آخر الأخبار
بين "سُكَّري" الشرعية و"سرطان" الانقلاب ... ثمة أمل تبدد وموت اكتمل!!
الشرعية والانقلاب كلاهما مرض اُبتلي به اليمنيون، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان وإن متناحرين، غير أن مرض الشرعية يمكن للجسد، مهما كانت اعتلالاته التعايش معه بكثير من الحيطة الصبر، أما مرض الانقلاب فقاتل، مهما تحوَّط منه الجسد وتعالج له ، فلا شفاء من تمدده في الثنايا وإن كانت صحته وعافيته من حديد. وهنا التشخيص أقرب ما يكون لتعبير" حَمَل السكر" و"وحش السرطان".
الوحش الذي ينخر بالحرب ، منذ ستة أعوام، جسد الجغرافيا والإنسان، جاء بمحمول ،وعلى ظهر انقلاب فج ،ضداً على إجماع اليمنيين ورغبتهم، التي عبَّر عنها مؤتمر الحوار الوطني، الذي مُثّلت فيه كافة المكونات السياسية والمجتمعية بما فيها الانقلابيون أنفسهم ، لكنهم و بقوة السلاح وغَلًبته أرادوا تجسيد الصوت الواحد ، في إدارة البلاد وحكم الناس "بالترويع والتجويع والتركيع" ، بذات الكيفية التي يدير بها ملالي إيران جمهوريتها الإسلامية، التي تحرِّك دواليبها العمياء بالأزمات ،وتصدير الحروب الى الخواصر الرخوة الهشة الملغَّمة بمشاكل الفقر والامية والاحتقانات الطائفية والاستبداد، للهروب من أزماتها الداخلية المستعصية.
الاستنساخ الساذج للشعاراتية (الدينية والسياسية) ،التي لم تتخل عنها الماكينة الايرانية منذ ثورة 79، بدء من صياغة شعار الصرخة ، ومقترباته اللونية من "العلم الايراني" ، وانتهاء بتحويل مناسبات الظلامات الشيعية الاثنا عشرية بطابعها القياماتي الى مناسبات للتحشيد الحربي وتكريس الولاية والاصطفاء والحق واحدة من مُفتِكات الوحش، لأن سلوك طارئ ودخيل مثل هذا على ثقافة مجتمع بسيط متخلف، قد أفضى في أعوام قليلة الى فرز طائفي واضح ،لم تصل اليها اعتلالات الفرز المناطقي بصبغاتها المذهبية طوال تاريخ صراع الفرقاء في اليمن، والذين حاولوا كثيراً إكساب صراعاتهم هذا البعد و لم يستطيعوا ، ولعل آخرها كانت في حروب الجمهورية الأولى حين استخدمه ،كشعار للتهييج ، بعض المنتفعين المحسوبين على الخط الجمهوري لتبرير تجاوزاتهم، أو لإكساب مشاريعهم الفردية صبغة شعبية تستلهم من سيلان المكبوت والقهر الطويل صوتها المنفلت.
وثانية المُفتِكات العمل وبإصرار واضح على جعل اخواننا الهاشميين في اليمن خصما للجميع، ليس فقط بحضورهم كقادة حرب وفيد ، وإنما أيضا بتكريس المنزع السلالي في احتكار الوظيفة العامة ، أو ادارتها الخفية المستترة خلف شخصيات غير هاشمية، على نحو تعيين المشرفين وقيادات اللجان الثورية في المؤسسات والجهات المُسيطر عليها بمتوجبات سلالية صرفة، لا تخضع للمساءلة أو العقاب.
أما أشدها فتكا ودماراً هو التلطي بشعارات وطنية ودينية لتبرير الاستبداد و الحرب ، وإدارة اقتصادها القائم على كيان مواز خفي ، عماده نهب مقدرات الدولة ومرتبات الموظفين وتجارة المشتقات النفطية ومواد الاغاثة وتجارة العملة وغسل الاموال وفديات الاختطافات ، والجبايات غير القانونية على رجال الاعمال، وآخرها قانون الزكاة وخُمسه ، والنتيجة في نهاية المطاف لا الشعار الديني أوقف فساد الجماعة واستبدادها ، ولا الشعار الوطني استطاع خلق قاعدة اجتماعية متماسكة واسعة التطييف للدفاع عن مشروع مثل هذا ، والذي ما فتئ يتحوصل في النقطة الاضيق للعصبية السلالية و المناطقية ،ونتوءاتها التي يشكلها المنتفعون والخاضعون معاً.
ولأن الانقلاب مشروع ضد الحياة فسيرتضي مسيروه في نهاية الأمر باقل الفتات، حين يساومون على رقعة جغرافية معزولة يحتمون بها عوضاً عن وطن كبير متعدد ، أرادوا في غفلة من الوقت اختطافه ،حين وهَنَ وفسد الآخرون، فصاروا خصما لكل ابنائه المطحونين بالحرب والمحاصرين بالجوع.
ولأن حسنة الشرعية الوحيدة تكمن فقط في كونها تقف على النقيض من مشروع الانقلاب، وتحاول بشعاراتها "البليدة " إشعال حلم استعادة الدولة في وجدان الناس، تغدوا في سياق التشبيه هي المرض الأقل فتكاً ، والذي لا ينبغي في ذات الوقت اهماله والسكوت عنه، لأنه في غفلة قصيرة سيتحول الى وحش قاتل سيلتهم الجميع. فتدمير وظائف الكلى وتعطيل مركز الابصار وتسريع السكتات ...الخ هو ما يمكن أن يفعله الحمل الوديع والبليد إن غافل صاحبه.
فساد الشرعية ،الذي يُعبِّر عنه بوضوح تحول صفها الأول الى طبقة حرب تتكسب من استمرارها وتتاجر بدم الضحايا، ويُعبِّر عنه ضعفها ، الذي جعلها تابع ذليل لمشيئة قوى التحالف ومشاريعها الاستكلابية في البلد الفقير، وأيضا يعبِّر عنه رخاوتها التي استنبتت في جسمها كيانات ميليشاوية متطرفة" دينية ومناطقية وجهوية" ، صارت تهدد وجودها الفعلي على الأرض، وأخيرا يعبِّر عنه خذلانها لمواطنيها المحاصرين والمعتقلين والمغيبين قسراً في السجون والأقبية التي تُدار باسمها أو يديرها الإنقلابيون . وكل هذه الموبقات وما يتصل بها من تفاصيل لا ينبغي السكوت عنها ولا المساومة بها ، لأنها ستصير وبغمضة عين هي الوحش القاتل بدلا عن الحمل الوديع الصامت.
كل ما قيل آنفاً فكرة كتبتها قبل عامين ، ولم أنشرها ، وحينما عدت إليها من جديد ، كنت أتمنى أن تقف الأمور عند هذه الحدود في تعيين المسافة الواضحة بين صيغتي (الانقلاب والشرعية )، وأن يبقى الانقلاب سرطاناً ، والشرعية سُكَّراً محدوداً يمكن التعايش معه ، لكن أبت الشرعية الاّ أن تتكشف كحالة تتجاوز التوصيفين، مبددة كل أمل في إصلاح شأنها ، وصار رهانها على الوقت في تحقيق منافع ذاتية لمنتسبيها من عتاولة الفساد في صفها الأول أهم من تعظيم الأمل في نفوس اليمنيين في استعادة الدولة، متخلية عن أبسط حقوقهم في مرتباتهم المنهوبة ، وحمايتهم من الأمراض الفتاكة والأوبئة، ومساعدتهم على تجاوز كوارث الامطار والسيول والعواصف المميتة التي تضرب البلاد من شرقها الى غربها، ومن شمالها الى جنوبها ، وأودت بعشرات الضحايا في تهامة ،وعدن، وحضرموت، وريمة ، ومأرب وغيرها من المناطق وشردت مئات الأسر ، والأخطر أنها لم ترفع صوتاً واحداً للاحتجاج ضد مجازر الطيران السعودي الإماراتي التي تفتك بأروح عشرات الضحايا من الأطفال والشيوخ والنساء في الولائم والمأتم على حدٍ سواء، ومكَّنت، بأفعالها المشينة هذه ، الانقلاب السرطاني أن يتغلل أكثر في الخلايا.
بسبب رخاوتها وفسادها وإرتهانها لعدو اليمنيين التاريخي (السعودية) صار الانقلاب انقلابان : الأول هو الذي حدث في شمال البلاد ، الذي أخرج رأس الشرعية ورموزها من صنعاء، مشكلاً بفعله حالة الحرب هذه ، والثاني في الجنوب ،الذي أخرج حكومتها من عدن ليدخل البلاد برمتها في حالة تفكك مريع . أما في مناطقها الرمزية في حضرموت وشبوة ومأرب وبعض تعز لم تعد غير أعلام باهتة ، و صور ورقية لرئيس ضعيف، تُلصق على عجلٍ خلف بعض مسؤوليها الذين تطاردهم الكاميرات في الاجتماعات البائسة.
طبَّل إعلامها الرسمي لاتفاق الرياض الذي صممته السعودية "الذي تريده عنواناً إيجابياً لديبلوماسيتها الناعمة في تطويع الأطراف لتنفيذ سياساتها الخارجية واستراتيجياتها الأمنية التي لم تزل تتعرض لهزات متلاحقة ، منذ تورطت أجهزتها الأمنية والاستخباراتية في تصفية الكاتب الصحافي عدنان خاشقجي في مبنى القنصلية السعودية في مدينة "اسطنبول" التركية في أكتوبر/ تشرين الأول 2018."
السعودية كما قال قادري أحمد حيدر " أضعف بكثير مما يتصوره البعض ، وليست مؤهلة حتى لقيادة نفسها ، ناهيك عن قيادة المنطقة العربية ، فالمال (النفط) لا يصنع قيادة ولا دوراً تاريخياً .. إن قوتها في تفككنا وضعفنا وفي احترابنا الداخلي .. والعبرة الأخطر هي حرب الخمس سنوات التي دخلتها تحت شعار العزم والحزم ، وتحت غطاء استعادة الدولة ، وكل ما تمكنت منه ليس سوى تدمير البنية التحتية الاستراتيجية للبلاد ، وتدمير وإضعاف الانسان ، ولا شيء من أهدافهم المعلنة ،ووضعنا كيمنيين على حافة هاوية احتلالات متعددة " داخلية وخارجية" وعلى شفير التدمير والتمزق الى جملة من الدويلات القزمة التي تحركها وتتحكم بها مع حليفها الإماراتي / شيوخ أبو ظبي".
لم تستطع السعودية إنفاذ اتفاق 5 نوفمبر في تسعة أشهر، وحينما صارت معارك حلفاء غيرها (الإمارت وقطر وتركيا) على أشدها في أبين، ضغطت بكل قوتها على حلفائها في الرياض ، ورضخت من جهة ثانية لشروط الأمارات في إسقاط سقطرى للبحث في حلول لتسريع تنقيذ الاتفاق ، وهو ما تم بالفعل عشية العيد بتكليف رئيساً ضعيفاً للحكومة ومحافظاً ومدير أمن للعاصمة المؤقتة عدن بعد شهرين من المفاوضات ، لكن هذا الاتفاق الجديد هل سيحل المشكلة ؟ وسيعمل على إعادة ترتيب صفوف مكونات الشرعية وحلفائها لمجابهة عدواً مشتركاً واحداً اسمه الانقلاب الحوثي ، طبعاً الأمر مشكوك فيه ، وهو ليس سوى ترحيل المشكلة الى منعطف للانفجار الكبير، لأن التسوية تمت على قاعدة اقتسام السلطة ومنافعها ، وليس تحقيق أفضل شروط التفاهمات، لتبديد الإرث التاريخي الطويل للثأرات السياسية والمناطقية والجهوية، التي أفضت الى أكثر من جولة اقتتال في نصف قرن في الشمال والجنوب.
عملية الإضعاف الممنهج التي تقوم بها السعودية للشرعية ، وتعطيل أدوات استعادة الدولة، بتعزيزها لدور الطبقة السياسية الفاسدة فيها ، يقابله في الاتجاه الآخر دوراً مناقضاً تماماَ تقوم به (إيران) ، التي تعمل على تعزيز قوة حلفائها وتسويقهم كدولة بقبضة أمنية واقتصادية ، ولو من باب العصبوية السلالية, لتكون مخلبها القوي في الخاصرة الرخوة لمملة ال سعود الورقية.
اليمنيون بالتأكيد لا ينتظرون سلاماً يقوم على قاعدة اقتسام مغانم السلطة بين الشرعية وخصومها داخل بنيتها الهلامية " المجلس الانتقالي وجماعة الإخوان وملحقاتهم " ، ولا مع خصومها، وخصوم عموم الشعب ، "الحوثيين" ، فيعاد بواسطة هذا السلام المشوه إنتاج صيغ أخرى للأزمات المرَّحلة في الحروب.. اليمنيون يريدون استعادة دولة من قبضة الميليشيات في كل عموم اليمن أولاً ، لتقف هذه الدولة على مسافة واحدة من كل أبنائها ، للحفاظ على حقوقهم وتحقيق رغباتهم في صياغة مستقبلهم السياسي، وهو أمر لا يمكن تحقيقه بذات الأدوات المعطوبة والفاسدة التي تتحكم بقرارات الشرعية ، وأيضاً داخل مشروع الانقلابين الفتاك ، كون هذه الأدوات بمسمياتها وكياناتها وتربيطاتها اُس الأزمة ، ولا يمكن أن تكون شرطها النافذ في الحل. وفي نفس الوقت لا يمكن التعويل على السعودية وحليفتها الامارات في أن تعملا على دعم استعادة الدولة ، كما بررتا لوجودهما العسكري على الأرض اليمنية ، ولا المساهمة في تمكين قيادة قوية وشابة ،غير ملطخة بدم اليمنيين ولم تسرق يوماً مقدراتهم ،ومرتباتهم ، ولم تساهم في تفكيك تراب أرضهم ، لأنهما في الأصل ضد هذا الحلم الأزلي لليمنيين، وتريدان عوضاً عن ذلك واجهة ديكورية لدولة مفككة الأوصال ، يتحكم بها موالون عصبيون ومرتهنون ضعفاء، يسلِّمون لهما مقدرات البلاد وثرواتها والتحكم بقرارها السياسي، وهو الأمر الذي تفعله أيضاً دولة إيران، بمحاولتها المستميتة لفرض سلطة قوية ، بقبضة أمنية ،واستبداد سياسي وديني في شمال اليمن ، وليس دولة مواطنة لعموم اليمنيين بتنوعهم الجغرافي والمذهبي، لتكون هذه السلطة تحت خدمتها لتنفيذ مشاريعها الإستكلابية السياسية والدينية في البلد ، التي تتصارع دول في الإقليم ، وتحت أغطية دولية، لاقتسامها وإحدى هذه الدول إيران.
المقال خاص بموقع المهرية نت