آخر الأخبار

حلم "اليماني" الذي  أعاد تعريف الوطن بعيداً عن معادلة الجاه والمال

الأحد, 07 فبراير, 2021

نستكمل في هذا الجزء بقية سردية سعيد علي الأصبحي عن تفاصيل عودته من السعودية، بعد أقل من عام من قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر  
عن خروجه النهائي من السعودية في العام 1963 يقول  سعيد علي الأصبحي  إن نداء الثورة والواجب  كان حافزه الأساسي، وأنه انتظر قليل من الأسابيع حتى يستجلي الأمر بوضوح ، ليرسل العديد من رسله القريبين عن طريق الخليج العربي وعدن والحديدة وصولاً إلى صنعاء،  قبل أن يخطو الخطوة الأهم باتخاذ قرار العودة وبشكل نهائي للوطن ، فكان أن صفى الكثير من أعماله في الرياض والمنطقة الشرقية؛ ولأن وضعه في السعودية كان حساساً بحكم معرفته لطبقة الحكم  وواجهات المجتمع في الدولة التي أعلنت عدائها الصريح لثورة سبتمبر وحاربت بأموالها إلى جانب القوات الملكية  ، كان عليه أن يتخذ تدبيراً احترازياً ومنها الخروج بجواز سفر مزوَّر وتغيير في ملامحه ، وعن ذلك يقول:
" عندما  نويت السفر  فعلاً قمت باستعراض جوازات السفر الراسبة  من سنين عديدة في مكتب الجالية فوجدت لي جوازاً بينها  يتناسب مع أوصافي ، وأرسلته للمنطقة الغربية لمعاملة المرور ، وبعد عودته أمرت أحد أصدقائي  من رجالي بأخذ  لي عمامة سوداء  معزبلة من سوق الرياض ، كالذي يتعمَّم بها  إخواننا  الشماليون من أبناء اليمن ، وكنت قد تركت ذقني  يطول ، فأخذت  صورة فوتوغرافية بالعمامة السوداء المعزبلة ، وقمت بخلع الصورة التي في الجوازالراسب ، وألصقت الصورة الجديدة مكانها."

 هذا الخطوات احتاجت منه شهرين كاملين، مضافين إلى سبعة أشهر مضاها في تصفية أعماله كاملة وبسرية تامة، وحتى لا يثير الشكوك حوله . أما وسيلة خروجه مع مرافق قريب له  و مسالهكا فقد كانت عبر دولة الكويت التي وصلا منها إلى القاهرة وبمغامرة شديدة الخطورة ، وتصلح  تفاصيلها أن تكون مشهداً سينمائيا مشوقاً ، اذ يقول :
"في العاشرة مساء يوم 6 محرًم 1383 هجرية  وصلنا مركز الكويت المسمى "الدعمي" وعرضنا أنفسنا على المسئول فاعتذر وقال الآن ليل وغداً صباحاً تحضرون للتأشيرة  ، فنمنا في تلك الليلة وأصبحنا اليوم التالي ، وبمجرد أن وقع نظر الموظف المسئول على الجوازات أمسكها ورماها على الأرض قائلاً هذه جوازات غير معترف بها ، لأن الإمام  لم يعترف بدولة الكويت!!
قلنا له أن في اليمن الآن ثورة والإمام  قد مات ، فرد علينا قائلاً  اعطونا جوازات الثورة ، قلنا له  نحن نقيم في السعودية، ولا يوجد بها الا هذه الجوازات، قال اذن ارجعوا إلى السعودية وخذوا تأشيرة من السفير الكويتي هناك ، وسنسمح لكم بالدخول .

 فطلبت منه الأذن بكتابة رسالة للسفير المصري في الكويت  ليعمل لنا حلاً  فوافق الموظف  ولم يمانع ،  فحررت رسالة  وسلمتها لمرافق كويتي كان معنا, وبعدها طلب منا مغادرة المركز والعودة  إلى الحدود السعودية.

الغريب أنني حينما استأذنته بكتابة الرسالة  أخرجت دفتراً  باسم سعيد علي اليماني ، وكتبت الرسالة والموظف ينظر إلى الورقة  التي  وقعَّت عليها باسمي الصحيح  فلم ينتقدني ، علماً بأن الجواز المزيف بقي في يده وجوازي الأصلي بحقيبتي."

 بعد تسليم الأصبحي  للرسالة عاد مع مرافقه والسائق إلى الحدود السعودية من جديد ، ودون أن يشعروا ذهب السائق  بمفرده إلى داخل الأراضي الكويتية وأحضر شخصاً كويتياً ، ولم يكم يعلم أنه رجل أمن ،  وأتفق معه على إدخال الأصبحي ومرافقه بطريقة التهريب إلى الكويت ، وحينما مر السائق في طريق عودته من داخل الأراضي الكويتية  مع الكويتي  بنقطة المركز اكتشفوا أمره، وبرغبته بإدخال الاصبحي ومرافقه  إلى الكويت عن طريق التهريب بوشاية من الكويتي  ، فانتقل مجموعة من الجنود مع ضابطهم إلى حيث يقيمان على الحدود وأخذوهما من جديد إلى المركز و واجهوهما  بالسائق ، فشرح الأصبحي  لقيادة المركز  أن السائق تصرف من تلقاء نفسه ، مدفوعاً بالنخوة العربية ومحبة فيهما.

ومع ذلك رفض ضابط المركز دخولهما الكويت من جديد ، وفي نفس الوقت عادت رسالة السفير المصري بالاعتذار وأنه لا يستطيع عمل شيء لهما طالما وهما خارج  الكويت ، ومتى دخلا سيتصرف بنقلهم إلى القاهرة.

وفي اليوم الرابع وهم ( الأصبحي ورفيقه والسائق والمرافق الكويتي الذي حمل الرسالة للسفير) على ظهر السيارة في الصحراء  شاهدوا كوخاً في الطريق ، وحينما نزل السائق للاستفسار عما به ، فتبين أن صاحب الكوخ يسكن مع أولاده فيه ، وأبدى استعداده للمساعدة في نقلهم إلى الكويت مقابل المال ، بعدها غادر السائق والمرافق الكويتي وتركاهما لوحدهما مع صاحب الكوخ الذي  كان يبقيهما داخل الكوخ ويذهب إلى الطريق فإرتابا منه خشية أن يكون رجل أمن ، لكنهما تبينا أنه  كان يتركهما ويذهب لمراقبة السيارات الذاهبة  والعائدة  من الكويت عله يجد سائق سيارة  يقبل بنقلهما إلى داخل الأراضي الكويتية، وحينما عاد في ساعة الظهيرة الحارة ومعه سيارة أجرة، أمرهما بالصعود وساعدهما على نقل أغراضهما ، وحينما خشيا من انكشاف أمرهما إذا مرا بالمركز مرة أخرى في وضح النهار ، فطمأنهما صاحب الكوخ والسائق ؛ وقالا  أن هذا الوقت هو الأنسب لمرورهما بدون منغصات ، لأن ضابط المركز وجنوده يكونون في هذا الوقت في حالة قيلولة ما بعد الغداء،  ولا يكترثون طويلاً بمن يمر من نقطتهم، وهو ما تم فعلاً،  أذ مرت السيارة  بركابها دون أن يسألوا  عن وجهتهم ولم  تتأشر جوازاتهم ، وحينما وصلا إلى الكويت عصراً ذهبا إلى مقهى وليس إلى فندق خوفاً من انكشاف أمر دخولهم إلى البلد بطريقة غير مشروعة، إن طلبت منهم جوازاتهم لحجز الغرف.

 في اليوم التالي  ذهبا إلى مكتب السفير المصري ، فطلب منهما  العرض على الجوازات ، وحينما ذهبا إلى هناك  تكرر معهما نفس فعل ضابط المركز ، حين رفض ضابط الجوازات منحهما  تأشيرة خروج ، لانهما لم يحصلا في الأصل  على تأشيرة دخول إلى الكويت، وقال لهما مثلما دخلتما أخرجا بذات الطريقة، فعادا من جديد إلى السفير ، الذي حرر  بدوره رسالة لأحد الخبراء المصريين في الجوازات الكويتية، الذي استطاع مساعدتهما بالحصول على إذن بصعود الطائرة المغادرة إلى القاهرة، فأخذهما أحد الجنود إلى عنبر كبير يتكدس به مئات الأشخاص ، والذين اتخذت السلطات قرار بترحيلهم إلى بلدانهم " ايران والهند وباكستان" ، وبعد أن شرح لضابط العنبر أمرهما ، وسوء فهم الجندي الذي  قادهما إلى العنبر ، أخذهما إلى مكتب الطيران، فقطعا تذاكرهما على خط القاهرة في صباح اليوم التالي.

 وصل الأصبحي مع مرافقه  إلى القاهرة بعد مكابدة كبيرة ، وبقيا لخمس وعشرين يوماً ، استطاع خلالها مقابلة عبد الناصر الذي منحه وسام النيل لموقفه الداعم للثورة. عاد بعدها مع مرافقه إلى الحديدة ومنها إلى صنعاء للوقوف عن قرب على الأوضاع ، قبل أن يستقر في مدينة الحديدة ، ويبدأ من جديد في مشاريعه كمقاول للبنى التحتية في المدينة في أول نهوض لها،  وبقي لخمس عشر عاما اسما كبيراً في عالم المقاولات في اليمن وأحد ركائزها  في أول خروج لها إلى النور، قبل أن يدفع حياته ثمناً لصراع المتحاربين على السلطة في أحداث الحجرية في مايو 1978.
(***)
من تتبع رحلة كفاح سعيد علي الأصبحي تتكشف أمامنا سيرة مختلفة في سفر المهاجرين اليمنيين،  ولعبهم الأدوار الصعبة في عملية التحول في البلد الذي غادروه أميين وفقراء ،  ليعودوا إليه بتلك الأحلام الكبيرة ، لانتشاله من وضعه المزري، الذي أوصلت إياه الامامة باستبدادها الديني والسياسي لأبنائه.
 اليتيم الذي غادر قرية العفة في الأصابح شاباً يافعاً إلى عدن، ليعمل في مهنة  البناء الشاقة، عاد إلى قريته  من جديد يزاول ذات الأعمال  في بناء المساكن والدور في القرية و المناطق القريبة منها ، وحين وجد بالصدفة  مجموعة من أبناء قريته عائدين من عدن ، وينون السفر إلى السعودية للعمل بذات المهنة ، لم يتردد فسافر معهم ، وكابد مثلهم مشقة الوصول إلى جدة في بداية الأمر.
خبرته واتقانه لمهنته وجعلت اسمه رائجاً في أعمال البناء والتشييد في مدينة جده ، ليجد فرصته الحقيقة  حين عمل مع محمد بن لادن حين كان الأخير مقاول الملك السعودي في الرياض ، والذي قام بدوره بتمويله ، ليصير في غضون سنوات قليلة "سعيد علي اليماني" المقاول المشهور ورئيس الجالية اليمنية في السعودية، والذي ترك كل ذلك المجد والمال ليعود إلى اليمن  ، متتبعاً نداء الواجب الذي عززته ثورة  أعادت صياغة وجدان اليمنيين بكثير من الأحلام النبيلة، التي سرعان ما انطفأت بفعل أدوات السلطة المتعاقبة على حكم البلاد بالفساد والفوضى والدم.  
المقال خاص بموقع المهرية نت

لماذا يشوهون عدن الجميلة؟!
الأحد, 10 ديسمبر, 2023
الجبايات بموازين حسَّاسة!
الأحد, 26 نوفمبر, 2023