آخر الأخبار
حرب اليمن وتأثيرها على التعليم (2)
(2-2)
استوعبت الدراسة ، في محتواها النصي ، بعض الجوانب المرتبطة بالعملية التعليمية مثل (الخدمات داخل المدرسة) و انطلق تتبُع الأثر في هذا السياق من قناعة معد الدراسة ، مثل كل خبراء التعليم في اليمن ، من أنه لا تتوفر ، في الأصل ، للنظام التعليمي في اليمن المباني والمرافق المراعية لاحتياجات التلاميذ، ومن الواضح أن الحرمان من الخدمات الأساسية داخل المدرسة أصبح أكثر فداحة في ظل الحرب ، فنسبة 74.5 % من الطلاب في العينة أكدوا عدم توفر خدمات صحية مدرسية بما في ذلك الإسعافات الأولية، أو المياه النظيفة الصالحة للشرب 84 %، أو حمامات نظيفة وصالحة للاستخدام الصحي 78.3 %. كما لا تتوفر تغذية نظيفة في المقاصف "البوفيات" أو منافذ البيع الصغيرة داخل المدارس 64.6 %، ويحصل 35.0 % فقط من التلاميذ على خدمة الرعاية الاجتماعية عبر أخصائيين اجتماعيين ونفسيين.
وفيما يتصل بالغُرف والحجرات الدراسية ( الفصول) تقول الدراسة إن أغلب الطلاب يتلقون دروسهم في فصول مكتظة، و % 52.3 من العينة يدرسون في فصول يزيد عدد الطلاب فيها عن 50 طالبا، و 29.0 % منهم في فصول يتراوح عدد الطلاب فيها ما بين 50 إلى 25 طالبا، ولاحظت الدراسة إن الفصول الدراسية للفتيات أقل اكتظاظاً، وربما يعود ذلك إلى الفارق العددي بين النوعين في مستويات التعليم العام المختلفة.
وحين انتقلت الدراسة إلى معاينة جانب (التحصيل العلمي) لاحظ معدها إن الرياضيات واللغة الإنجليزية والعلوم "فيزياء وكيمياء وأحياء" واللغة العربية "القراءة والكتابة هي المواد الأكثر صعوبة لدى أكثر الطلاب في العينة، ويعد ضعف استيعاب وفهم هذه المواد سبباً رئيسياً في تدني مستوى التحصيل العلمي لدى الطلاب كونها المواد المعنية بتكوين المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والعمليات الحسابية خلال المرحلة الابتدائية، ومن ثم اكتساب المعارف والمهارات العلمية والحياتية الأخرى في مراحل التعلم اللاحقة، و قد أرجع الطلاب في العينة أسباب تدني مستوى التحصيل العلمي لديهم إلى عدة عوامل، مثل انعدام الهدوء في الفصل أثناء الدروس، وضعف اهتمام المعلمين باستخدام الوسائل التعليمية الملائمة للشرح ، وإهمال المعلمين حل التمارين الصعبة في الكتاب المدرسي، وعدم استغلال المعلمين الوقت المخصص للحصة في شرح المادة، إضافة إلى تغيب التلاميذ عن بعض الدروس .
من جهتهم ، وحسب الدراسة ، فقد عزى المعلمون أسباب تدني المستوى العلمي للطلاب إلى سوء الأحوال المعيشة للطلاب وأسرهم، وعدم المتابعة والاهتمام من قبل الأسرة، والعجز عن توفير الكتب الدراسية لدى أكثر من نصف الطلاب، وعدم توفر الوسائل التعليمية أو إتاحة استخدامها في الشرح والتوضيح، إضافة لكثافة الطلاب في الفصل الدراسي الواحد . غير أن المعلمين المستجيبين لم يذكروا ضمن أسباب تدني التحصيل العلمي للتلاميذ القصور الناجم عن ضعف أداء المعلم، أو عدم ملائمة طريقة التدريس للمادة، وعدم الاهتمام بخلق التفاعل المطلوب أثناء شرح الدرس .
في الجزئية المتعلقة بـ(المناهج الدراسية) وأساليب التقييم يذهب معد الدراسة إلى أن المناهج الدراسية بمحتواها الأصلي ولم يطرأ عليها سوى القليل من التعديلات، وبحسب 71% من المعلمين المستجيبين فإن المناهج الدراسية لا تتضمن محتوى متحيزا لمصلحة أحد أطراف النزاع، وهذا الرأي يعكس عدم وجود تغييرات جذرية في المناهج الدراسية حتى الآن باستثناء التعديلات التي أجرتها جماعة الحوثي في العام 2016 غير أن نقابة المعلمين قالت الحوثيين أجروا 234 تعديلاً على المناهج الدراسية للمرحلتين الأساسية والثانوية، دون الرجوع للجنة المناهج خلال الفترة 2016 و 2019 حسبما جاء في صحيفة الشارع عدد 1 سبتمبر 2020
الحصول على (الكتاب المدرسي) تظل مشكلة وعقبة كبيرة بالنسبة لأكثر التلاميذ، ومن الواضح أن الاحتراب فاقم هذه المشكلة نتيجة عجز المؤسسات المعنية بطباعة وتوزيع الكتاب المدرسي عن طباعة أعداد كافية من الكتب، حيث لا يحصل 59.5 % من الطلاب في عينة الدراسة على الكتاب المدرسي عبر المدرسة، ويلجؤون لشرائه من سوق الكتاب المعاد استخدامه .
وفيما يتصل بالاختبارات والتقييم قالت الدراسة إن نظام الاختبارات العامة يشوبها الكثير من العيوب من وجهة نظر غالبية المعلمين، كتصميم نماذج الاختبارات بطريقة تميل للتركيز على أسئلة التذكر والاسترجاع، وسوء تنظيم العملية الامتحانية، وشيوع ظاهرة الغش بين الطلاب .
في الجزئية المتعلقة بموضوع (التسرب المدرسي) تقول الدراسة إن 48.3% من الطلاب المشمولين بالعينة الاستطلاعية الخاصة بالمتسربين اضطروا إلى ترك المدرسة بفعل الظروف المادية السيئة لأسرهم في ظل الحرب ، ووجد طلاب آخرون أنفسهم خارج التعليم لأسباب أخرى تتعلق بعدم ملائمة بيئة التعليم، وضعف اهتمام الأسرة بالتعليم، وبعد المدرسة عن أماكن إقامتهم ، والضغوط النفسية التي تتسبب بها الحرب، إضافة إلى بعض التلاميذ الذين تركوا المدرسة بغرض التجنيد .
ومع ذلك لدى نسبة كبيرة من التلاميذ المتسربين 79% رغبة في العودة إلى المدرسة في حال تحسن الوضع الإقتصادي لأسرهم، أو توفرت بيئة تعليم مناسبة، أو حصلوا على الدعم النفسي، وهذه النسبة تؤكد أن التسرب من المدرسة يحدث في الغالب لأسباب قاهرة .
في تعمقها الراصد لمشكلة التعليم في زمن الحرب قاربت الدراسة قضية مهمة مرتبطة بالتعليم وهي قضية (نزوح الطلاب من مناطق المواجهات المسلحة) والتي تسببت في المناطق المشمولة بالدراسة بنزوح - 67% من العينة الاستطلاعية الخاصة بالطلاب النازحين، وتوزعت الأسباب الأخرى للنزوح على ثلاثة أسباب هي، تعرض المنازل للقصف العشوائي، والغارات الجوية على المنازل، وانعدام فرص العمل في المجتمع الأصلي. ومع ذلك تمكن 52% من العينة الاستطلاعية الخاصة بالنازحين من الالتحاق بالمدارس خارج مجتمعاتهم الأصلية وحصلوا على تسهيلات جيدة في هذا الخصوص، أما 48% فواجهوا بعض الصعوبات التي حالت دون التحاقهم بالتعليم مباشرة بعد النزوح، فتوقفوا عند الدراسة لفترات متفاوتة أقصاها عام دراسي، وكانت أهم الصعوبات التي واجهتهم، ضياع الوثائق الرسمية للتلاميذ، أو انقضاء فترة التسجيل في المدارس، أو الظروف المعيشية السيئة للأسرة عقب النزو ح وعدم قدرتها على إعادة إلحاق اطفالها بالمدرسة، إضافة لعراقيل إدارية اخرى .وقد لاحظ معد الدراسة إن الطلاب النازحين حققوا درجة عالية من الاندماج المدرسي داخل المجتمع المضيف، وتمكنوا من عقد صداقات جيدة في المدرسة، وكان لدى أكثرهم شعور كبير بالارتياح للمدرسة، وقال % 71 منهم إنهم لم يتعرضوا لأي نوع من التمييز، أو عدم المساواة في المدرسة داخل المجتمع المضيف.
تأثير الحرب على (المعلمين) ظهر بائناً بسبب انقطاع المرتبات في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون ، كذا العمل في بيئات تعليمية خطرة، أقلها الاستقطابات التي تمارسها أطراف الحرب داخل بيئة التعليم.
وتقول الدراسة :
عانى المعلمون من تأثيرات اقتصادية سلبية للنزاع بسبب انقطاع المرتبات وسوء الأوضاع الاقتصادية، وأفصح بعضهم عن تأثيرات نفسية سلبية لحقت بالمعلمين جراء النزاع والفقر، كالشعور بالإحباط، والاكتئاب، وتراجع الثقة بالنفس. كما كان الأثر الاجتماعي قاس على المعلمين نتيجة الشعور بتراجع المكانة في المحيط الاجتماعي وحتى بين طلابهم، وحدوث بعض المشاكل الاجتماعية والعائلية. وواجه بعض المعلمين تبعات أمنية بسبب الحرب تمثلت بالملاحقة الأمنية أو الضغط والتهديد على خلفية بعض المواقف والآراء، أو محاولة تطويع ممارساتهم التدريسية بما يخدم اطراف الحرب .
و يرى المعلمون إن التقليل من آثار الحرب على التعليم يتوقف على توفر مجموعة من العوامل في مقدمته ا إيجاد بيئة آمنة لاستمرار التعليم في ظل الحرب، وتقديم الدعم النفسي والمادي للمعلمين، وحصول الطلاب على الدعم النفسي الملائم، وتوعية جميع شرائح المجتمع بأهمية التعليم، وإعادة تأهيل المدارس المتضررة جزئيا وكليا .
كشفت الدراسة أن هناك أثرا مقابلا للتعليم أحدثه داخل منظومة الحرب ومن ذلك أن المعلمين يتمتعون بحساسية شديدة تجاه القضايا المرتبطة بالنزاع، ويفضلون عدم الخوض فيها لدواع مختلفة، غير أن الدراسة وجدت أن النسبة الأكبر من المعلمين في العينة الاستطلاعية % 77 غير محايدين بالمعنى السلبي، فهم يشجعون تلامذتهم على التسامح ويبثون دعوات السلام ونبذ العنف في ممارساتهم التدريسية، بصورة غير مباشرة في الكثير من الأوقات، ودون تعريض حياتهم للخطر . وبالتالي فإن الدور الذي يقوم به المعلمون داخل المدرسة هو دور إيجابي على الأغلب لا يغذي استمرار الحرب، بل كثيرا ما يساعد في احتواء آثارها على التعليم، وكبح جماح التلاميذ نحو الانخراط في القتال .
تتأثر المدارس بسياسات ( أطراف الحرب) المختلفة تجاه التعليم، حيث تسعى العديد منها لتسيس التعليم واستقطاب التلاميذ للانخراط في القتال، أو تعريضهم لأفكارها وتصوراتها الخاصة. ومن أهم صور الزج بالتعليم، في حلبة النزاع التي تمكنت الدراسة من رصدها ميدانيا، محاولة تجنيد التلاميذ دون سن الثامنة عشرة من داخل المدرسة، أو تشجيعهم على التجنيد، وتحويل ساحات المدرسة إلى "منابر" لإلقاء الخطابات والشعارات التعبوية على الطلاب والترويج لأفكار غير محايدة تجاه القضايا المرتبطة بمصالح المتحاربين .
لاحظت الدراسة أن نسبة التلاميذ الذين تعاطوا مع العروض الجدية أو التشجيع على التجنيد من داخل المدرسة ضعيفة للغاية، وقد يشير ذلك إلى أن ظاهرة تجنيد الأطفال تتغذى على استقطاب التلاميذ من خارج المدرسة أكثر من داخلها. كما وجدت الدراسة أن النسبة الأكبر من الطلاب في العينة 67% لا يشاركون في أنشطة خارج المدرسة متصلة بالنزاع كالمظاهرات والمهرجانات وحضور دورات ثقافية. وبالنتيجة فإن استمرار التعليم ،حتى مع الأضرار التي تلحق به، لايزال يمثل عنصرا أساسياً في مواجهة الحرب، واحتواء القيم السلبية التي تعمل الحرب على غرسها في المجتمع .
ختاماَ
أن تظهر دراسة في هذا الظرف، تتلمس أوجه الخراب الذي طال أهم قطاعات المجتمع وركيزته التكوينية ، أظنه فعلا ينبغي التركيم عليه " مراكمته" ، والملاحظات التي قد تقال على بعض مخرجاتها ينبغي أن تكون هي المفاتيح الفاعلة في دراسات معمقة وأكثر شمولاً في المستقبل .
التحية لمنظمة " مواطنة" وللباحث المجتهد " د هاني المغلس" والفريق البحثي الذي عمل في ظروف شديدة القسوة.
المقال خاص بموقع "المهرية نت"