آخر الأخبار
أمي ورمضان والقرية !
اتصلت بي أمي ثم باشرتني على الفور "رمضان" ، وكان ذلك كافيا لأفهم أن علي العودة إلى القرية .
التمعت فجأة في داخلي عشرات الفوانيس الصفرء ، وانفتحت لحظتها أمام عيني دروب كثيرة نحو المنزل ، ونسيت في غمرة ذلك الطرقات العسيرة والملتوية التي علي أن أخوضها قبل أن أصل . نسيت النقاط الأمنية والتفتيش والتحقيقات والحذر . الحذر الذي يجب على كل من أراد دخول مدينة تعز أو الخروج منها أن يلبسه قبل قميصه وألا ينزعه قبله .
في سنوات سابقة كان الحنين لمساءات الشفوت والماكرونة ودراما الكوميديا والأصدقاء والتراويح والسهر يستيقظ في نفسي باكرا جدا ، حتى أنني لا أبالغ إن قلت أن أحد عشر شهرا في العام لم تكن بالنسبة لي كطفل سوى فاصل طويل وممل بين رمضانين ، ولطالما كانت هذه الكلمة "رمضان" تتشابك في ذهني مع كلمة أخرى " القرية" فلا تكتمل دلالتها تقريبا إلا بها.
يلوح رمضان فتتداعى القرية تلقائيا إلى الذهن . لكن هآنذا أحتاج صوت أمي كواسطة بين رمضان والقرية وقبل خمسة أيام فقط من دخول الشهر .
رمضان موسم للكثير من الأشياء ويتشكل على هوى كل شخص. هو مناسبة للتعبد والنوم والسهر والهدوء والصخب والتقشف والنهم أو أي شيء ، لكنه يعني لأمي شيئا واحدا قبل كل شيء : عودة أبنائها إلى البيت ، ولا سبيل إلى التفريط في ذلك .
لا يبدو أن لدي أكثر من خيار بعد اتصال أمي ، وعلي أن أجد طريقا إلى البيت ، وقبل ذلك طريقة للتحرر من كسلي المستجد الذي يلهمني دائما البقاء حيث أنا . منذ مدة وأنا هكذا ، أريد أن أصل الأيام والشهور أو حتى السنوات ببعضها في دائرة محدودة بعد أن فقد التنقل سحره لأسباب عديدة .
مؤخرا قلما أقرر السفر دون أن أندم على ذلك لاحقا بسبب ما تقذفه الطريق في وجهي من مشاق لا تنتهي .
لا يزال اسم رمضان قادرا على حشد الذكريات الدافئة بصورة كثيفة ، ولا تزال هذه الذكريات بدورها على حالها من القدرة على إغراق الروح وسط نشوة طفولية غنية بالإحساس ، ومع ذلك فإن لوحة" رمضان القرية" كما صعدت إلى مخيلتي في إثر محادثة أمي تبدو بعيدة جدا ولا سبيل لاستعادتها ولو جزئيا إلى الواقع .
لقد ساهمت أنا عبر نمط حياتي المقلوب على مدار السنة في إفساد الطبيعة الإنقلابية لرمضان ، حيث لم يتبق الكثير ليتغير في شكل يومي خلال رمضان بعد أن كنت مسبقا قد اعتدت على السهر معظم الليل والنوم كثيرا من النهار .
أصدقائي أيضا كأهم الأجزاء في اللوحة يتعذر لقاؤهم ، ومع أن الموت الوفير في السنوات الأخيرة كان متساهلا معي إلى حد كبير ولم يطو أحدهم ، إلا أن الحدود الجغرافية التي تتكاثر عاما بعد عام قد تولت هذه المهمة السيئة . وكأن الغربة خارج حدود الدولة التي كانت تعزل بعض الأصدقاء كل سنة لم تكن كافية حتى صار لكل مدينة حدودها المغربة والتي يتعذر عبورها نحو القرية دون مخاطرة كبيرة .
سألت أمي عن صلاة التراويح ، وهل يعتزم الناس الإجتماع للصلاة كل ليلة مع استمرار تهديد فايرس كورونا . ظنت أمي أني أحاول الإطمئنان على وجود مبرر مقبول لأتهرب من الصلاة كعادتي كل عام . قالت أنها ليست متأكدة بعد ، وشعرت أنا بحزن إضافي :
ها هو جزء آخر من اللوحة مهدد بالاختفاء!
*المقال خاص بموقع"المهرية نت"