آخر الأخبار

(ديعاصر) ذبابة سقطرية مرعبة تنهك الإنسان

الجمعة, 13 نوفمبر, 2020

لم تقف سقطرى عند حد معين من الغرابة والعجب، كل شيئ فيها يدعو للدهشة والتأمل، حتى حشراتها ويرقاتها مدعاة للوقوف عندها لمعرفة ما أودعها الله من غرابة ودهشة.


(ديعاصر) ذبابة سقطرية غريبة عجيبة، هي تشبه الذبابة في الحجم والشكل، إلا أنها تكبرها قليلا، وتختلف في لونها قليلا أيضا، فهي تميل إلى اللون الرمادي أكثر من الذباب العادي، كما تختلف في المهمة والأداء.


(ديعاصر) تحوي في بطنها حشرات صغيرة جدا تعد بالمئات، لا يكاد يراها الإنسان إلا أن يضع عليها قطرة من ماء أو يتفل عليها، حينها يراها تتحرك، ويلحظ أشكالها البيضاء.


(ديعاصر) لها مهمة خبيثة تقوم بها، وهي التحين والتربص بالشخص للحصول على فرصة مواتية لقذف تلك الحشرات في فمه أو أنفه، أو عينه، أو حتى أذنه، فمجرد أن ترمي بها تتحرك الحشرات بسرعة فائقة لتصل إلى الأماكن الرطبة من تلك المنافذ، ثم تنتشر وتتفرق، وما إن تصل إلى مكان الرطوبة حتى يشعر الإنسان بحكة شديدة، وحركة غير طبيعية، فإذا كان المكان المستهدف الفم (وهو مكانها المفضل) فيشعر الإنسان بالكحة الشديدة، وألم في الحنجرة، وغثيان شديد، وضيق في التنفس، وهو حينها في وضع لا يحسد عليه. حينها يعرف مباشرة أنها (ديعاصر)، فينتابه الخوف والقلق، ويدخل في نوبة من الكحة الشديدة، والألم في الحنجرة والصدر والشرايين، والغثيان المستمر، ويضيق به النفس.


أما علاجها فهناك أدوية تقليدية يستخدمها الناس، وأكثرها لا تسمن ولا تغني، بل بعضها تجلب مصائب أخرى، منها التدخين، فيقوم أغلب الناس فورا باللجوء إلى مز الدخان السقطري (التنباك)، حتى تمتلئ رئتيه وصدره منها، ويعتقدون أن ذلك يخفف من الألم والكحة. وبعضهم يقول أن لحى شجرة تعرف ب(مترر) تخفف من حدتها، فيقومون بطحن اللحى ومضغه مع ما فيه من ماء. بل يلجأ بعضهم إلى شرب السموم والمبيدات التي تستخدم في قتل الجراثيم والحشرات، فهم يعتقدون فعاليتها، ولا شك أن في ذلك خطر كبير على الشخص.


أما أماكن تواجدها فغالبا تتواجد حيث تتواجد الحيوانات، وخاصة مع ارتفاع حرارة الشمس في الصباح والظهيرة، وكذلك مع الغروب، ولا تتواجد في الليل.

وأهم الفصول التي تتكاثر فيه هو فصل (تار دجحڜ) بالشين الجانبية، فهي تتكاثر في هذا الفصل وتتزايد، وخاصةفي أماكن الرعي، بل في كل مكان. ووقت (تار دجحڜ) هو الوقت الذي يلي فصل الخريف مباشرة وتوقف رياح (مده)، ويصادف شهر أكتوبر من كل عام.

غالبا يستخدم السقطريون الرعاة طرق تقليدية للوقاية من (ديعاصر) منها وضع العمامة أو الشال على الرأس، حتى لا تستطيع أن تلقي بحشراتها مباشرة، وبعضهم يستخدم اللثام على الوجه والرأس، وبعضهم يستخدم الخرقة على الفم والأنف على شكل الكمامات المتعارف عليها حاليا. أعرف أحد الرعاة من جماعتي لا تفارقه كمامته الطبيعية إلا بدخوله المنزل؛ خوفا من (ديعصر)، وقد مات قبل سنوات، رحمه الله. وتلك الطرق التقليدية تحد كثيرا من الإصابة ب(ديعصر).


والكثير من الرعاة البدو النابهين يعتمد على فراسته وقوة حسه وبصيرته، فمجرد أن تقترب منه حتى يتنبه لها ويسمع صوتها رغم خفته، ويقبض عليها بيده ويقتلها، ويتفاخرون أنهم أصحاب بصيرة وقدرة على صد (ديعاصر) والقضاء عليها دون استخدام أي وسيلة تذكر غير عقله ونباهته، ويعتبرون استخدام تلك الوسائل التقليدية ضعف وعدم قدرة على مواجه تلك الحشرة مباشرة. وما أكثر أن يقع هؤلاء فريسة مكابرتهم ويصابون ب(ديعاصر).


تعد الذبابة (ديعاصر) من أذكى الحشرات، فلديها فراسة ونباهة غير عادية، فلا تأتي الشخص مباشرة، بل تتحين الفرصة المناسبة التي تستطيع معها إصابة الهدف بدقة عالية، فغالبا ما تقعد أمام الشخص وتنظر إليه هل هو متبصر أم لا؟ فإذا تيقنت أنه غافل ولا يستطيع صدها تقفز وترمي بحشراتها ثم تذهب، وإذا علمت أنه متبصر ولديه القدرة على سماع صوتها والتنبه لها تقف في مكانها حتى تراه قد انشغل بأمر ما كأن يمسك بيديه شيء أو فقد التركيز أو انهمك بعمل ما، حينها تقفز بسرعة وتحكم الرمي وتضع حشراتها ثم تولي مدبرة، وغالبا الشخص المتمرس يشعر بها بعد ما وضعت حشراتها فيتدارك الوضع، ويمسح تلك الحشرات قبل وصولها إلى المناطق الرطبة. ومن شدة ذكاء تلك الذبابة ونباهتها أصبحت مضرب مثل في ذلك، فكثير ما نسمع الشخص يقول لخصمه مهددا له بالسقطرية: (أولبنك تؤ ديعصر)، أي: سوف أتيحن لك الفرصة المناسبة للإضرار بك كما تتحين (ديعاصر) الفرصة لصاحبها.


ما أثار فضولي للكتابة عن (ديعصر) هو إني كنت قبل أيام جالس في فناء البيت بعد صلاة العصر في العاصمة حديبو، وفجأه أشعر بحكة شديد وحركة غير اعتيادية في حلقي، لأدخل في حالة من الكحة والطراش، عرفت بعدها أنها (ديعاصر)، فصرت في حالة لا أحسد عليها من الخوف والقلق، قعدت أربعة أيام بلياليها لا أهنأ بنوم، ولا أتلذذ بأكل ولا شرب، ولا أتذوق طعم الراحة والهناء، كحة مستمرة، ضيق في التنفس، آلام في الحلق والصدر، سيلان في الأنف وحكة وعطاس، يرافق كل ذلك خمول وصداع وقلة شهية الأكل، وتغير طعم الفم، وأخذت أستخدم لغة الإشارة لانعدام الصوت، وغيره الكثير. بعد الأربع الأيام الأولى بدأت بالتعافي تدريجيا حتى تلاشا المرض بعد حوالي أسبوع، وهذا هو الوقت التقريبي للتعافي منها غالبا، أي من أسبوع إلى عشرة أيام تقريبا.


هذه التجربة الثالثة لي في حياتي مع العدو اللدود (ديعاصر)، وأسال من الله أن تكون الأخيرة.

أما الأولى فكانت وعمري صغيرا، لا أتذكر كم العمر تحديدا، ولعله بين (8-10) سنوات تقريبا، فقد أصابتني في الصباح، في الساعة الثامنة تقريبا، وقد أشرف والدي - حفظه الله - على متابعة حالتي إشرافا مباشرا، وأذكر أنه كان قلقا جدا عليَّ؛ لصغر سني وإصابتي الأولى، وكانت حالتي حرجة جدا، حتى أنه انقطع عني النفس تماما، وظن والدي أني قد فارقت الحياة، لكن ما زال في العمر بقية، والحمد لله.


أما الإصابة الثانية فكانت بعد الحالة الأولى بخمس سنوات تقريبا، وأذكر أني لم استطع النوم لبعضة أيام، لكنها كانت أخف من المرة الأولى. أعترف بأنني فشلت في صد (ديعاصر) عن نفسي في الحالات الثلاث، حتى التي كانت صار معي، وحتى التي قبل بضعة أيام رغم كبر سني، لكنني أذكر أيضا أنني صددتها وقضيت عليها أكثر من مرة، وهذا يشعرني بالفخر وتعويض الفشل.


ذكرت أن المكان المفضل ل(ديعاصر) لوضع حشراتها هو الفم، ثم الأنف، ثم العين، فالأذن، وذلك التدرج حسب خطورة المكان المصاب، فالفم أخطر من الأنف، وبعدهما العين ثم الأذن. أما العين فيحصل لها تورم شديد حتى لا ترى شيئا، ويحصل فيها التهاب وحكة وتساقط الدموع بشكل متواصل، وبعد فترة تنزل الحشرات إلى الأنف والحلق لتفعل فعلتها. أما الأذن فتصاب بالحكة ثم بعد فترة تنتشر الحشرات نحو الحلق والأنف وتفعل فعلتها.


قد تصيب (ديعاصر) الحيوانات إذا لم تستطع الوصول إلى الإنسان، فطالما سمعنا حيوانا يكح بكثرة، ليقول لنا خبراء الرعي أن هذا الحيوان مصاب ب(ديعاصر).

كان أحد الخبراء الروس الباحثين في سقطرى في السبعينات والثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي واسمه (فيتالي ناووم كين)، كان ينكر وجود (ديعاصر)، ويقول إنها خرافة وليست حقيقية ، بل هو مجرد أسطورة مفتعلة لا دليل واقعي عليها، وذكر ذلك في أحد أبحاثه، لكنه تراجع عن ذلك في بحث آخر، ليعترف أنها حقيقة وظاهرة ملموسة.


تلك الحشرة المثيرة للجدل لم تحض بدراسات كافية من قبل المختصين والخبراء للمعرفة عنها أكثر معرفة علمية، وعن تلك الحشرات الصغيرة التي تحويها، ولماذا ترغب بوضعها في الإنسان وتختار تلك الأماكن الخطيرة فيه؟ وما هي الأدوية المناسبة لها؟ وما ضرر الأدوية التقليدية المستخدمة على الإنسان؟


نأمل من الخبراء والمختصين عمل أبحاث ودراسات كافية للوصول إلى نتائج هامة بشأن (ديعاصر).

ولا أرى الله القارئ الكريم مكروها. اللهم آمين.

المقال خاص بموقع المهرية نت

المزيد من أحمد الرميلي