آخر الأخبار
الثقب الذي ابتلع اليمن واليمنيين!!
مشكلة اليمنيين مع المركزة ابتدأت مع قيام السلطة (الأصولية المغلقة) بإنتاج عاصمة واحدة، تكبر وتتقوى على حساب مدن حيوية أخرى. الهدف من ذلك لم يكن طريقاً لبناء دولة مركزية قوية بإدارة فاعلة ، وإنما لجعل بقية المدن الطرفية والوسطية العمل والشقاء من أجل هذا المركز(المعنوي) حيث صناعة القرار وإدارة الموارد وتوفر فرص العمل وتنوعها ، فصارت الهجرة الداخلية من الأرياف والمدن الثانوية إلى العاصمة حلاً بالنسبة لكثير من الأسر (الفلاحية وغير الفلاحية) بسبب الكثافة السكانية وشحة المياه وتفتت الحيازات والملكيات الزراعية وانعدام الأشغال في المناطق المُهاجر منها.
انتقلت المشكلة للعاصمة فنمت الأحياء العشوائية والهامشية عديمة الخدمات تماماً، وفيها أعادت المشكلة الاجتماعية ،بتمظهراتها المختلفة، تموضعها كحالة عابرة للمنطقة والجهة، فاختلاط الفقراء القادمين من مناطق مختلفة سيعيد تعريف سكان هذه الأحياء كمهمشين ملونين في أحياء الصفيح (المحاوي) وحوانيت الأحياء الشعبية النابتة في كل مكان، ولهم مشاكلهم الاجتماعية شديدة التعقيد وباهظة المعالجة، لكن السلطة ايضاً ستعيد الاستثمار في أبناء هذه الأحياء سياسياً وعسكرياً وأمنياً لخدمة مشاريعها.(*)
المعاينة التاريخية الفاحصة لطرائق بناء المركز بأدوات السلطة السياسية والعسكرية خلال أربعة عقود ستفضي إلى أن العملية برمتها ترافقت مع إعادة خلق حالات طارئة داخل الأنموذج المراد تثبيته ، وفي مقدمتها المحاولات الدؤوبة لإنتاج بدائل للتشكلات الطبقية المُنتِجَة التي نمت في حواضر اليمن ومجاوراتها منذ ثلاثينيات القرن الماضي وتحديداً في مدينة عدن والقرن الأفريقي، فعمدت السلطة، مثلاً، إلى انتاج طبقة تجار طفيلية من بيوتات لا صلة لها بالعمل التجاري لتكون بديلة للبيوتات التجارية العتيقة، فسهلت في البداية فتح منافذ التهريب- في الساحل الغربي الحدود الشمالية وصحاري الربع الخالي- لتسهيل تدفق السلع غير المجمركة والرخيصة إلى الأسواق بواسطة شبكات متداخلة بحماية من نافذين في السلطة( مشائخ وضباط)؛ و في ظرف سنوات قليلة انهارات الكثير من البيوت التجارية التقليدية، وحضرت بدلاً عنها مجموعات تجارية مرتبطة بالصف الأول من متنفذي الحكم، وإن العديد من العلامات التجارية والوكالات المعروفة انتزعت من مُلاكها الأصليين ومنحت لتجَّار جدد بالقوة والاحتيال، الذي كان التهريب طريقهم الأول نحو مراكمة الثروة.
أما البيوتات التجارية التي تكيفت مع الوضع المختل (بالمهادنة والقبول بالابتزازات) استطاعت الاستمرار في مزاولة أعمالها، وصارت ،في ذات الوقت، تجد الكثير من الأغطية لأنشطتها ،التي غدا بعضها غير مشروع، وتقوم بتعويض خسائرها في الأرباح من بيع السلع والخدمات التي تتاجر بها للمواطنين بأسعار باهظة ومستوى جودة أقل، دون أن تمارس الأجهزة المختصة دوراً رقابياً عليها، لأنها في الأصل قد اشترت الجميع بأموال مدنسة,
ومع بروز ظاهرة (رُخَص الاستيراد) التي كانت تمنحها وزارة التجارة والتموين والصناعة في عقد الثمانينات قفز إلى الواجهة تجار جدد ومستنفعين من الحالة ، إذ كان الكثير من المسئولين يحصلون على توجيهات عليا بمنحهم رخص استيراد لسلع مطلوبة ومرغوبة في السوق بضمانات شخصية، ولأنهم غير مؤهلين في الأصل فيقومون ببيعها لتجار معروفين قادرين على توفير ضمانات وفتح اعتمادات، أو أنهم يفرضون أنفسهم شركاء في رأس المال الوهمي، فيضطر معها التجار القبول بها تجنباً للفقدانات والخسائر الأكيدة.
لم يتبق من قطاع المقاولات التاريخي الذي أسهم بتشييد البنى التحتية في البلاد خلال عقدي الستينات والسبعينات وما بعدهما إلاَّ أسماء مؤسسيه في ذاكرة البعض ، بعد أن استحوذ (المشايخ) على هذا القطاع برغبة من السلطة على طريقة توزيع الغنائم، إذ كانت تصدر الكثير من الأوامر بتكليف أسماء بعينها من مناطق القبيلة لتنفيذ مشاريع عامة وكبيرة تقوم بتمويلها الخزانة العامة، وتنفذ هذه المشاريع بمواصفات مخالفة لجداول الكميات الرئيسية، وبمستوى جودة منعدم تقريباً، بعد أن يقوم المقاول المكلَّف ببيع المناقصة لمقاول بالباطن، بنسبة أرباح مرتفعة، وبدوره يقوم مقاول الباطن بتنفيذ المشروع بهامش ربح جديد، يقتضي منه الاخلال بالمواصفات، ولا يجد، في نهاية المطاف، من يحاسبه لأنه يكون متكئاً على ظهر أكبر وأقوى بكثيرمن جهات الرقابة.
كانت فكرة إلهاء المشايخ الكبار بعقود المقاولات وسيلة من وسائل نظام صالح في إرباك الجميع بموضوع المال، حتى لا ينشغلون بمشروعه السياسي، وعلى رأسه التوريث، وإعادة مركزة الحكم في الأسرة (العفاشية) بدلاً عن تشتته على المذهب(الزيدي) والقبيلة( الحاشدية) والمنطقة (السنحانية).
صار للمركز تبعاً لهذا المخطط - المشتغل عليه بعناية- أذرعه الفاعلة في الحياة العامة، ولم يقتصر دوره الوظيفي على انتاج العسكر كما دأب على ذلك لعقود طويلة، فقد صار له طبقته التجارية ، وله مقاولوه، وطبقته الوظيفية المدنية التي تسلل إليها بواسطة أبناء الكثير من الأسرالمؤثرة الذين تلقوا تعليماً رفيعاً في الجامعات الدولية، ليس لكفاءتهم العلمية واختبارات التنافس، وإنما لوجود من يتبناهم جهوياً في الدوائر الأضيق لصناعة القرار؛ فعلى سبيل المثال كانت شركات التنقيب واستخراج النفط العاملة في شبوة ومأرب وحضرموت تقدم منحاً علمية كثيرة في جامعات مرموقة في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا والصين ودول أخرى، فكان كثيراً ما يتدخل النافذون لتوزيع أكثرها على أقربائهم وترك النسبة الأقل للتنافس بين طلاب مجدين من أسر فقيرة وغير معروفة من بقية اليمن.
سلطة صنعاء اليوم تعيد تطويع المركز من جديد لخدمة مشروعها الطائفي بلبوسه الجهوية، فبعد أن تخلصت من حلفائها المرحليين في السنوات الثمان الماضية وأزاحتهم من مواقع وظيفية فاعلية، وأعادت توزيعها على أساس طائفي على الأسر السلالية القريبة من مركز النفوذ، ها هي تعيد انتاج سلطتها الخاصة اعتماداً على القريبين منها والمنتمين لمناطق انطلاقها الباكر(صعدة)، حتى صار يطلق على مسيَّري الإدارة الجدد وقليلي الخبرة بـ (جناح صعدة)، الذي بات اليوم بقوته (اوليغارشية) فاعلة تحتكر كل القطاعات الحيوية في العاصمة وعلى رأسها قطاع الطاقة والمقاولات والاغاثة والجبايات.
________________________
(*) الصوت الانتخابي الفاعل عند المؤتمر الشعبي العام، وتالياً التحشيد السياسي في مجابهة الخصوم، واليوم المخزون القتالي للميليشيات يظهر على الدوام من هذه العشوائيات وحوانيت الأحياء القديمة في العاصمة.
*المقال خاص بموقع " المهرية نت "