آخر الأخبار
سعيد علي الأصبحي.. من قرية العفة إلى قصر الملك في الرياض
على مدى حلقتين متتابعتين ، وفي إطار تناول جوانب مختلفة من (مشروع دراسة الآثار المتبادلة للهجرة اليمنية في القرن العشرين وبعض أعلامها المنسيين) والذي يرعاه بالدعم والاهتمام رجل الأعمال المثقف النبيل والإنسان علوان سعيد الشيباني، سنتوقف في هذه الحلقة عند رحلة كفاح سعيد على الأصبحي المقاول ورئيس الجالية اليمنية في السعودية خلال خمسينات القرن العشرين، اعتمادا على محتوى كتابه المعنون (قصة يتيم في أربعين عاماً) الذي أصدره في العام 1970 ، أي قبل ثمانية أعوام من تصفيته ضمن لجنة وسطاء من وجاهات تعز ، ذهبت في منتصف مايو 1978 لتهدئة الأوضاع المتوترة في منطقة الحجرية، التي أعقبت عملية الاغتيال السياسي للرئيس الحمدي في أكتوبر 1977.
المهم في هذه المقاربة أنها تغطي موطن هجرة ثالث كان لليمنيين دورهم الفاعل والمؤثر فيه ، بعد أن غطت الحلقتان السابقتان رحلة كفاح حسين شمسان صالح المقطري في أثيوبيا ، وهجرة البحار علي محمد سعيد العبسي إلى مرسيليا وبلدان البحر ، وها هي قصة سعيد علي سالم الأصبحي ، تحكي عن موطن هجرة واغتراب ثالث ، وهو الجوار النفطي في أول مروره إلى العصرنة، وكان لليمنيين الدور الفاعل في ذلك ، من خلال مساهمتهم الكبيرة في تشييد البنية التحتية في بلدانه المختلفة.
(****)
لا يمكن الحديث عن الهجرة اليمنية إلى منطقة الجوار النفطي في أربعينيات القرن الماضي ، وتأثيرها في البنية التحتية والاقتصادية في الدول المهاجر إليها دون الحديث عن قصة كفاح المقاول سعيد علي سالم الأصبحي ، وما سبق هجرته إلى المملكة العربية السعودية في العام 1948 هي قصة كفاح موازية أخرى لطفل يتيم عركته الحياة بكل قسوتها ينبغي أن تروى أيضاً.
في كتيب ، صاغه بقلمه ، صدر في الغالب في العام 1970 تحت عنوان ( قصة يتيم في أربعين عاماً) ، يقول أنه ولد في قرية العفة في منطقة الأصابح " ذو أصبح الحميرية" بمنطقة الحجرية في العام 1341 هجرية ( 1921ميلادية تقريبا) . توفي والده وهو في السادسة من العمر ، وفي السابعة منها أدخلته والدته معلامة القرية " الكتاتيب" ، والتي كانت تقع وسط حقول زراعية تتوسط مجموعة من القرى في المنطقة ، وحجمها " سعتها" لا يزيد عن أربعة في أربعة متر× أربعة و يتكدس فيها أكثر من أربعين طفلاً .
يقول عن معلمه في المعلامة أنه كان رجلاً مسناً ، ضعيف النظر ، يتوكأ بعصا بسبب عرجة أصابت قدمه اليسرى، وبسبب انخفاض مستوى باب المعلامة إلى نصف متر وبعرض أربعين سنتمتر ، كان الفقيه كثيراً ما يسقط في معقم الباب ، فنضطر إلى رفعه ، وسط عاصفة من ضحك الأطفال، وكان كثيراً ما ينام وهو على دكته الطينية المرتفعة في حجرة الدرس ، فيستغل الأطفال ذلك ليغادرون الحجرة الضيقة إلى خارجها للعب ، وكنت الوحيد الذي أبقى معه بسبب رغبتي الشديدة في التعلم ، وعلى مدى أشهر قليلة صرت أكثر الطلاب حفظاً ودراية ، فكان يمنحني شرف ترؤس الأطفال وتعليمهم بالنيابة عنه.
يقول الراوي أنه بقي في المعلامة ثلاث سنوات حتى سن العاشرة، بعد ختمه للقرآن ، ثم تركها لمشاركة والدته وأختيه العمل في الأرض القليلة التي يمتلكونها مثل الحراثة والرعي ؛ وحين بلغ الخامسة عشرة ، أرادت والدته تزويجه بقريبة له تكبره بسنوات كثيرة، وكل ذلك من أجل أن لا يتشارك غريب بأرض الأسرة إن تزوجت بغيره من خارج العائلة, ورغم تردده ورفضه الكبير إلا أنه رضخ أخيراً لخطبتها تحت ضغوط عائلية.
بعد خطبته سافر إلى مدينة عدن في العام 1936 ، ليعمل في مع مجموعة من أهل قريته في أعمال البناء والتشييد ، وسيكتسب خلال عامين قضاهما في عدن عشية انفجار الحرب الكونية الثانية الكثير من مهارات الفن المعماري الحديث ، الذي تتطرز به المستعمرة الانجليزية؛ وخلال العامين اكتسب أيضاً الكثير من المعارف بتردده على المساجد والاستماع إلى مشايخها بين الصلوات كما يقول.
بعد عامين عاد إلى مسقط رأسه ليتزوج بمن اختارتها والدته ، لكن بدون أن يكون راغباً بها، فبقى يقضي عشرة أشهرفي مدينة عدن ، ويعود إلى قريته في شهري شعبان ورمضان ، مستمراً على هذا الحال حتى العام 1944، مكتسباً الكثير من المهارات ، ليعود إلى قريته كمعلم بناء بارع، يبني الدور والبيوت في القرى والبلدات المجاورة ، وحين بلغ الرابعة والعشرين تزوج بامرأة ثانية من خارج القرية والعشيرة، وبدون علم والدته التي مرضت حين عاد بعروسه إلى البيت.
وعن رحلته الأولى إلى السعودية يقول:
في واحدة من عوداتي إلى القرية بعد أيام طويلة من العمل في قرى ومواضع أخرى ، صادف وأن ألتقيت بمجموعة من أبناء القرية العائدين من عدن وعاقدين العزم على السفر إلى السعودية لوجود فرص عمل هناك أكثر من عدن ، فقررت من ساعتها السفر برفقتهم لأكون تاسعهم ، وكان علي استخراج جواز سفر ، ولأن المسافة التي تقطع إلى مدينة تعز مشياً على الأقدام كانت تستغرق ثلاث أيام قررت السفر إلى عدن بعشر ساعات ، من أجل عمل صور شخصية لجواز السفر، وخلال يومين فقط مررت على الأصدقاء والأقارب وجمعت منهم ما يستطيعون به دعمي من الروبيات. من أجل السفر الذي باركونه، بعدها قمت بإرسال الصور إلى تعز لاستخراج جواز لي بواسطة رسول من طرفي ، والذي وافني به بعد أيام إلى منطقة هجدة في طريق الحديدة، حيث كانت تنتظرنا سيارة نقل مع مسافرين آخرين من منطقة دبع عددهم ثمانية عشر مسافراَ.
وعند وصولهم إلى منطقة جيزان ، بعد أيام شاقة من السفر، احتجزت الشرطة في المدينة جوازاتهم لشهر ونصف ومنعتهم من مواصلة السفر إلى جدة، بدون أي مسوِّغ ، وحين اهتدي لفكرة التواصل مع أحد أقربائه في جده ، أرسل له ستمائة ريال ، دفع نصفها وأكثربقليل رسوم حج كانت تفرضها السلطات السعودية على الداخلين إليها، وحينما وصل إلى جدة مع رفيق ثان بعد أداء العمرة، اتصل بمجموعة من معارفه، الذين تواصلوا مع السلطات ، التي أبرقت لأمير جيزان ومدير الشرطة بالسماح للمحتجزين بالدخول إلى جدة ، وهو ما تم مع مطلع رمضان ، بعد قرابة شهرين من مغادرتهم اليمن.
في جدة عمل معلم بناء ، وتعرف على عديد من المقاولين المعروفين في ذلك الزمن ومنهم المقاول الحضرمي محمد بن لادن صديق الملك عبد العزيز بن سعود، الذي سيستدعيه إلى الرياض مع مجموعة من الفنيين الذين يعملون تحت أمرته وسلمه أعمال إنشاءات متأخرة تخص الحكومة السعودية ، لتقوده هذه العملية إلى صداقة قوية ببن لادن، الذي سمح له بعد ثلاث سنوات من الغربة بالعودة إلى قريته ، التي قال أنه وصلها بظرف يوم واحد، عوضاً عن 49 يوماً استغرقته رحلة دخوله السعودية ، أما كيف اختصرها ليوم واحد ، فلم يشر إلى ذلك في الكتاب ، وفي الغالب أن رحلة العودة تمت عن طريق الجو من الرياض إلى عدن ومنها بساعات إلى قرية العفة في الأصابح.
بعد أشهر قضاها في القرية عاد إلى الى جده مطلع العام 1951، فأبرق لبن لادن الذي طلب عودته على الفور إلى الرياض برفقة ثمانية عمال ، أوكل إليهم بعض الأعمال التي تخص الملك شخصياً انجزوها بفترة قياسية ، بعدها استدعاه بن لادن إلى منزله ليلاً وعرض عليه أن يعمل بالمقاولات مباشرة ، دون أن يكون وسيطاً ، فشرح أن لديه من المهارات والهمة والعمال ما يكفيه ، وما ينقصه، حتى يصير مقاولاً معروفاً، هو المال والمعدات والأعمال ، فقال له بن لادن أن رأس المال والمعدات والعمل نفسه ستقوم مؤسسته بتوفيرها له ، وهو ماتم فعلاً من صبيحة اليوم الثاني لهذا اللقاء حين تسلم رأس مال يستقطع لاحقاً ، ومعدات تدفع أقساطها بمواعيد ، أما العمل الأول فقد كان عبارة عن مزرعة دواجن كبيرة بالقرب من مطار الرياض، قبل أن يتسلم الكثير من أعمال المقاولات لبلدية الرياض ابتداء من العام 1951، وهو العام ذاته الذي بدأ فيه بتأطير العمال اليمنيين الذين يعملون معه وغير العاملين معه في جالية يمنية فاعلة سيرأسها حتى خروجه النهائي من السعودية بعد قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، واستقراره في مدينة الحديدة، ليكون أحد أهم مؤسسي بنيتها العمرانية.
" يتبع"
المقال خاص بموقع المهرية نت