آخر الأخبار

الجمهورية بين السلطنة والقبيلة..ما أشبه الليلة بالبارحة المتواضعة

الأحد, 26 يوليو, 2020

(1-2)
لسنواتٍ طويلة بقيتُ أحتفظ بنسخة مهترئة من كتاب "الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي" بغلافه الأزرق الداكن، فقد كان بالنسبة لي، مثلما هو لأبناء جيلي وعموم المثقفين اليمنيين، واحد من كتب التكوين السياسي المهمة، لما يعرضه من قضايا في غاية الخطورة والحساسية للعلاقة بين السلطة والقبيلة، التي عملت بكل الأدوات المتخلفة على إعاقة بناء الدولة، وكذا تبديد الأمل في إنتاج قاعدة مشتركة للمواطنة المتساوية بين السكان بغير ما تمايزات مناطقية ومذهبية في عموم مناطق "الجمهورية العربية اليمنية" وقتها.
الكتاب الذي ظهر أواخر الثمانينيات، وكان يتنقل بين القراء النهمين كمنشور سري، بسبب منع تداوله أو كما قال الأستاذ عبد الله البردوني عنه " لاقى منعاً لا تلاقيه تجارة المخدرات " وقِّع وقت إصداره الأول باسم " الكاتب اليمني الدكتور محمد عبد السلام"، والذي لم يكن معروفاً باسمه وصفته المستعارتين لا في شمال اليمن ولا في جنوبها، وإن كانت بعض استنتاجات القراءة وقتها قد أشارت صراحة إلى اسم الدكتور "أبوبكر السقاف" في مسألة صياغته النهائية، بعد أن كانت أفكار محتواه الرئيسة حصيلة نقاشات معمَّقة وطويلة في أوساط نخبة من المثقفين اليساريين في عاصمة شمال اليمن، أو كما ورد في تقديم طبعته الأولى:" حصيلة جهد جماعي ومناقشات استمرت طويلاً، أسهم فيها كثير من الأشخاص في صنعاء. ثم قام شخص واحد بالصياغة النهائية لمواد الكتاب من أجل الاتساق في الأسلوب والمصطلح."
كتاب " الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي" صار ومنذ أيام قليلة (*) متداولاً بطبعة معقولة وباسم مؤلفه الحقيقي الدكتور أبوبكر السقاف، وبالمصادفة حصلت على نسخة منه في ذات اليوم التي انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي إشاعة وفاته بموسكو، وفي هذه الطبعة أعاد الدكتور السقاف في تنويه ما قبل المقدمة التذكير ببعض ملابسات تأليفه وإصداره في تلك المرحلة، التي أعقبت الزلزال السياسي الذي عصف باليسار اليمني في يناير 1986، فظهرت سلطة صنعاء في اكتمال انتشائها السياسي بتفكك أهم حاضنة لمعارضيها السياسيين، والأهم تعطيل النموذج الجاذب في بناء الدولة خارج معادلات رعاتها الإقليميين في منظومة الدول الرجعية مثل السعودية، فعملت وبقوة على ترويج وتسويق خطابها وأدواتها كنموذج بديل لعموم اليمن بعد الزلزال، فكان لابد أن يظهر خطاب سياسي بمسوغات فكرية ناضجة لتعرية زيفها واستبدادها، وهو ما حمل أهم أدواته هذا الكتاب.
وسنحاول في هذه المساحة، وعلى جزئيين، استعراض الأفكار الحيوية في محتوى الكتاب، والتي لم تزل قادرة على إنتاج تعليلات حيوية لجملة الأعطاب التي أصابت حلم اليمنيين الكبير "مشروع الجمهورية" بمقتل.
جاء في التنويه :"يتم إصدار الطبعة الجديدة من الكتاب الموسوم بـ"الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي" والذي أصدرته في ثمانينيات القرن الماضي باسم مستعار هو: "الكاتب اليمني الدكتور محمد عبد السلام"، حيث كانت مرحلة إصدار الكتاب آنذاك تتسم بقمع حرية الرأي والتعبير والملاحقات الأمنية للناشطين، والمفكرين السياسيين، وخاصة من اليساريين والقوميين الذين لا يتماهون مع السلطات الحكومية، ويتعرضون للاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري" .
الكتاب كما بيَّنه التقديم "يجيب عن أسئلة محورية عديدة ظلت منذ أمد دون معالجة، ومن بينها سؤال : لماذا لا يتمتع جميع أبناء اليمن الشمالي حتى الآن بحقوق مواطنة متساوية لا تفرِّق بين أبناء الوطن الواحد؟ وبكلمات أخرى: لماذا لم يستقر مفهوم المواطنة بدلاً من مفهوم الانتماء القبلي على الرغم من سقوط الإمامة منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً"؟.
باختصار شديد- كما جاء في التقديم أيضاً- يعالج هذا الكتاب في وضوح كثيراً من القضايا التي لايزال يتوهم الكثيرون أنها تقع ضمن المحظورات، بينما لا تكف قوى مختلفة تنتمي حقاً إلى القديم وعالم الإمامة عن تناول نفس هذه القضايا من منظورها الخاص، ومن أجل ترسيخ مفاهيم وتقاليد تنتمي بدورها إلى أنظمة التخلف، والقهر أكثر من انتمائها للعصر الحديث واليمن الجمهوري.
في الفصل الأول من الكتاب والمعنون بـ "من الإمامة إلى جمهورية سبتمبر" تتكثف المناقشات فيه لتعيين متغيرات الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الجزء الشمالي من اليمن خلال المراحل السابقة للوحدة اليمنية انطلاقاً من القاعدة الشائعة التي تقول "كلما قلَّت ديناميكية مجتمع ما كان نصيب الماضي ورواسبه فيه قوياً، وإن أكثر المجتمعات قدرة على الحركة وتحقيق وتيرة عالية من الحراك الاجتماعي إنما تلك التي لا يثقل كاهلها ميراث باهظ يشل حركتها أو يفرض عليها البطء عندما تكون السرعة واجبة".
الأثر السلبي لحكم الاحتلال العثماني كان في أحد جوانبه متمثلاً في غياب الإيجابية التي يحملها كل نظام حكم يوحِّد المجتمع فيوجد اندماجاً وطنياً أو على الأقل يُرسي أُسسه، وأن نظام الإمامة الذي أعقب حكم العثمانيين بميراثه الطويل لا يستطيع أن يفخر بأنه حقق حكماً مركزياً طويلاً أسهم في تطوير المجتمع بمنحه سنوات من الاستقرار والازدهار، بل قد يكون من أسباب نجاح الإمامة الزيدية مناسبتها لمنطق البيئة والقبيلة في الشمال.
ولذا كان الإمام يحيى متسقاً مع تفكيره وطموحه، وحَد حكمه بالمذهب، وسوف يوحِّد المركز والدولة بشخصه بعد الاستقلال وإعلان المملكة المتوكلية اليمنية..شخصية الإمام يحيى كانت عائقاً أمام الوحدة، فهي في وقت واحد تريد إخضاع المجتمع لحكمها وتخشى، في ذات الوقت، توحيده.
أول تقسيم للمجتمع حمله "صلح دعان" الذي وقعته الحكومة العثمانية مع الإمام يحيى عام 1911 " ليؤكد بنصوصه فرقاً مذهبياً قائماً داخل المجتمع اليمني، فقد أصبح الإمام بمقتضاها مسؤولاً عن تطبيق المذهب الزيدي في المناطق الزيدية، على أن تُطبق القوانين العثمانية في المناطق الشافعية، وهي قوانين وضعت وفق اجتهاد قائم على المذهب الحنفي، وكان هذا أول تقسيم مجتمعي يتخذ صورة قانونية في تاريخ اليمن الشمالي في العصر الحديث.
المواطنة مفهوم لم تعرفه تلك المجتمعات، وهذا ينسجم كل الانسجام وتصوّر الإمام يحيى للتاريخ والحكم داخل المذهب الزيدي، وكان أبعد ما يكون عن فكرة الوطني والوطنية الحديثة، فصارت المملكة المتوكلية اليمنية بحق مملكة الإمام، وهو الملك والإمام معاً. وقد رضي وهو الشيعي الغيور بهذا الإزدواج مفصحاً بذلك في الممارسة السياسة عن اعتقاده الراسخ بأنه مركز الدولة وهدفها ومرشدها والمسؤول عنها في الدنيا والآخرة.
رافقت بسط نفوذه على المناطق الزيدية والشافعية شعارات مختلفة، ففي المناطق الزيدية نادى بسقوط الطاغوت " العُرف القبلي" للتخلص من حلفائه القبليين، وفي المناطق الشافعية كان جنوده مجاهدين في سبيل الله، فمناطق تعز والبيضاء يسكنها "كفار تأويل"، كما كان يوحي إلى الأتباع والجنود.
بواعث معارضة الإمامة كانت مختلفة في المنطقتين، فنظام الجباية، وإن كانت أُسسه واحدة في جميع المناطق إلا أن تطبيقه في المنطقة الشافعية كان يتخذ طابع الجباية العسكرية بالخُطط والتنفيذ أسلوباً ثابتاً وقاعدة، بينما كان استثناءً في المناطق الزيدية يلجأ إليه عند العصيان، لأن الشيخ في المنطقة الزيدية كان حلقة الوصل بين الإمام والرعية، وأما الرعية في المناطق الشافعية فكانوا ضحايا جنوده وقضاته وعماله بصورة مباشرة، وكان الجهاز الإداري يكاد يكون خالياً من الشوافع، وأما الجيش فقد كان حكراً على أبناء المنطقة الزيدية، وكذلك المناصب الأساسية في الدولة.
المسافة التي تفصل الإمامة عن العصر كانت عائقاً أمام أي تقدم نسبي نحو حل المشاكل التي واجهها اليمن المستقل، ومجتمع إمامة غير متجانس يشمل المناطق الشمالية والجنوبية، ولم تستطع الإمامة خلق التجانس بالمذهب، بل صنعت التنافر، والعداء المكبوت آناً، والمعلن آناً آخر بين أبناء البلد الواحد.
كان الإمام يحيى ومعارضوه في سباق مع الزمن، ودوره كقائد انتهى منذ وقت طويل، فقد بلغ سقف طموحه إماماً للزيود، ولو في مستوى الحكم الذاتي دون الشئون الخارجية، وإن الجديد في عهد الإمام أحمد أن السلطة الشخصية تجردت من كل خرافاتها، وغدت سلطة محض، وبان أكثر فأكثر تخلفها عن العصر كلما ازداد ارتباط اليمنيين بهذا العصر، فكل من يتصل بالعصر ولو كان شبه أمي يكتشف تخلف الإمامة.
لم يستطع "أحمد" إلا أن يكون مثل "يحيى"، فالاستبداد في نظرهما كانت له دلالة يعرفها الفكر السياسي العربي الإسلامي, ومن هنا اعتبر الملك بالاستبداد معادلاً للملك التام، ضرب من الألوهية على الأرض ومعادل لها، والملك هو التصرف بموجب المشيئة القدرة.
كل هذه المقدمات كان لابد أن تفضي إلى ثورة في ظل متغيرات شهدتها المنطقة، بعد صعود حركة التحرر الوطني إلى واجهة السياسة والحكم، كان لمصر فيها الدور الفاعل، لهذا كانت حركة الجيش اليمني في سبتمبر 1962 ودور مصر كان أقوى شاهد تاريخي على الوجود الواقعي للأمة العربية وعلى أرادتها في التحرر.
الأكثرية الساحقة من أبناء اليمن كانوا مع الجمهورية، كل اليمن الأسفل، وأبناء الجنوب المحتل، وكانت القبائل الشمالية منقسمة على نفسها في حاشد وبكيل، اليمن الأسفل والجنوب دفعوا بالحرس الوطني إلى معركة شكلوا فيه الأغلبية الساحقة، ضمن صفوف الحرس الوطني، العامل، الطالب، والموظف والمثقف تدفقوا من عدن وتعز وانظم إليهم في صنعاء عدد من المتطوعين. كان انقسام المجتمع هائلاً، ومن هذا الباب دخلت قوى التدخل الاستعماري الرجعي طرفاً في الحرب الأهلية فحركت بقايا الإمامة على المسرح الحربي والسياسي.
الدور المصري، في اليمن، كان قومياً عربياً، ولم يكن يوماً مصرياً وقد ارتقى بحركة الضباط الأحرار اليمنيين إلى مستوى النضال ضد الرجعية العربية والاستعمار، ووضع اليمن الجمهوري في مواجهتها داخل شبه الجزيرة العربية بكل ما تعنيه للإمبريالية والأنظمة العربية التابعة فيها . كانت مصر المحاربة للاستعمار رافعة الحدث اليمني ولولاها لظل محاولة من المحاولات في سلسلة الانتفاضات والانقلابات اليمنية.
بعد البيان الأول للجمهورية جاءت التعيينات المهمة لممثلي الإقطاع والقبيلة في جهاز السلطة، مع شروع الحكومة في إقناعهم بالدفاع عن النظام الجمهوري، وكان توزيع المال والسلاح من وسائل الإقناع الأساسية أيضاً.
كانت تلك بداية انطلاق هذه القوى في المجال السياسي، ولم تخرج منه، واستقرت فيه كقوة قائدة منذ الصلح مع الملكيين في عام 1970، ليرسموا وجه الجمهورية الجديدة، جمهوريتهم التي يقبلها الملكيون وحكام السعودية.
إن تداخل التكوينات الاجتماعية ومكان الإقطاع والقبيلة فيها حد من راديكالية النزوع البرجوازي عند التجار والبرجوازية الصغيرة والفئات الوسطى في الريف، ولذلك لا يمكن وصف جمهورية سبتمبر بأنها ثورة برجوازية. إن الإهمال الشديد للريف وسكانه لا يترك مجالاً لذلك
هيمنة فكر الإقطاع ممثلاً في المبادئ والشعارات الإسلامية، وفي أساليب الإدارة والحكم بعد نوفمبر 1967 كان واضحاً حتى في لغة "الميثاق الوطني"، الذي صيغ كشعارات حكم، بعد عشرين عاماً من قيام الجمهورية التي تتذبذب بين الوطنية والإسلامية في كل سطر من سطورها، فيؤسس كل قضية مرة بالإسلام وأخرى بأحد أهداف سبتمبر أو بتأويل مبدأ ليبرالي، وهذا تجاوز يدل على تناقض مزمن لا في الميثاق الوطني وحده بل في الواقع الاجتماعي الاقتصادي.
( يُتبع)
(*) الطبعة الثانية صنعاء - يوليو 2020

 

لماذا يشوهون عدن الجميلة؟!
الأحد, 10 ديسمبر, 2023
الجبايات بموازين حسَّاسة!
الأحد, 26 نوفمبر, 2023