آخر الأخبار
الآثار المتبادلة للهجرة اليمنية في القرن العشرين وبعض أعلامها المنسيين(2)
(2)
استكمالاً لما بدأناه في إبراز بعض قصص المهاجرين المنسيين، وأدوارهم الرائدة في وعي التحول في البلد المنعزل والمغلق، سنتوقف في هذه الحلقة عند قصة البحار علي محمد سعيد العبسي ، كما صاغها نجله الدكتور منصور ، ونوظف بعض وحداتها الحكائية ، بعد اعادة تحرير مروياتها ، في هذا السياق، لتخدم ، في نهاية المطاف، فكرة مقاربة المغيَّب من اسهامات المهاجرين الأوائل.
(**)
مثل كثير من مهاجري الثلاثينات في اليمن اختار علي محمد سعيد العبسي طريق البحر؛ لقد بدأ حياته بحاراً في إحدى البواخر الفرنسية ، التي كانت تعمل بالفحم الحجري كوقود لها ، وكان هو أحد أولئك العمال الذي يزودون السفينة بالوقود "الفحم الحجري".
كانت المهمة شاقه ، يقوم العامل فيها بمجهود كبير ، وتحت تأثير درجة حرارة عالية في عمق السفينة. فأدرك حينها أن هناك فرق بين من يعرف ويقود السفينة في بحار لانهاية لها، وبين من يقضي ساعات طويله في عمق السفينة ، فقرر أن يعلم أبناءه؛ وفي خضم هذه التجربة الصعبة بدأت رغبته تتعاظم في التعلم ليساعد نفسه كما قال "للخروج من جهنم" ، وقد صادف أن خرج يوماً من عمق السفينة الي سطحها طمعاً في الحصول على نسمات هواء باردة، ففوجئ بأن طيوراً بحرية تتساقط على سطحها من شده حرارة السماء في تلك المنطقة.
واصل مسيرته رغم اختلاف الثقافات والألوان، وتعلم اللغة الفرنسية ، وأصبح أكثر عمقا في فهم الآخرين ، وطوَّر نفسه في عمله، ليصبح واحدا ممن يُعتمد عليهم في أعمال الصيانة وإصلاح المحركات داخل السفينة.
خلال حياته في المهجر لم يكن بعيدا عن بلده بل كان يبحث ويلتقي بالتجمعات اليمنية كلما وجد الى ذلك سبيلا. لقد عاش وتفاعل معها في مدينه كارديف البريطانية ، ومدينه مرسيليا الفرنسية ، وفي كازابلانكا في المملكة المغربية.
قامت الحرب العالمية الثانية وهو على ظهر السفينة الفرنسية ، فشهد الكثير من الاحداث المهولة التي كادت تودي بحياته ، وشهد خروج السفن الفرنسية الي المحيط الأطلسي هرباً من القصف "النازي و قال "لقد غرقت سفن كثيره ، وشربنا من ماء البحر الذي كنا نلجأ إليه كلما سمعنا دوي الانفجارات حول قافله السفن التي كنت في احداها . لقد كانت صفارات الانذار بمثابة اشعار لنا بالقفز الي البحر طلبا للنجاة، وفي أحداها نجونا بأعجوبة لا يمكن معرفه تفاصيلها أو تفسيرها ، الا أنها ألطاف القدر التي أرادت لنا أن نعي" ، وعندما رأى نفسه أنه لازال حياً يرزق قرر العودة إلى أرض الوطن.
لم يستطع البقاء في قريته الا لأشهر قليلة، وعاد إلى عدن ، ومنها شده الشوق إلي الرحيل مرة أخرى عبر البحر ليستقر هذه المرة في مدينه مرسيليا الفرنسية، وفى هذه المرة لم يكن البحار اليمني البسيط ، بل كان مستوعباً عصره الجديد أو ما يعرف بـ "حقبه ما بعد الحرب" ، وكان يستخدم ما تعلمه من لغة ومهارات عمليه لمعرفه الآخرين، والحصول على فرص يمارس فيه مهنته في السفن الفرنسية ولكن بوضع ومميزات أفضل.
كانت هذه المرحلة من هجرته -حوالي 8 أعوام- بمثابة مدرسه كبيرة عرف من خلالها كيف تستطيع الشعوب الحية إعادة اثبات نفسها ومدنها بالعلم ، والعمل، والتعايش مع الآخر. لقد كان ما يراه مثلاً حياً يعكس كيف استطاعت المدن الأوروبية وشعوبها تحويل الخرائب والانقاض الي مدن أكثر جمالا وروعه مما كانت عليه قبل الحرب الطاحنة؟!
وبالرغم من حبه للسفر والاغتراب وحصوله على المال الا أنه قرر العودة في منتصف الخمسينات ، وعند وصوله الي القرية رأيت شخصا غريباً لا يشبه من تعودت على رؤيتهم في القرية من الرجال ، وقيل لي أنه أبى، الذي زرعني قبل رحلته الأخيرة.
لقد أحضر في حقائبه أثناء عودته إلى القرية أشياء غريبه، لم افهمها قيل لي فيما بعد أنها تسمى "أقلام" ، وأنها تستخدم في الكتابة على أوراق بيضاء، لم أرها من قبل ، ولا تشبه ذلك اللوح الخشبي الذي كنا نكتب عليه بقطع من القصب الخشبية ، يُسن طرفها ليصبح بارزا ، ثم يغمر في علبه فيها صبغة سوداء لكتابة آيات قرآنيه على اللوح الأبيض، يحفظها القارئ غيباً، وتمحي في اليوم التالي.
اختفى اللوح بعد وصول والدي ، وظهربدلاً عنه المصحف "الختمة" ، والورقة والقلم وبدأ يعلمني قراءة القرآن ، وحفظ بعض آياته ، وكان يساعده في ذلك عمال بناء الخزان الجديد "السقاية" الذي كان أحد انجازاته المنزلية في رحلة ما بعد الاغتراب الأخيرة. لقد دخلت عصراً جديداً، أكتب بأقلام جديده وعلى الورق، وختمت القرآن تماماً عند الانتهاء من بناء "السقاية" ورحيل والدي الي عدن.
في عدن استقر في تجمع سكني في منطقه حجيف "برشه" التي كان يعيش فيها الكثير من القادمين من قرى الأعبوس والقرى المجاورة ، ويسهلون على أنفسهم متطلبات الحياة من خلال العمل في مهن مختلفة والتعاون فيما بينهم.
في تلك الفترة بدأت رياح تغيير ما بعد الحرب تعصف في البلدان الأوروبية وغيرها من المدن والبلدان ومنها مدينة عدن ، التي كانت حينها مستعمرة بريطانية، فقد بدأت الشركات البريطانية والفرنسية وغيرها تعمل في ميناء عدن، وفي الأعمال التجارية الأخرى وزاد نشاطها مما شجع القطاع الخاص اليمني للاستثمار في الخدمات والتجارة واستيراد وبيع البضائع بشكل لم يسبق له مثيل ،لم يكن هذا الواقع الجديد في عدن غريب عليه، بل كان بمثابة مناخ مشجع للحصول على عمل يتناسب مع خبراته وممارسته لنشاطاته التي اكتسبها في الغربة.
عمل في شركة (Cory Brothers) الإنجليزية ، التي كانت تعمل في نقل البضائع والفحم الحجري بين أرصفة الميناء والسفن الراسية وأيضا في تموين السفن بالوقود . عمله الجديد هذا تناسب مع خبراته السابقة ، وبدأ يعيش حياته الجديدة مستغلاً معرفته في العمل وتجاربه التي عاشها عن فكر وثقافة وإلمام ، بما تعنيه أنشطة النقابات العمالية التي بدأت تتأسس.
بدأ حياته في عدن بمزولة عمله في المينا ، على متن أحد القوارب البخارية التي كانت تعمل في نقل البضائع والفحم الحجري بين أرصفة الميناء والسفن الراسية ، وكانت تقوم أيضاً بسحب القوارب الحديدية (boats) المحملة بالبضائع والفجم الحجري من السفن الى الميناء ، كما تقوم بتوجيه البواخر عند رحيلها وخروجها من الميناء.
في ذلك الوقت - منتصف الخمسينات وما قبلها بقليل - بدأت النوادي والجمعيات غير الحكومية بالتأسيس، وبدا النشاط النقابي ممثلا بالمؤتمر العمالي يقوم بمهامه النقابية في عدن.
كان البحار القديم يعكس ما رآه في دول الاغتراب ، وما يراه الآن ، ويتحمس لتكوين علاقات قوية خارج دائرة التجمع الذي يسكن فيه. لقد تعرف على الرواد الأوائل الذين قاموا بتأسيس نادي الاتحاد العبسي علم 1952 ، وكانوا يمثلون القيادات الأولى للنادي أمثال على جازم العطار، سعيد عبد العزيز، محمد عبد الجبار راشد وعبد الرحمن محمد عمر؛ كما بداء بالتعرف على قيادات المؤتمر العمالي أمثال أحمد حيدر وغيره ، وكان يكرر زياراته ويطلع ويحافظ على صلته بمعاريفه.
كانت النوادي المحلية تتمثل في "خدمه الغير قبل النفس" وتحاول أن تتبني مشاريع حيوية في القرى التي تنتمي إليها مثل توفير المساعدات أثناء الكوارث ، وبناء المدارس، وقبل الاستقلال شاركت هذه النوادي مع رجال السياسة والثقافة والتجارة في حركة تحرير الوطن والثورة ضد الاستعمار والمطالبة بالاستقلال.
لقد كان علي محمد يحب أن يرى نفسه يقدم شيئاً، وساعده على هذا التوجه نمط شخصيته وعلاقته بالآخرين. كان ايجابيا وفعالاً ، ويدرك أهمية خدمة الغير ويعرف أن العلم والمهارات لا غنى عنها وهي السبب الرئيسي لما حدث ويحدث في تلك البلدان الأوربية التي عاش فيها جزاء كبيراً من عمره.
ومنذ تأسيس نادي الاتحاد العبسي عام 1952 كان أحد أهدافه الرئيسة، حسب نظامه الداخلي " دستوره" هو الاهتمام بالتعليم وبناء المدارس ، وقد ساعد بعد تأسيسه في تجهيز وتسفير وتقديم الدعم لعدد من أبناء الأعبوس الذين حصلوا على منح دراسية للخارج ، بالرغم من أن موارده كانت محدودة ومحصورة بالاشتراكات والتبرعات، ومنذ ذلك الحين عرف الوالد بين رجال المال في الأعبوس، وبين قيادات النادي العبسي بموافقه الإيجابية وحبه للمشاركة في العمل التعاوني.
لقد كان من المتحمسين ، مع قياده نادي الاتحاد العبسي، لإنشاء صف مسائي في مقر النادي لتدريس، وتقويه أبناء عُزل الأعبوس في بعض المواد الدراسية ، وفعلاً تم انشاء الصف المسائي وشجعني الوالد على الانضمام للدراسة المسائية في هذه الصف ، الذي تطوَّع فيه عددٌ من أبرز المدرسين في ذلك الزمن مثل الأستاذ علي عبد العزيز نصر، والأستاذ عبد الرزاق شائف، و الأستاذ حسين المروني ، الذين لبوا طلب النادي وأصبحوا ، ليس فقط يعلمون الدروس المدرسية ، وانما يغرسون في أنفس الطلاب الكثير من الصفات الحميدة التي أصبحت جزاء من شخصياتهم في حياتهم المهنية .
لم تكن مساهمته في نشاط نادي الاتحاد العبسي وتردده على مقر المؤتمر العمالي والتعرف على قياداته من قبيل الصدفة، بل كان يدرك أن مثل هذا النشاط يجلب الخير للأخرين سواء كان للعمال الذين يراهم صباحاً ومساء في منطقة حجيف الذي يعيش فيها قرب الميناء، أومن خلال العمل التعاوني الذي يقوم به نادي الاتحاد العبسي، ويسهم في توحيد الطاقات والمشاركة في تطوير قرى الأعبوس في النواحي الإنسانية والتعليمية.
وعندما اقر نادي الاتحاد العبسي تشكيل اللجنة التأسيسية لمدرسة الارشاد في منطقة "ظبي" كان البحار علي محمد أحد أعضائها، لقد تم اختياره لما عُرف عنه من حب للتضحية والإصرار على المساهمة في حل المشاكل مهما كبُرت.
المقال خاص بموقع المهرية نت