آخر الأخبار

خياراتنا المحدودة في عصر القوة المفرطة

الخميس, 19 سبتمبر, 2024

يمثّل العصر الذي نعيشه حاليًا واحدًا من عصور قليلة مرت على البشرية استخدم فيها الإنسان القوة المفرطة لفرض سيطرته وسيادته على الأرض بكل ما فيها من بشر وحجر وشجر ومجتمعات ودول.

القوة لمن يملكها هذا صحيح، ولكن ترشيد توظيف تلك القوة في النزاعات والصراعات البشرية أمر تدعو له الأديان السماوية، وكل المواثيق والعهود التي وقّعت عليها دول العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ونتيجة لذلك دخلت الدول القوية في اتفاقيات لوقف سباق التسلح، والحد من انتشار الأسلحة النووية التي كانت أبرز مظاهر القوة المفرطة التي استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لهزيمة اليابان وإجبارها على الاستسلام. وما زال العالم والأمريكيون أنفسهم يشعرون بفداحة الجرم الذي ارتكبته الإدارة الأمريكية في حق البشرية عندما استخدمت تلك الأسلحة التي لم تستخدم مرة ثانية على نطاق واسع حتى يومنا هذا.

منذ ذلك الحين دخل العالم عصرًا عرف باسم «الحرب الباردة» كان يتم خلالها إدارة صراعات القوتين العظميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، عبر وسطاء، ومن خلال استخدام الضغوط الاقتصادية والإعلامية المتبادلة، وقد ظلت هذه الوسائل فعالة إلى حد كبير في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، ونجحت في منع المواجهة المباشرة بين الحلفين العسكريين الكبيرين، حلف شمال الأطلسي «الناتو» وحلف وارسو، وبعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي والذي جاء نتيجة تراكم تأثير الحرب الباردة على مدى سنوات، عاد العالم مرة أخرى إلى مفهوم القوة العظمى الوحيدة التي سارعت إلى فرض سياساتها ورؤاها ومصالحها على العالم كله، واستخدمت القوة المفرطة العسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية في إخضاع الدول والحكومات لها.

الولايات المتحدة التي منعت نفسها من إرسال جيشها لحروب خارج أراضيها بعد هزيمتها في فيتنام، استعادت شهيتها المفتوحة دوما للقتل والتدمير وبدأت على الفور بالتدخل المفرط في القوة في أماكن كثيرة من العالم خاصة في العالمين العربي والإسلامي، وتظهر ملامح العدوانية الأمريكية فيما فعله جنود البحرية الأمريكية «المارينز» في الصومال، وفي ملايين العراقيين الذين قتلتهم بأسلحة محرم استخدامها دوليًا، وملايين الأطفال من العراقيين الذين منعت عنهم الغذاء والدواء لأكثر من عشر سنوات حاصرت خلالها بلادهم حصارًا مميتًا، وملايين الأفغان الذين جربت فيهم كل أنواع الأسلحة الفتاكة.

في تقديري عند الحديث عن القوة الأمريكية المفرطة لا يمكن فصل الولايات المتحدة الأمريكية عما جرى ويجري في فلسطين المحتلة منذ عام 1948 حتى الآن، وقد شهدت السنوات الأخيرة ما يمكن أن نسميه «الدعم الأمريكي المفرط» لإسرائيل، والذي يشمل تقديم أحدث ما أنتجته آلة الحرب الأمريكية من أسلحة لها دون غيرها من دول العالم، وتشجيعها على استخدام القوة المفرطة في مواجهات غير متوازنة مع شعب شبه أعزل لا يملك طائرات حربية أو دبابات أو مدافع أو آليات عسكرية. ولعلها -أي الولايات المتحدة- هي المشجع الأول لإسرائيل على استمرار الحرب في غزة واستخدام القوة المفرطة الزائدة عن الحد وعن الحاجة في قتل أكثر من 40 ألفًا من الفلسطينيين في أقل من عام واحد.

وإلى جانب الدعم العسكري، تقدم الولايات المتحدة لإسرائيل كل أشكال الدعم السياسي غير المشروط ليس فقط في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، ولكن أيضا بالمشاركة في المفاوضات العبثية التي تطيل أمد الحرب وتطيل معها معاناة الفلسطينيين في غزة؛ لإجبار المقاومة على القبول بالمطالب الصهيونية، وتعمل خلال هذه المفاوضات كوسيط منحاز تماما لإسرائيل، بالإضافة إلى الدعم الاقتصادي والدعم الإعلامي عبر منصات الإعلام الأمريكية الهوية والصهيونية الهوى. ولا يؤثر اختلاف الإدارات الأمريكية المتعاقبة على هذا الدعم، الذي لم يتوقف يومًا، واتسع مداه في الحرب الأخيرة على غزة المستمرة منذ عام تقريبًا بل إن الحزبين الرئيسيين يتنافسان على إرضاء إسرائيل وتحقيق مصالحها دون أية مراعاة لعلاقات الصداقة والحب من طرف واحد التي تربط الأنظمة العربية بهم.

الغريب في الأمر أن الاستخدام المفرط للقوة الأمريكية والإسرائيلية في غزة وحاليًا في الضفة لم يلفت انتباه أحد في الأنظمة العربية صاحبة الرموز الدولية المميزة، التي تزعم أن اللحظة لحظتها والعصر عصرها، وتتنافس على قيادة الأمة العربية في عصر تراجعت فيه القوى العربية الكبيرة بفضل الضغوط الاقتصادية والمالية التي تعرضت لها على مدار سنوات من الصديق الأمريكي لإخضاعها تماما للسيطرة الصهيونية، والتي تعلم أنها لا يمكن أن تتمرد على الإرادة الأمريكية لا بالتصريح ولا حتى بالتلميح.

هل يبقى هذا الوضع على ما هو عليه؟ وهل يظل العرب سواء في الأراضي العربية المحتلة أو في غيرها يتلقون ضربات الصديق الأمريكي دون أي رد فعل؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نبحث عن إجابة عنه. إلى متى نبقى في موقع المفعول به ولا ننتقل إلى موقع الفاعل. لقد علّمنا «طوفان الأقصى» أن نقص الإمكانات وطغيان العدو ليس حجة للجلوس وانتظار ما يرمي به الأمريكيون والإسرائيليون لنا من فتات، رغم أن موائدهم ما عمرت إلا بالمال العربي. صاروخ باليستي واحد أطلقه اليمنيون على عاصمة الكيان الغاصب هذا الأسبوع قضّ مضاجع الإسرائيليين، فما بالك لو أطلق كل بلد عربي صاروخًا واحدًا باتجاه الأراضي المحتلة، ليس بهدف إشعال الحرب ولكن لإجبار العدو على إنهائها. صواريخ اليمن وصواريخ حزب الله والمقاومة العراقية قد لا يكون لها تأثير عسكري كبير على سير المعارك في غزة، ولكنها فعالة في مجال الردع الحقيقي الذي لم تجربه إسرائيل من قبل.

إذا كان عدوك وصديق عدوك يستخدمان القوة المفرطة لإرهابك وإجبارك على التسليم لإرادته، فلا أقل في هذه الحالة أن تجرب معهم القوة المفرطة في التهديد. لا نطلب من الأنظمة العربية خاصة في دول الطوق أن تذهب إلى الحرب لأن قرار الحرب ليس في يدها، وإنما في يد أمريكا أي في يد إسرائيل، ولكن فقط نطالبها بالتهديد فقط باستخدام القوة المفرطة.

لقد أصبحت خياراتنا محدودة للغاية بعد أن أعلن نتانياهو عزمه إشعال الحرب في الجبهة الشمالية مع لبنان، ويجب أن يكون هناك وضوح عربي ولو بالتصريحات فقط بأننا لن نترك لبنان وحده، وأننا تربطنا بلبنان معاهدة دفاع عربي مشترك تمامًا مثل التي تربطنا بالصومال، ودفعت دولا عربية إلى إرسال قوات إليها لمواجهة الأطماع الإثيوبية فيها. صحيح أنه «لا يفل الحديد إلا الحديد» والقوة الأمريكية والإسرائيلية المفرطة يجب أن تواجه بقوة مماثلة أو قريبة منها، ولكننا في هذه المرحلة من مراحل الضعف العربي العام، قد نرضى فقط بالتهديد.. مجرد تهديد قد يزعج تل أبيب وواشنطن، ولكنه قد يكون حاسمًا في لجم الجنون الإسرائيلي التي تذكر الوقائع والأحداث أنه لن يتوقف إلا بحرب شاملة سيدفع ثمنها الجميع.

* نقلاً عن جريدة عمان

قطع ذراع إسرائيل الطويل
الخميس, 03 أكتوبر, 2024
ماذا بعد سقوط الإعلام الدولي؟
الثلاثاء, 13 أغسطس, 2024