آخر الأخبار
الجمهورية بين السلطنة والقبيلة.. عن هزيمة يونيو وانقلاب 5 نوفمبر وسلطة المشائخ!! (2-2)
نستكمل في هذا الجزء، الثاني والأخير، عرض واستخلاص لمحتوي بعض أفكار كتاب المفكر الدكتور أبوبكر السقاف " الجمهورية بين السلطنة والقبيلة" الذي صدر الشهر الماضي في صنعاء بطبعته الثانية، بعد اثنتين وثلاثين سنة من اصداره الأول باسم مستعار" الكاتب اليمني الدكتور محمد عبد السلام" ، وسنركز بدرجة رئيسية على الفصل الثاني فيه والمعنون بـ" الجمهورية بين السلطنة والقبيلة – هزيمة يونيو وانقلاب الخامس من نوفمبر 1967" والذي تتبع المؤلف فيه أثر هزيمة يونيو1967، وكيف سرَّعت بانقلاب 5 نوفمبر، ولماذا صارت القبيلة جزء من معادلة الحكم بعد أن كانت مستبعدة تماماً في العهد المتوكلي الإمامي، وكيف أفضت فوضى حكم القاضي الارياني الى انتقال السلطة لإبراهيم الحمدي في يونيو 74 ، وكيف عملت السعودية على التخلص منه بعد أن كان رجلها القوي .
جملة التحديات السياسية والعسكرية التي جابهتها "الجمهورية الأولى" في سنواتها الخمس، وما لعبه الدور المصري في إنتاج صورة الوعي بالجمهورية، كما رغبت في تكريسه الأجهزة الاستخباراتية والعسكرية، كان مدخل المؤلف لمقاربة وتعيين الحالة.
كانت محاولة الجيش المصري وجهاز المخابرات نقل التجربة والدفاع عن النظام الجمهوري مهمة تاريخية معقدة، ونشاط المخابرات كان مثالاً فريداً على غباء البيروقراطية التي أثبتت أنها قادرة على إفساد أي مسعى تاريخي كبير في كل مكان"، لكن مع ذلك " ورغم كل الأخطاء فإن الإيجابيات كثيرة، وفي مقدمته تدريب وتكوين عدد من الألوية ، وإن حرصت البيروقراطية الحاكمة أن لا يكون منها جيشاً متكاملاً وحديثاً . فقد كان تكوين مثل هذا الجيش بحساباتها يناقض دورها، وبالمقابل كانت المخابرات على جبهة الحياة السياسية عدواً شرساً لكل تجمع سياسي أو نقابي، وبادرت كل تحرك بالقمع، وكانت الحزبية كما في مصر نفسها عمالة، ومارست البيروقراطية العسكرية ما لم تكن قادرة على ممارسته في مصر، كان المجال - في اليمن- فسيحاً لازدهار فسادها.
كان النقد الذي وجهته (القوى الثالثة) بشقيها - للتواجد المصري - صائباً في جوهره ،وإن كان صادراً من موقع محافظ وجزءً من خطة لإخراج مصر من اليمن وفتح الباب أمام الحل اليمني ، داخل تجمع سياسي تحركه المؤسسة القبلية.
هبطت هزيمة يونيو على جميع العرب كالصاعقة، ولم يحتفل بها إلا حكام السعودية وزعماء بعض القبائل، كانت هزيمة نظام بعينه، ولكنها تعني كل الشعب وكل الأمة، ودحراً خطيراً لمشروع العرب القومي.. وكانت بين اليمنيين أقلية تؤكد أنه لولا هزيمة يونيو ما تحرروا من الحكم المصري، والأغلبية تتمنى أن ينتصر العرب ويبقي جيش مصر في اليمن، والموقفان محكومان بالوعي الطبقي، فالأقلية تضم بعض مشائخ القبائل وكبار التجار ومعهم مثقفوهم من البرجوازيين الصغار والفئات الوسطى في الريف، والعمال والمثقفين الوطنيين والتقدميين المعادين للاستعمار والصهيونية.
جاء انقلاب الخامس من نوفمبر ثمرة الهزيمة، واستلم السلطة تحالف جديد، ونهجه السياسي لم يكن الا تطبيقاً لمطالب مؤتمرات (عمران وخَمِر والجند). وصلت " الذاتية اليمنية" الى الحكم، سياستها: مهادنة الاستعمار والتحالف مع الرجعية السعودية، وتصفية الجيش اليمني والحياة السياسية من القوى الراديكالية، التي تمثل الثورة الوطنية الديمقراطية، والتي كانت ضعيفة عند إعلان الجمهورية، ولكنها كسبت مواقع اجتماعية وسياسية وعسكرية، وتطورت مع صعود حركة التحرر الوطني وشعاراتها الشعبية والشعبوية.
شهدت الفترة الواقعة بين الخامس من نوفمبر 1967 والثالث عشر من يونيو 1974 صراعاً بين أطراف متحركة تتبادل المواقع. اللحظات الحاسمة - في الصراع - التي شكلت محطات في طريق التخلص من القوى الجديدة التي زادها النظام الجمهوري قوة ، وقد دافعت عنه ، لأنها تطمح الى الاحتفاظ بمنطلقات حركة سبتمبر لتملأها بمضمون جديد ، فهي وحدها كانت ولا تزال تشكل النقيض لعهد الإمامة ، فمصالحها ومصالح الجماهير الغفيرة في الريف والمدينة تناقض الإمامة بصورة جذرية ، أما المُلاك الكبار وكبار المشائخ والتجار ولا سيما ذلك القطاع القبلي من حاشد وبكيل الذي أنضوى تحت لواء المعارضة منذ بزوغ حركة الأحرار الدستوريين ، فإنه لا يهدف إلا إلى تغيير بعض قواعد اللعبة السياسية دون الخروج عليها.
ومنذ الاستقلال، في نهاية شهر الانقلاب نفسه " نوفمبر 1967”، أصبحت عدن حليفاً طبيعياً للقوى الجديدة، سواء ارتبطت بها تنظيمياً أو لم ترتبط.
جاء انتصار عدن نسمة مطهرة ملأت النفوس بالأمل وأحييت الأهداف الكبرى لحركة التحرر الوطني والقومي في ليل الهزيمة، زاد استقلال عدن الأمور تعقيداً في نظر المشائخ . أصبحت عدن مشكلة داخلية في الشمال، والشمال مشكلة في عدن، وهذا منطق الوحدة الذي يفصح عن نفسه بأكثر من طريقة.
في غمرة الدفاع عن الجمهورية التي" تقبل كل صورة" كان صراعاً على المحتوى الاجتماعي للجمهورية - من يرث الإمامة- أولئك الذين اختلفوا معها ، داخل إطارها التاريخي ، أم الذين يشكلون نقيضها الحقيقي تاريخياً في اليمن كله ؟ وبكلمات اخرى، قوى الإصلاح وترميم النظام القديم، أم قوى الثورة التي تصنع الأسس الموضوعية لتطور عصري، لا ينطلق من التسليم بالمؤسسة القبلية ولا الطائفية الدينية، ويقاوم كل عواقبها التي تسحب نفسها على نظام الإدارة والحكم والجيش.
قامت القوى الجديدة بالدور الأكبر في الدفاع عن الجمهورية في حصار صنعاء ، وأنتصر شعار (الجمهورية أو الموت) الذي رفعته المقاومة الشعبية لا في صنعاء وحدها بل في جميع المدن الأخرى وفي الريف. ولم يكن أحد المخلصين في الجيش أو المقاومة الشعبية يتوقع أن الجمهورية المنتصرة ستغير جلدها بعد حوالي عامين ، وأن عدداً كبيراً من الذين حموها سوف يزجون في السجون ويتشردون ، وأن بعضهم سيقع فريسة للجنون تحت ثقل الفارق بين الحلم والواقع والتضحيات، وأن جثمان الشهيد (عبد الرقيب عبد الوهاب ) سيُعرض في ميدان التحرير.. اختفت ألوان الجمهورية الزاهية ، وبدأ الرسم بالحبر السود على أرضية لها سيماء الإمامة الكثيرة.
وجهت القوى الرجعية ضرباتها إلى القوى الجديدة في مارس 1968 في الحديدة ، ثم في أغسطس 1968 في صنعاء ، وكان الجيش والقوى القبلية يشتركان في كل الأحداث الدامية ، وبعدها أصبح الطريق مفتوحاً أمام عودة الملكيين ، فلم يكن الجمهوريون من القوى الثالثة بقسميها ، يرى فيهم عدواً حقيقياً.
عودة الملكيين كان انتصار لليمين الجمهوري ، ولم يكن حقناً للدماء ، فقد سال الدم الآخر في سبيل عودتهم. لم يعد للجمهورية الا الصورة والإعلام والبيارق الصاخبة . فقد سلمت بكل شروط السلام السعودي . كان الصلح اليمني الذي نسجت منه راياته تحت الوصاية السعودية تراجعاً عن الأهداف التاريخية لسبتمبر، ولدور اليمن كجزء من حركة التحرر العربي وانتصاراً لقوى اليمين في الداخل والخارج . وليس مصادفة أن هزيمة يونيو كانت شرط صعودهم الأول .. جمهورية منزوعة السلاح لا دور لها في الجزيرة العربية .
لم يعد أحد يتحدث عن "الذاتية اليمنية" فقد أصبحت في نظرهم غير ذات موضوع ، كما أنهم لا يميزون أنفسهم عن حكام السعودية. أصبح واجب الذين يؤمنون بالثورة البحث عن أفق جديد وسماء أخرى ، ترفض وتقاوم الحلف غير المقدس بين قوى الرجعية في الداخل والاستعمار العالمي.
الفوضى التي رافقت حكم "القاضي عبد الرحمن" الارياني لم يستطع الحكم أن يتخلص منها إلى يومنا هذا. فهي والفساد لا يرتبطان بأشخاص الحاكمين ، بل بانتمائهم الاجتماعي. والمؤسسة القبلية ورجالها من القضاة والضباط لا يرقون في ظل علاقاتهم بحكام السعودية إلى مستوى القدرة على بناء دولة حديثة، مركزية ، متماسكة ، تملك ترتيباً واضحاً للأولويات والأهداف ، فهذا كله يناقض اُسس تصور الحكام للدولة والسلطة.
أراد "الرئيس ابراهيم " الحمدي استخدام الجيش القبلي لا لمواجهة نفوذ المشائخ في الدولة ، بل للحد من سيطرتهم عليها ، وهي سيطرة شملت كل جوانب الحياة السياسية في أيام حكم القاضي الارياني، وكان محكوماً على هذه المحاولة بالفشل منذ البداية لأسباب عديدة ، ومنها أنه لم يكن يملك برنامجاً حقيقياً لمواجهة القبيلة، فطموحه لم يتجاوز حدود تأكيد سلطته القوية ممثلة في شخصه.
مع الحمدي زاد الاهتمام بالأمن الوطني (جهاز الاستخبارات) وتطويره بإدخال وسائل التجسس والتعذيب الحديثة، وتحديثه سوف يصبح جزءاً من طغيان الدولة القبلية، ومؤشراً أساسياً على الانفصال بين الحاكم والمحكوم.
أثبت اغتيال الحمدي - بعد أربعين شهراً- أن حكام السعودية والمشائخ لا يتورعون عن أقذر الوسائل وأكثرها انحطاطاً في سبيل تنفيذ سياستهم، وقد قُتل مظلوماً ، ومع اغتياله تأسست مشكلة محورية حكمت علاقة رؤساء الجمهورية بحكام السعودية، فقد استلم الحمدي الحكم بوعود كبيرة قدمها للرياض ، وسرعان ما أكتشف وهو في الحكم أنه لا يستطيع الوفاء بها جميعاً وبالطريقة المرسومة فلجأ الى المناورة والمداورة ، وعندها غضب حكام الرياض وقرروا التخلص منه .
جمَد رحيل الحمدي المأساوي الصراع بين المشائخ ورأس الدولة ولم يلغه ، فالمؤسسة القبلية لا تستطيع التعايش مع اي حكم مستقر.. القبيلة ركيزة سلطة المشائخ ، وهي مؤسسة اجتماعية يضفي عليها البعض سمات تجعلها معادلة للتاريخ اليمني ، بل والعربي العام كله.
رافقت القبيلة الجمهورية منذ عام 1962- بعد أن كانت مستبعدة تماماً في العهد المتوكلي- ، وقد رأينا موقف ممثلها السياسي ، الذي كان الزبيري قطبه مع تجمع حاشد، والجيش والقبيلة قاما بانقلاب الخامس من نوفمبر1967.. فترة الحمدي في بعض جوانبها تختلف عن المرحلة التي تلت الانقلاب، وإن لم تكن فاصلاً أو انقطاعا سياسياً أو اقتصادياً عن تلك المرحلة ، فكل أركان التحالف ظلوا فاعلين في أيام الحمدي، ودور القبيلة السياسي الذي كان مد وجزر استقر على مدٍ لم يعرفه منذ مئات السنين. فالهيمنة القبلية على الدولة اتخذت لأول مرة في تأريخها شكل المؤسسات، فوحدت حداثة الأدوات والصورة بشكل رجعي، وهذا يمدها بلا شك بأسباب الحياة والاستمرار، وايضاً بأسباب الفناء . وقد لاحظ الباحث " هاليدي" أن القبيلة خرجت من الحرب الأهلية - 62/70- أكثر قوة فقد أصبحت تمتلك الدبابات والأسلحة الحديثة، وأهم من ذلك أنها منذ الأيام الأولى للجمهورية تمرست على استخدام أساليب في الحكم لا عهد لها به.
اختراق القبيلة للجيش والأمن قاد الى تحريم الالتحاق بهما على أبناء المناطق غير الزيدية ، ولذا لا يجد أبناء هذه المناطق إلا المهن الحرة والإقبال الشديد على التعليم ، فأبواب الجيش والأمن والأجهزة المركزية مقفلة في وجوههم.
وصف الجمهورية بـ"السلطنة" صادق بدلالة أساسية واحدة، تركيز وشكل الحكم ،وآلياته التي لا يزن الكلام على الجمهورية مع وجودها مثقال ذرة من الحداثة. والسلطنات كثيرة لكن المشترك بينها السلطة المطلقة للحاكم التي يستمدها " في اليمن" من المؤسسة القبلية. فاعتماد الحكم على المؤسسة القبلية يتضح في حكم الأقلية المغلقة، التي لا تحاور أحداً، ولا تفتح قنوات اتصال بكيان خارجها، وإن كانت تحاول دائماً الاستفادة من خدمات التكنوقراط وذوي الخبرة عموماً ، ولكن دون اشراك احداً في اتخاذ القرار.
في الكتاب فصلان آخران لا يقلان أهمية عن الفصلين المعروض أفكارهما في هاتين الحلقتين.. الأول عنوانه" التبعية المزدوجة" ويقارب فيه المؤلف جملة التشوهات التي تنتاب البنى الاقتصادية لنظام تابع وهش منذ الاستقلال الموهوم عن الحكم العثماني واعلان المملكة المتوكلية حتى الآن ، والثاني عنوانه " النفط في مأرب وآفاق المستقبل السياسي" وقرأ فيه المؤلف الآثار المستقبلية المحتملة للثروة في بلد فقير، تتحكم به سلطة متخلفة ، لا تقيم وزناً للمواطنة ، ولا لعملية الانتقال نحو العصرنة.