آخر الأخبار

مقاهي صنعاء و(هِبة) الحرب !!

السبت, 07 يناير, 2023

(1)
طلب مني الزميل أحمد الأغبري، قبل أيام، الكتابة عن أثر الحرب على المقهى، من زاوية أن علاقة سكان مدينة مثل صنعاء بالمقهى كانت عادية تقريباً قبل سنوات الحرب ولا تتعدى شكل المنفعة والخدمة، لتتحول في سنواتها الثمان إلى علاقة صلبة وفضاء للتنفس عند كثيرين، صاروا يقضون أوقات أطول فيه في أحاديث ونقاشات متشعبة تتصل بمعيشهم اليومي، ومعها مكّنت الراغبين الاقتراب أكثر من صورة اليمن المتعدد في أبنائه وثقافتهم و يتيحه هذا الفضاء المديني العابر للمنطقة والجهة.


استجلاء رأيي في هذا الموضوع كان من منطلق أني أحد رواد المقاهي، التي صارت جزء من برنامجي اليومي تقريباً، وأني قبل سنوات قليلة ( 2019) كتبت مادة تفصيلية عن" المقهى في اليمن.. من النبذ إلى عنوان التمدن الصريح "، متتبعاً لحالات  نشوء عشرات المقاهي في المدن الرئيسة في اليمن (عدن، الحديدة، المكلا، تعز، صنعاء) وتحولها مع السنوات إلى عناوين ثقافية واجتماعية بارزة في وعي الكثير من المشتغلين بقضايا الشأن العام.


في استعادتي مثل هذه الصورة انطلقت من ذات مروية النبذ التي استخدمتها في المادة التفصيلية وقتذاك، ولم تزل تكثف طرية وواضحة لمقاربة حالة الوعي بالمقهى.


(2) 
قال لي أحد الأصدقاء ، في مقهى وردة بصنعاء القديمة قبل سنوات، بأن والده القاضي والحاكم الشرعي، الذي كان يوصف بالمستنير في الصف الجمهوري جن جنونه حين رآه جالسا في مقهى قبل نصف قرن، وأعتبر ذلك تجاوزاً أخلاقيا مريعاً، توجب عليه العقاب والحبس والتقييد في المنزل لأسابيع ، قبل تدخل عائلي قوي لإطلاقه.
دائماً ما كان ينظر إلى المقاهي والسماسر( نزل وخانات المسافرين) بازدراء صريح ، وتحاك الكثير من القصص الهابطة عنها من قبل نخب المجتمع المحافظة والمتشددة، ولم تزل بعض هذه النظرة قائمة، بل وتستعاد بطريقة أكثر فجاجة اليوم مع ارتددات الموجة الحوثية.


(سمسرة وردة)  التي لا تزال قائمة في أطراف سوق الجنابي في قلب مدينة صنعاء القديمة  ، كانت ، حتى العام 2015 ،تزيِّن مدخلها  بلافتة بنر بمسمى مقهى (أبو هاشم) ، لكن منذ استولى الحوثيون على السلطة اختفت تلك اللافتة وأعاد ملاكها تجديد لافتتها القديمة بذات مسماها التاريخي (سمسرة وردة) ، فأبو هاشم لا يمكن أن يكون (مقهوياً) بأي حال من الأحوال.


لم تعد اللوحة النحاسية  الخاصة بالمقهي ، هي الأخرى، في مكانها، قال لي طه وردة أنهم تفاجأوا ذات صباح من العام 2021باختفائها، لأن  قطعة النحاس الثقيلة  التي كتب عليها اسم المقهى باللغتين، في الغالب ، أغرت اللصوص بنزعها وبيعها بالكيلو في محل للخردوات العتيقة.
استقطبت السمسرة (مقهى وردة) خلال العقد والنصف الماضي الكثير من المثقفين/ات، والناشطين/ات ، وصارت عنواناً للفضاء العام المتعافي، غير أن إجراءات الفصل والتضييق على النساء قلل من الوصول إليها، ومع ذلك لم تزل مكاناً محبباً عند كثيرين للوصول إليه، وإن الأخوة( آل وردة) صاروا يديرون مقاهي عدة  في منطقة السائلة وبعض الأحياء القديمة والجديدة ، تناسلت من الإسم الأصلي ، حتى أن مقهى (يحيى النبوص) المشهور في حي الأبهر قد آل هو الآخر إلى واحدٍ من أبناء وردة بعد وفاة صاحبه قبل أكثر من عام، وصار الذين يرتادونه ،بحلته الجديدة، أناس من أعمار مختلفة، بعد أن كان زبائن (النبوص) من كبار السن الذين ارتبط المقهى وصاحبه بهم لسنوات مديدة.


في قلب المدينة الحديث والذي يمثله  حي وميدان التحرير، الذي نشأ خارج أسوار المدينة العتيقة بعد ثورة سبتمبر، يحضر مقهى شعبي آخر هو مقهى  (مدهش عبادل)، باعتباره  فضاء للتنفس، حيث يلتقى على طاولاته القليلة والضيقة، وفي أوقات مختلفة من النهارات، الكثير نت المثقفين والفنانين والأدباء الذين لم يغادروا صنعاء في سنوات الحرب.


هذا المقهى موجود قلب شارع خلفي ضيق، معروف عند العامة بشارع المطاعم، وصار خلال سنوات الحرب عنواناً للمقهى الجاذب، داخل (زقاق) مكتظ بالمترددين لتناول وجباتهم المتنوعة ومتدرجة القيمة؛ هؤلاء المترددون على المكان من مناطق يمنية مختلفة، حتى ليخيل للفاحص أن ألسنة اليمن كلها في هذا الزقاق، وإن باتت (بلبلتها) اليوم أخف قليلاً عما كانته  قبل سنوات الحرب، حين كان المكان أشبه برئة خرافية لليمنيين، وعلى رأسهم أبناء مدينة عدن الذين استقروا بصنعاء، وصار المكان يُعرَّف بهم (شارع العدانية).


هناك مقهى ثالث، يعرف بـ(مقهى الدملؤة) صار خلال سنوات الحرب جاذباً للكثير من المثقفين والمشتغلين بقضايا الشأن العام، ويقع في تقاطع شارع الزبيرى بالدائري أو ما تعرف  بجولة جسر كنتاكي. سهولة الوصول إليه ووجوده في ممر مسلوك ،وقربه من منطقة البنوك والمشافي والعيادات قوَّى حضوره كفضاء للتنفس.
الحديث وتمثيلاته بهذا العدد المحدود من المقاهي مرتبط بعلاقتي بها كفضاء نتحسس بواسطته نبض الحياة الذي يمد اليمنيين بعافيتهم وقوتهم ، وأن هناك عشرات المقاهي الأخرى في المدينة لها روادها  الذين يرممون بها شروخ أرواحهم وتهتكاتها، وأن لشريحة الشباب مقاهيهم التي يلتجئون إليها وإلى خدماتها التي تتناسب ورغباتهم العصرية.


(3)  
بعد أن تقلص نشاط الفضاء العام في المدينة خلال سنوات الحرب، بسبب التضييق السياسي والاجتماعي، صار المقهى الشعبي بأجوائه المحببة وخدماته البسيطة عنواناً للتنفس عند كثيرين وإن بشكل خجول؛ ومن السابق لأوانه الرهان أن يصير بديلاً لمقيل اليمنيين، الذين يهربون إليه بقاتهم من ضغوط المعيشة وانعدام بدائل الترفيه الثقافية التي توفرها المسارح ودور السينما في اكثر البلدان ، وانحسار وظائف الحدائق العامة وصالات وملاعب الألعاب الرياضية، في مدينة صار التحشيد العسكري فيها وتسميم الفضاء العام برائحة البارود عنواناً للمرحلة ، مثله مثل عطن الزنازين واقبية السجون والمعتقلات السرية التي يتكدس فيها مئات المعتقلين والمخفيين قسراً.



*المقال خاص بالمهرية نت* 

لماذا يشوهون عدن الجميلة؟!
الأحد, 10 ديسمبر, 2023
الجبايات بموازين حسَّاسة!
الأحد, 26 نوفمبر, 2023