آخر الأخبار
بين السياسة والأنثروبولوجيا.. عالمٌ فذ اسمه عبده علي عثمان
الراحل الكبير عبده علي عثمان ( 1944-2020) شخصية أكاديمية وسياسية مختلفة، وخلال نصف قرن شكَّلَ حالة نادرة من الحضور العلمي والأخلاقي والتسامح الكبير. انتمى أواخر الخمسينات لحزب البعث العربي الاشتراكي - الذي صار في الثلث الأخير من الستينات أميناً لسر قيادته القُطرية - ، لكنه مع التحولات الطليعية لكثير من المثقفين البعثيين صار أحد رموز اليسار في اليمن، وقائداً في الحزب الاشتراكي الذي انتخبه في واحد من مؤتمراته عضوًا في لجنته المركزية.
حينما تعيَّن وزيرًا للبلديات في آخر حكومات محسن العيني، في الثلث الأول من السبعينيات، كان يُتوّجُ مرحلة مِهنية في العمل العام، تركتْ أثراً كبيراً، أقلّها أنه لم يتكسب منها مطلقًا، حتى قطعة أرض صغيرة يبني عليها مسكنًا، وكان بجرّة قلَم يستطيعُ منْح نفسه آلاف الأمتار من أرض الدولة ، دون أنْ يُحاسِبَه أحد، لكنه لم يفعل، ووقفَ بكلّ شجاعة أمام مافيا الأراضي والمشايخ؛ حمايةً لأراضي الدولة، وبكلّ شجاعة تركَ الوزارة حين اختلف مع توجهات الحكومة وقتها.
وحين تفرَّغَ للعمل الأكاديمي في قسم الاجتماع بكلية الآداب – جامعة صنعاء، أمسك بعمادة شؤون الطلاب في أهم مراحل بناء الجامعة، فكان يُشارُ إليه بذات البَنان التي تُشِير إلى الدكتور عبدالعزيز المقالح – رئيس الجامعة وقتها، وكان يسكنُ إحدى الشُّقق المتواضعة التابعة لها.
طلابه في قسْم الاجتماع، منذ منتصف السبعينيات، بالمئات، ويُشكِّلُ العديدُ منهم علامات فارقة في العمل الأكاديمي والبحثي في عديد من الجامعات ومراكز الأبحاث في الداخل والخارج.
يقول عنه عبد الباري طاهر :
"قائد حزبي رائد لا يحب الظهور، و ينأى بنفسه عن الصراعات الكالحة والتعصب الضيق من أي نوع كان. شارك في تأسيس المقاومة الشعبية، وكان أحد أبرز رموزها ، وأسهم في تأسيس جامعة صنعاء كأحد أهم علماء الاجتماع. تلاميذه اليوم كثر ونجوم تلمع في سماء المعرفة والعطاء الوطني. تلاميذه خارج الجامعة أكثر منهم داخل الجامعة. فعبده علي عثمان قدوة ومثل لكل مناضلي ومثقفي الشعب اليمني شمالاً وجنوباً."
و يصفه قادري أحمد حيدر في مقالة عنونها بـ غاندي المقاوم ):
الثائر ، و الباحث ، والأكاديمي ، والقائد ، والمثقف العضوي. هو حقا لأنه يحمل في جوانحه روح الإنسان وطيبته وبساطته، هو مبتدأ وخبر علاقة الجملة الأسمية، والفعلية التي نراها مجسدة في سلوكه ، في صورة وحدة النظرية ، والتطبيق، ، القول ، والفعل، الكلام السياسي، والفعل المقاوم، هكذا هو الأستاذ عبده علي عثمان من مبتدأ معرفتي به، حتى استراحته في سرير المرض. يقاوم، موحياً لك بروح العقل المنير، والمقاوم ، من حركة عينيه التي تشير وتقول لنا الكثير.. كيف لا وهو من مبتدأ مشواره كان في قلب المقاومة ، ففي حصار السبعين يوماً ، كان أحد الأسماء التي يتكرر انتخابها ، مع عمر الجاوي، وسيف أحمد حيدر ،وعلي مهدي الشنواح إلى قيادة المقاومة الشعبية الموكل إليها تنظيم ,إدارة الدفاع عن الجمهورية ، وعن صنعاء.
كان الراحل مُقلًّا في نشره، غير أنّ إصداره المتميِّز المعنون (كتابات في التاريخ الاجتماعي للمجتمع اليمني)، الذي أصدره مركز الدراسات والبحوث اليمني في العام 2011، طرق فيه أبرز القضايا الإشكالية في المجتمع، وعلى رأسها قضايا المهمَّشين والفقراء "الأخدام في اليمن – أصولهم وعاداتهم" ، و"مسألة الملكية والمشاركة في الأرض في اليمن"، و"النمو الحضري في اليمن المعاصر" ، و"بعض المفاهيم الاجتماعية والأنثروبولوجيا في كتابات الهمداني" ، و"الجماعات الهامشية في اليمن" ، و" الصِّلات الحضارية والثقافية بين اليمن والمستوطنات الحضرية في شرق أفريقيا "
و " دور المقاومة الشعبية في الدفاع عن مدينة صنعاء وفك الحصار عنها " ، و" الخلفية الاجتماعية لثورة 26 سبتمبر 1962م " ، و " حوار الأحرار حول القضية اليمنية " ، و" سياسة التنمية الاجتماعية في اليمن الواقع والتطلعات" وغيرها من الموضوعات الحيوية ذات الصلة بالمجتمع اليمني.
وفي اطلالة على بعض منتوجه العلمي الرصين الملموم في كتابه " كتابات في التاريخ الاجتماعي للمجتمع اليمني " ستتكشف لنا عقلية بحثية نادرة تستطيع ايصال الأفكار بلغة سهلة غير متخشبة تجمع بين الرشاقة ووضوح الأفكار
يرد في النص المعنون "الخلفية الاجتماعية لثورة 26 سبتمبر 1962 م " أنه بالرغم من النزعة الدستورية الاصلاحية لحركة 1948فإن عناصرها كانت غير متجانسة اجتماعياً فقد كانت تضم عناصر تنتمي إلى الأسرة الأرستقراطية الحاكمة ، كما ضمت بعض القضاة والمشايخ والتجار والعسكريين ، وبعض رجال الدين والأدباء ممن عادوا من الأزهر ودار العلوم ، وكانوا متأثرين ببعض كتب المفكرين أمثال محمد عبده والأفغاني والكواكبي والبنا، ورغم تباين الخلفيات الاجتماعية لعناصر الحركة فإن النزعة الإصلاحية كانت تجمعهم ، لدوافع إما دينية وإما سياسية.. لذلك يمكن أن نعتبر حركة 48 نتاج تحالف مزدوج بين فئات اجتماعية مختلفة . وكان يشد هذا التحالف النزعة الدستورية والنقمة ضد الإمامة" ويعتقد بعض المؤرخين أن حركة 1948 تمثل تمرداً على قداسة الإمام وحقه الإلهي في الحكم ، كما يقول د أبوبكر السقاف ورفضاً للمادة الفقهية التي وضعها الأئمة لتدعيم سلطتهم والتي نصها " من انتقد الإمام بقلبه منافق ومن انتقده بلسانه فمخطئ ومن انتقده بيده فمحارب " ولم يبح الأئمة المعارضة والخروج على الإمام الظالم الا لمن حاز درجة الاجتهاد في العلوم الدينية وينتمي – حسب شروط الإمامة – إلى العلوية الفاطمية، ويعلق الزبيري على هذه الظاهرة بقوله" أنها فتحت الباب لـ "السادة" الطامحين في أن يسعوا للعرش بطريقة دموية ، ولكن إذا ما حاول الثورة أحد من غير السادة دمغ بأنه زنديق ، مخالف ، باغ وعدو الله. ص9
مثل هذه المقاربات يمكن اسقاطها على راهننا السياسي والاجتماعي ، وكأن الوقت ، بسبب النكوص الكبير والارتداد عن أفكار الثورة ومسارها ، لم يتحرك قيد أنملة، فدولة الإمامة يعاد احيائها بفعل فرض أنماطها وأدوات تسييرها، وحتى المتحكمين بمقدراتها.
وعن التحولات الاجتماعية التي أحدثتها ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، يصير هذا المجزوء البليغ تكثيفاً لحالة التحول ، بفعل كسر نمط العلاقة القديم في المجتمع والذي فرضته سلطة الإمامة لصالح التمدن والتحديث:
" ترتب على نشأة المؤسسات الاقتصادية ونمو المشاريع الخاصة وتنشيط التجارة على مستوى المدن نمو فئات اجتماعية جديدة في المدن كعمال وفنيين في مجال الخدمات أو موظفين لدى المؤسسات والمشاريع الخاصة. وقد أحدثت هذه الظواهر علاقات جديدة داخل المدن تختلف نسبياً عم علاقات المناطق الريفية .كما عكست ظاهرة نمو المدينة اليمنية بعض علاقتها على الريف نفسه .وقد أدى نمو المدينة اليمنية إلى جذب العديد من أبناء الريف ؛ ولكن هذه الفئات الريفية لم تنقطع علاقاتها بأصولها الريفية ، لعد ثبات المؤسسات الاقتصادية وعدم قدرتها على استيعاب القادمين من الريف للبحث عن العمل . وقد ساعدت هذه الوضعية على هجرة الكثير من الريف إلى خارج الوطن بحثاً عن المعيشة . ولعل من الأسباب التي أدت إلى ازدياد ظاهرة الهجرة إلى الخارج أيضاً التفاوت الاجتماعي في الريف وتفتت الملكيات الزراعية ، وقد أحدثت التطورات الاقتصادية بعد الثورة بعض التغيرات في البنية الاجتماعية ؛إذ اصبحت العلاقات الاجتماعية علاقات مزدوجة تتداخل فيها العلاقات شبه الاقطاعية مع العلاقات القبلية والعلاقات البرجوازية . ونجد النفيض لهذا الطرف في فئات المزارعين والعمال في الداخل والمهجر وفئة المثقفين الوطنيين. ويقتضي هذا التداخل القائم في العلاقات الاجتماعية مزيداً من نظم الانتاج والعمل حتى يتم التوصل إلى حقائق اجتماعية علمية حول الظواهر السياسية والثقافية والأنشطة الاجتماعية المختلفة التي تعكسها انظمة الإنتاج الاقتصادي للمجتمع " ص 14- 15
هذا ملمح بسيط من نتاج عالم اجتماع كبير، ستفتقده الحياة العلمية في الجامعات اليمنية وخارجها . عالم أدرك الفارق بين لعبة السياسة وعلمية الاجتماع وقضايا الأنثروبولوجيا، فكان أن ذهب بعلم الاجتماع السياسي إلى مساحات غير مدركة في التعليم العالي في اليمن، وصار ،خلال ثلاثة عقود، رائده الكبير و بلا منازع.
المقال خاص بموقع المهرية نت