آخر الأخبار
«الإعلام الإنمائي» .. هل بقي منه شيء؟
يحتفل العالم غدًا الخميس باليوم العالمي للإعلام الإنمائي الذي يوافق الرابع والعشرين من أكتوبر منذ إقراره في عام 1972، أي منذ أكثر من نصف قرن حين كان العالم غير العالم والإعلام غير الإعلام الذي نعيشه.
يحمل احتفال هذا العام شعار «تعبئة الرأي العام» في الدول النامية لمساندة الأهداف والسياسات الخاصة بالتنمية في هذه الدول بما يؤدي إلى إيجاد الوعي الجماهيري بالجهود الإنمائية وتحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، بالإضافة إلى «توعية الناس على جميع المستويات بالفوائد وبالتضحيات المنتظرة، والحصول على مشاركاتهم التامة في تحقيق الأهداف والغايات الإنمائية». ربما تكون هذه المناسبة التي تحرص الأمم المتحدة على الاحتفاء بها كل عام فرصة للحديث عن واقع ومستقبل دور الإعلام في التنمية، الغائب عن تفكير العالم والحاضر فقط في المنظمة الأممية، ومدى صمود مفهوم «الإعلام الإنمائي» أو «الإعلام التنموي»، خاصة في هذا العصر الرقمي الذي اندمجت فيه وتداخلت وسائل الإعلام المختلفة وتحولت إلى منصات للنشر أكثر منها أداة للتنوير وقيادة المجتمعات.
أثناء بحثي عن دراسات تتناول الإعلام التنموي أو الإعلام الإنمائي أو بالتحديد نظريات الإعلام والتنمية عثرت على دراسة مهمة تعود إلى عام 1993 للدكتور سعيد محمد السيد الأستاذ بكلية الإعلام جامعة القاهرة (رحمه الله)، ونشرت وقتها بالعدد الأول من مجلة البحوث الإعلامية التي كان يصدرها قسم الإعلام بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، الذي تحول فيما بعد إلى كلية للإعلام بالجامعة المصرية العريقة نفسها. هذه الدراسة العربية المبكرة هدفت في ذلك الوقت إلى التعرف على «تأثير القناعات أو المواقف النظرية المختلفة للباحثين على الدراسات والأبحاث الخاصة بدور الإعلام في التنمية، وإلى أي مدى أدى اختلاف مواقف الباحثين وقناعاتهم الشخصية حول دور الاتصال، إلى زيادة معرفتنا بالدور الذي يمكن أن يقوم به الإعلام في دفع عملية التنمية». قبل هذا التاريخ وفي عام 1988 أصدر د. محمد سيد محمد (رحمه الله) الأستاذ بجامعة القاهرة ومؤسس قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس كتابه المعروف «الإعلام والتنمية» الذي قدّم من خلاله «رؤية عربية وإسلامية لدور الإعلام في التنمية».الملاحظ أن الإسهامات العربية التي أضيفت فيما بعد إلى هذين العملين المبكرين، على ندرتها - لم تكن ذات قيمة كبيرة وكانت مجرد تكرار لما جاء فيهما من محاور وأفكار بالإضافة إلى تركيزها -أي الأعمال المضافة- على الرؤية الغربية في التنمية والتي تقسم العالم إلى دول مركزية متقدمة ودول هامشية نامية ومتخلفة، وبينهما الدول شبه المركزية التي خرجت من إطار الدول الهامشية ولكنها لم تصل بعد إلى مرتبة الدول المركزية. وتعزي هذه النظرية أسباب التخلف إلى الدول نفسها دون أخذ السياق العام والفترة الاستعمارية الطويلة لهذه الدول في الاعتبار.
حقيقة الأمر أنه رغم إصرار الأمم المتحدة على الاحتفال بهذا اليوم العالمي سنويا فإن أوضاع الدول النامية ما زالت كما كانت عليه قبل خمسين عاما. ما زال الإعلام رغم كل التطورات التكنولوجية التي شهدتها الصناعة الإعلامية عاجز عن المساهمة الفعالة في إنجاح برامج التنمية المختلفة، ولا أدل على ذلك من بقاء الفجوة المعرفية والإعلامية بين الدول المتقدمة وبين الدول النامية كما هي وربما اتسعت أكثر، حيث ازدادت الدول المتقدمة ثراء على جميع المستويات التنموية والمعرفية والإعلامية وازدادت الدول النامية فقرًا معرفيًا وإعلاميًا أيضًا.
هنا يجب علينا أن نعيد تقييم فكرة الإعلام التنموي بشكل نقدي يأخذ في الحسبان سياق التحولات المهمة في الاتصال الإنساني التي جاءت نتيجة التكامل الرقمي وتقنيات الاتصال الحديثة، وذلك للحكم على مدى استجابة نظرية الإعلام التنموي للتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية العالمية، وخاصة في البلدان النامية.
إن الفرضية المؤكدة حتى في البحوث الغربية في هذا المجال تشير إلى أن نظرية التنمية التي روجت لها الدول الصناعية الكبرى ووكالات المعونة الأممية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية فشلت فشلا ذريعا في تحقيق نتائج إيجابية للدول الهامشية على صعيد النمو الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي. وعلى الرغم من عقود من جهود التحديث القائمة على النموذج الغربي، فقد شهدت العديد من الدول الهامشية تدهورا حادا في أوضاعها، مع إحراز تقدم ضئيل في حالات قليلة. ويرجع هذا الفشل في نظرية الإعلام التنموي، التي ظهرت في الخمسينيات من القرن العشرين كنظرية مضادة لنظرية الاستعمار الإلكتروني في دول العالم الثالث المستقلة حديثًا، إلى عدم كفاية نماذج النمو الاقتصادي والتحديث التي فرضتها الدول المتقدمة، وأوجه القصور العديدة في هذه النظرية، وخاصة في ظل انتشار تكنولوجيات الاتصال الرقمية والفجوة الرقمية المستمرة بين البلدان المركزية والبلدان الهامشية.
إن احتفال العالم باليوم العالمي للإعلام الإنمائي يجب ألا يصرف انتباهنا عن هذا الفشل الذي عانى منه الإعلام التنموي في مختلف دول العالم النامي وانفصاله عن الجماهير بشكل كبير، ويؤكد ضرورة البحث عن أطر نظرية بديلة يمكن أن نفسر من خلالها أوضاع ومستقبل وتحديات الإعلام التنموي بشكل أفضل، مثل نظرية النظام العالمي، ونظرية التمكين.
لقد شهدت الألفية الجديدة تحولات جوهرية في الاتصال البشري، خاصة فيما يتعلق بالثورة الرقمية وتكنولوجيا الاتصال. وتشكل هذه التغييرات تحديًا للمهتمين بمجال الإعلام التنموي، وتثير أسئلة أكثر مما تقدم من إجابات. من الناحية النظرية، كان من المفترض أن تعمل وسائل الإعلام في انسجام مع عناصر النمو الأخرى لتحديث البلدان الفقيرة وقيادتها إلى التقدم. ولكن في الممارسة العملية، أدركت معظم هذه البلدان، التي استثمرت بكثافة في البنية التحتية الإعلامية، بعد فوات الأوان أن هناك فجوة كبيرة بين أنظمتها الإعلامية وأنظمة البلدان المتقدمة، وفشلت هذه الأنظمة في المساهمة في التنمية المستدامة، وبالتالي، لم تحقق العديد من الأهداف التنموية الموكلة إليها على مدى عقود.
ومن هنا وفي السنوات الأخيرة، شهد مجال الإعلام التنموي تراجعًا ملحوظًا، مصحوبًا بتغييرات نظرية كبيرة. فقد تم التخلي عن نظرية التحديث ونموذج النمو الاقتصادي المهيمنين منذ فترة طويلة، اللذين نظرا إلى التنمية باعتبارها جهدًا مؤسسيًا يسير من أعلى إلى أسفل، أي من الحكومات إلى الشعوب. وبدلًا من ذلك، ظهرت مناهج نظرية جديدة تؤكد على المبادرات التنموية التي تتجه من أسفل إلى أعلى وتقوم على المشاركة الشعبية الواسعة في وضع خطط التنمية طويلة المدى، مثل «رؤية عمان 2040» التي سبق تدشينها حوار مجتمعي واسع ولقاءات بالقواعد الشعبية في مختلف مجالات التنمية وفي جميع محافظات سلطنة عُمان. وتعمل هذه المبادرات الجديدة على تمكين الأفراد والجماعات والمجتمعات المحلية، وتحويل السلطة في التنمية لتكون مشتركة بين الحكومات والشعوب.
علينا أن نعترف أن فكرة ونظرية الإعلام الإنمائي لم تعد مجدية ولم يبق منها شيء في ظل الثورة الرقمية وتزيد الفجوة بين دول العالم المتقدمة وبين الدول النامية. من هنا يجب البحث عن أفكار ونظريات جديدة في علاقة التنمية بالإعلام تجسر الفجوة وتعيد الحياة لدور الإعلام في التوعية ونشر المعلومات وتهيئة الرأي العام للمشاركة الجادة والفعالة في خطط التنمية الوطنية.
* نقلاً عن جريدة عمان