آخر الأخبار
ممحاة السادات وحافر الحوثيين !!
كان الرئيس المصري (أنور السادات) في سنوات حكمه الأولى يقول أنه يسير ،كحاكم لمصر، على خطى سلفه الرئيس (جمال عبد الناصر) ، فراجت المقولة الشعبية "يمشي بعده باستيكة" أي بممحاة ، في رد تهكمي مصري ساخر على جملة التوجهات والسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتخذها نظامه الجديد، والتي تتناقض مع توجهات وروح ثورة يوليو ، فأحدثت ، هذه السياسات، اختلالات عميقة في بنى المجتمع المصري ، لم تزل تفعل فعلها فيه حتى اليوم، وبددت في سنوات قليلة كل المكتسبات التي انتزعتها الطبقات الفقيرة والشرائح المعدمة في الزمن الناصري في التعليم ،والتطبيب، والإسكان ، والإصلاح الزراعي، والوظيفة العامة.
ما يفعله الحوثيون كسلطة أمر واقع في المناطق التي يسيطرون عليها في شمال ووسط وغرب اليمن مناقض تماماً، لما فعله الرئيس السادات قبل خمسين عاماً في مصر، اذ يعملون بذات فلسفة نظام سلفهم (علي عبد الله صالح) ويضيفون إليها ما يخدم توجهات الجماعة في احتكار السلطة والنفوذ ، ويخدم مستنفعيها ، وهم الذين لا ينفكون ليل نهار يجرِّمون فساد واستبداد نظامه، في عملية ممنهجة واحدة . ويمكن أن يُسقط على هذه الأفعال توصيف النقاد والبلاغيين العرب الذي يقول " وقع الحافر على الحافر" في تعيين حاد لحالة المشابهة وتتطابق الأثر، في السرقات الأدبية المعروفة ، والتي صارت لاحقاً تُجمَّل بملفوط " التناص"، والذي غدا في السياق التهكمي الساخر يعرف بـ "التلاص".
كتبت ،قبل عامين ونيف، عن عملية تجذير القيم الرثة التي أنتجها نظام صالح والإضافات التي تمت إليها من قبل الجماعة ، وكيف أنها استثمرت في هذه الفضاءات كل خبرات النظام السابق لتكريس سلطتها وأدواتها المستبدة .
وبمقاربة عجولة وبسيطة لفلسفة نظام صالح ، وإدراك أبعادها يلزم أولاً التوقف عند النقطة التي تحولت فيها ثقافة المجتمع الى امتداد ممسوخ لفعل السياسة في توجهات السلطة العميقة ـ بتآلفها القبلي والعسكري والديني ـ ، وتحديداً من اللحظة التي بدأت فيها عملية إعادة تعريف المواطنة من موقع تراتب القوة والنفوذ الذي فرضته كقيمة، ووصلت ذروتها بتزاوج السياسة بالمال، وما نتج عن ذلك من تجسيم فعل الإحتكار في الوعي الشعبي . فالكيانات المالية التي (انتفشت) فجأة وعملت في الصرافة وغسل الأموال ، لم تكن تعمل بغير فوائض السيولة الكبيرة التي راكمتها مكونات النظام ـ بأذرعها العائلية والقبلية والدينية ـ من الأعمال المشبوهة .
أما شركات المقاولات التي كانت تُسجل بأسماء المشايخ والواجهات الاجتماعية والعسكرية، فكان يُرسى عليها مشاريع الدولة التي تنفذ باقل من 20 % ، ليس فقط من الكلفة المعلنة ،وإنما من الجودة التي تشترطها كراريس المناقصات، وكل ذلك لشراء أصحابها وصرفهم عن الإنشغال بشئون الحكم والتوريث .
الوظيفة العامة الفوقية كانت توزع كحصص على مكونات النظام ، التي بدورها تقترح شاغريها من المحاسيب والموالين الذين يحولون الموقع الى آلة لتحصيل الأموال ،لتعويض الرشى التي دفعت ثمنا للموقع أو إتاوات حماية. حتى أن أحد الصحفيين القريبين من مركز القرار قال أن التنافس على شغل موقعي الإستوزار في وزارتي( المالية و النفط) في إحدى تشكيلات حكومات ما بعد 2006 رسي عند مبلغ 10مليون$ . أما الإقتسام العلني لـ"بلوكات" التنقيب والإنتاج واقتسام شركات الخدمات النفطية في شرق البلاد وجنوبها، وتوزيع أراضي الدولة وممتلكاتها ، من المزارع والمنشآت في تهامة ولحج وأبين وحضرموت ، على الرموز الحزبية والقبلية والعسكرية، فكان يمثل خبراً اعتيادياً عند المتلقين، لأن هذا الاحتكار أنتج قناعة صلبة لدى الجميع، بان هذه السلطة تعمل على تجديد نفسها ،بعملها الدؤوب على إنتاج تحالفاتها غير المستدامة ،لإضعاف الجميع وإطفاء شرارات التمرد في المجتمع.
اُضعِفت الحياة السياسية باحتكار الانتخابات لصالح الحزب الحاكم ،دون الاحزاب السياسية التي أرتضى قادتها بفتات المناصب والإمتيازات . ومقابل إحتكار الانتخابات، التي تكرس السلطة وتبررها كان يُسهَل للشريك التاريخي احتكار الدين الرسمي، بوصفه الغطاء المهذب لفساد رموزه وتجاراتهم المشبوهة . ولكن الأخطر من كل ذلك كان بتدمير التعليم حتي لا تتهتك البُنى التقليدية المعيقة ،التي يستثمر فيها الطرفان القبلي والديني في بنية النظام. وترتب على ذلك تدمير التقاليد الأخلاقية البسيطة لصالح الاستكلاب غير القيَمي في حياة الناس ،على نحو تحويل الغش في إختبارات التعليم إلى قاعدة. وتسليع الخدمة العامة الى حق لمحتكر الموقع . والإتجار بالممنوعات قوة ونفوذ وذكاء ـ حتى يُبرَّر التاريخ الشخصي لرأس السلطة ـ أما الإستثمار في التطرف الديني، وإبتزاز دول العالم تحت هذا الشعار، إلى جانب إدارة البلاد بالأزمات والحروب ، فكانت المتلازمة الأوضح للسلطة المترهلة قبيل الإنفجار الكبير.
إنقسام النظام (السلطة) ابتداء من العام 2006 ووصوله الى محطته الأخيرة في 2011 ،جعل من الشريك الديني (الإصلاح ) بمواليه القبليين (بيت الأحمر ) والعسكريين (علي محسن) يركب موجة الشارع الاحتجاجية ، ويستثمر في الثورة ، فقط من أجل إعادة اقتسام السلطة ،التي لم يغادرها في الأصل، فبان على الأرض أن رأس السلطة لم يسقط ، فقط انحنى قليلاً ريثما يعيد ترتيب أوراقه التي بعثرتها ريح الربيع الناعمة، فأتاح له قانون الحصانة، والنصف المؤثر في السلطة أن يحافظ على كل قوته في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية، لهذا لم ينتظر طويلا ،فقد أعادة انتاج تحالفه الأخير والدامي مع خصوم الأمس " الحوثيين" ،لإضعاف خصومه الجدد ، فأبقى الشرعية بمعزل عن القوة التي احتكرها ، وسخرها تالياً للحليف الجديد ،الذي اقتحم بها المدن من صنعاء وصولاً إلى عدن!!
الحليف الجديد المتعطش للسلطة ، والذي لم ينس ثأره مع الجميع وعلى رأسهم علي صالح، عمل خلال عامين على تجريف قوة الأخير، وتطويعها لصالح مشروعه العصبوي السلالي المدعوم إقليمياً، وحين زِيُن له التخلص منهم في شتاء بارد، كان لم يزل غارقاً في وهمه المريض ،وحين فاق كان الفراغ الذي شغره الإعلام لأيام بجثته المُمثَّل بها .
ورث الحوثيون كل شيء عن صالح وعلى رأسها القيم الرثة لنظامه ،والمتعينة في احتكار السلطة بمنافعها المالية والعسكرية ،التي وزعت مواقعها الحساسة على رموز العائلة والسلالة و"المحاسيب". الى جانب احتكار الدين ،بإعادة انتاج خطاب تنزيه وتقديس "الولي الفقيه" الذي صار ممسكا بالسلطتين الزمنية والروحية، في المناطق التي لم يزل يديرها. وتحويل مناطق سيطرتهم الى اقطاعات عائلية و إدارتها بالحروب والأزمات والقمع والفساد ، وعن الأخيرة سأضرب مثلاً صغيراً بإعادة تأهيل الشارع الذي أقطنه منذ أشهر قليلة. فقبل أقل من عام غطت وسائل الإعلام التابعة للجماعة مناسبة إعادة تأهيل شارع (16) الحيوي الموازي لشارع (هايل) غرباً في مديرية معين، والتي حضرها كبار المسئولين ، كان ذلك قبل أسابيع من انتقالي لشقة على ذات الشارع في اكتوبر 2019. الأمطار الأخيرة التي شهدتها صنعاء كشفت المستور ، وجرفت كل عملية الترقيع التي تمت في الشارع ، ليعود الى وضعه السابق مطرزاً بالحفر والمطبات، وهذه عينة من عينات مقاولات الفساد التي درج عليها نظام صالح على مزاولاتها لتنفيع حلفائه ومواليه، وهو الفعل الذي تقوم به الجماعة مع مقاوليها الجدد، والقدامى الذين كانوا يعملون مع نظام صالح وصاروا الآن يعملون معها، تماماً مثل كبار الصرافين ورجال الأعمال، الذين عملوا سابقاً مع صالح ، وأصبحوا اليوم أحد أدوات الجماعة، في تجارة المشتقات وتبييض الأموال.
الجماعة ورثت الدولة بكل مقدراتها ، بما فيها فلسفة السلطة في الحكم، وقبل أن تُمكَّن عناصرها العقائديين من مفاصل السلطة والإدارة، أبقت على كبار موظفي سلطة صالح الفاسدين الذين لم يغادروا صنعاء ، قبل أن تتخلص منهم تباعاً، لتحل بدلاً عنهم العناصر" السلالية" التي تشربت منهم سر المهنة.
السلطة الفاسدة تعيد تجديد نفسها بنفس الأدوات وتبريراتها ، وإن اختلفت الشعارات ، فالبلاد التي ظن على عبدالله صالح أنه مالكها وباستطاعته توريثها لنجلة ، هي ذات البلاد التي يدعي (الحوثي) إن اصطفاء إلهياً قد اختاره لحكمها ولو كره ذلك الشعب كله.
المقال خاص بموقع المهرية نت