوءُ تلك الأصابع المضيئة أبداً.. ولن تتهاوى عزائمُ تلك الركبة المنثنية الواقفة المنتظرة.. وسنظل حاملين على ظهورنا أحلامَ بلادٍ وآمالَ شعب وكما تريد يا أبي الحبيب."
المقال خاص بالمهرية نت