آخر الأخبار
ثلاثة أيام في تعز ...شاهدت فاطمة في السوق وقذائف الحوثيين تهطل على المدينة(3)
عدت بعد الغداء إلى منزل تمام في حي الكوثر بالقرب من الساحة ، وكنت متفقاً مع بعض الأصدقاء على استكمال زيارة بعض أحياء المدينة عصراً ، غير أن مطراً غزيراً انسكب على المدينة منعني من الخروج ، لكنه مكنني أيضاً ، ولأول مرة ، من مشاهدة رجال ونساء وأطفال ،من شرفة العمارة المرتفعة ( البلكون) ، وهم يقومون بحصاد الماء من أسطح منازلهم المبلطة ، ومن تحت الميازيب النظيفة أسفل المنازل، وتعبئتها في أوان بلاستيكية ومعدنية متعددة الأحجام والأغراض.
مشكلة المياه المزمنة في المدينة والتي وصلت مع حالة الحرب والحصار إلى انقطاعها التام عن المنازل ،وارتفاع أسعار مياه الوايتات المجلوبة من منطقة الضباب، قادت سكان المدينة إلى هذه الوسيلة الشاقة في توفير المياه التي يستخدمونها لتنظيف الملابس والحمامات وأغراض أخرى ، أما مياه الشرب النظيفة التي يتحصلون عليها فغالباً ما تتكفل بها ، في معظم أحياء المدينة المحاصرة ، بعض المنظمات العاملة في الجوانب الإغاثية والإنسانية .
حاولت الاتصال للاعتذار من الأصدقاء الذين تواعدت معهم لعدم قدرتي على الخروج بسبب غزارة الأمطار واستمرار هطولها لوقت طويل ، لكني وجدت هواتفهم إما مغلقة، أو ترن دون أن يكون هناك من يرد في الجهة الأخرى، وفي المساء عرفت السبب ... كانوا جميعهم منشغلين بحصاد المياه من الأسطح ومن تحت الميازيب، وكان هطول المطر بتلك الغزارة مناسبة لا تعوض عندهم.
نهضت باكراً من فجر اليوم التالي ، ومن طريق مختلف - هذه المرة من جولة الأخوة و عقبة شارع جمال- وصلت إلى باب الكبير، لتناول البن بالحليب في مقهى الشُعبي، ومن هناك غادرت مع قريب لي إلى مدينة التربة لبعض المشاغل ، على أمل العودة ظهراً الى المدينة ، وهو أمر لم يتحقق لي ، فعدت في المساء مرهقاً ، لكني في صباح اليوم الثالث عملت برنامجاً محكماً لاستكمال زيارة المدينة ولقاء الأصدقاء.
في الصباح الباكر كنت في مقهى الشعبي كالعادة ، وبعدها مباشرة في المركزي من أجل تجميع أكبر قدر ممكن من صور الوجوه في بداية يومهم ، وكنت أريد ، على وجه الخصوص ، تصوير النساء الصبريات وهن يتجولن في السوق لبيع بضائعهن ، بذات الصورة المرسومة بذاكرتي منذ أربعة عقود ، وهو أمر تحقق لي بصعوبة ، لكن الأهم من كل ذلك رؤيتي لفاطمة.. وجدتها بالمصادفة جالسة في ممر بائعي الفواكه في السوق في الصباح الباكر ، استأذنتها بالجلوس والحديث إليها ، قبلت بكل لطف بعد أن كنتُ متوجساً من رفضها طلبي مثل عديد حالات صادفتني .
بدأت حديثي بتذكيرها ببعض ما أختزنته الذاكرة عنها ، وعن رفيقاتها من البائعات الصبريات اللواتي كن يظهرن في السوق المزدحم قبل أربعين عاماً ، فتذكرتِ بعد وقت والدي ، وصاحب الدكان "الحاج سعيد عمرو غالب" الذي كان يعمل به ، وتذكرت معهما بعض من وجوه السوق القدامى مثل حسن سعيد وأحمد عبده عقلان وأحمد إسماعيل والحاج مبارز وعبده ابراهيم وسعيد المخلافي وراشد، وتذكرت البدو الشبوانيين والبيضانيين الذين كانوا يظهرون في السوق لبيع السيارات المهرَّبة والغزلان ، وبدأت تستعرض شكل المكان وتفاصيله ،حين كانت محلاته عبارة عن صنادق من الزنك يعرض فيها مالكوها الخضار والفواكه ،و نشأت في محيط السوق الذي صممت محلاته الاسمنتية الأنيقة مطلع الستينيات بصفين متقابلين لبيع اللحوم والأسماك ، قبل أن تُزال هذه الصنادق ، بأمر أحد المحافظين ، من أجل إنشاء مبنى من الإسمنت المتجهم مطلع التسعينيات ، ولم يكن أمام المتضررين من هذا الفعل غير اقتسام الشارع نفسه ، بعد أن رفض مالك المبنى لاحقاً استيعابهم من جديد في المحلات الأرضية من المبنى ، ومع الأيام صارت مفارشهم وأكشاكهم الخشبية تحتل كل الشارع من المدخل إلى المخرج، ليتعذر مع هذا الوضع دخول وخروج السيارات والعربات منه. تذكرت أيضاً محطة سيارات الأجرة (الفرزة) التي كانت جوار السوق، حيث كان الركاب ، بواسطة البوابير العتيقة ( الروسي) ، يتنقلون إلى مستشفى الثورة ، وحوض الأشراف ، ومنطقة الكمب ، وفرزة الحوبان ، وتذكرت بالمقابل فرزة باب الكبير التي كانت جوار سينما قصر سبأ ، وكانت مكان وقوف السيارات العتيقة أيضاً ، والتي يستقلها الناس إلى مناطق المستشفى الجمهوري والعرضي والجحملية وصالة, وبالقرب منها كانت فرزة (صوالين) صَبِر التي كانت تستخدمها هي وصويحباتها في نزولهن وصعودهن لقراهن النابتة في الجبل الأخضر.
تحدثت كثيراً و بشجن كبير عن تلك الأيام وأصحابها الطيبين حسب وصفها.
في ذلك الوقت - مطلع الثمانينات – كانت فاطمة شابة بكامل عنفوانها ، تدير أعناق الجميع في السوق ، حينما كانت تهبط من (قرية قراضة) وقُفتُها مملؤة بفواكه الموسم التي ينتجها الجبل ( مشمش ،رمان، فرسك ، جوافة ، توت، سفرجل ).
كانت أصغر البائعات وأكثرهن جمالاً، وحيوية .. لم أزل أتذكر مشقرها المطرز بالريحان والنرجس البلدي والاُزاب و كانت تضعه تحت رباط رأسها (المتللة) إلى جوار أذنها اليسرى التي تتدلى منها الأقراط الذهبية ، التي كان يقول عنها الحاج سعيد أنها ذهب فالصو ( مزيف) ، وأتذكر لباقتها الخارجة من فم مزين بالأسنان المذهبة ،و التي كانت موضة ذلك الوقت ، وأثرى منها حكماء الأسنان المعروفين في المدينة.
لم تزل فاطمة القراضية بعد أربعين سنة، ، تحمل الكثير من تلك الملامح الشابثة في لوح الذاكرة، وتلبس ذات الملابس التقليدية لنساء الجبل والمدينة القديمة ، على العكس من بائعات كثيرات في السوق واللواتي استبدلن العباءات السوداء بتلك الملابس التقليدية المحببة ،وصرن يغطين وجوههن المرحة ،التي كانت مكشوفة ، بالنقاب الأسود المعتم .
لم تزل ، فاطمة، تهبط من الجبل بعد صلاة فجر كل يوم إلى المدينة بذات الكيفية ، منذ كانت تتبع والدها النازل للمدينة مع حمار قوي، يمتلئ خُرجه بفواكه وخضار الجبل قبل شق الطريق.
حين التقيتها كان أمامها وعاء بلاستيكي مبطن بالنايلون مملوء بالفول الأخضر الذي جلبته معها من الجبل ، وقالت أنها أشترته من أحد الرعية من أبناء منطقة العروس وجبل الشعير البارد في نواحي صبر الموادم ، وإن هذا المحصول الآن في ذروة موسمه والطلب عليه مرتفعاً ، وبعد قليل ، كما قالت ، سيصلها وعاء مملوءا بتوت الجبل الأحمر، وطلبت مني الانتظار لتذويقي حبات منه، ولأني على عجلة من أمري ، وتلافياً لنظرات الفضولين تركتها بعد أن التقطت لها صورتين مرتبكتين بهاتفي.)
بعد أن تركت فاطمة والسوق اتجهت إلى شارع 26 وفي نيتي الصعود راجلاً إلى ملعب الشهداء عن طريق العقبة والنقطة الرابعة ، حتى أصل في موعد مثالي إلى تجمع " شباب بلا حدود" ، الذين سيقومون بالرسم على جدران سور الملعب الخارجي المقابل لمبنى لمقام في العرضي بمناسبة اليوم العالمي للسلام، غير إن صديقاً قديماً رآني في بداية العقبة وهو على سيارته فأصر على توصيلي.
كنت قبلها قد اتصلت بالصديق علي سالم المعبقي، الذي تواجد وقتها في تعز لمشاغل صحافية، فاتفقنا على اللقاء هناك، وهو ما تم فعلاً، لكن بعد أن قمت بجولة إلى مقهى غالب مخسو لشرب البن ، بعد أقل من ساعتين على شربي له في مقهي الشعبي في المدينة ، وبعد أن قمت بالتقاط مجموعة صور بهاتفي للطلاب والطالبات وهم في طريقهم لمدارسهم وظهر خلف بعض صورهم الخراب الذي طال المساكن ، فأعطت مثل هذه الصور دلالات كبيرة أقلها ثمة أمل ينبثق من الألم ، مؤكدين في ذلك أن المقاومة بالحياة هي أفضل وسيلة للنجاة من جنون المتحاربين.
عدت برفقة علي إلى المدينة عن طريق المستشفى الجمهوري، بعد أن شاركنا الشباب جزءا من حملتهم بالتصوير، وبعد افتراقنا ذهبت للقاء الصديقين زكريا الكمالي وعبد العزيز نصر ، وبالمصادفة في شارع التحرير الأعلى قابلت صديقي عبد الرحيم عبد الرحمن قحطان .. قابلته بعد ستة عشر عاماً أمام باب فندق أنوار المدينة في التحرير الأعلى .. كنت قبل أشهر قليلة أبحث عن رقم هاتفه بإلحاح ، لأن كتابه "المهم القصة في القصيدة المعاصرة في اليمن " كان مرجعاً مهماً لي في دراسة أعدها عن الأدب اليمني المعاصر وقضايا الهجرة، وأرغب بالاستفسار عن بعض القضايا الفنية التي قاربها الكتاب، وهو بالمناسبة الموضوع العلمي لرسالة الدكتوراه الخاصة به.
عرفت أنه مر بعارض صحي صعب خلال السنوات الماضية، غير أن المبهج في حياته العملية أنه أسس مركزاً بحثياً مهماً في مدينة تعز اسمه المركز اليمني للدراسات النقدية والأدبية (ميدان) ، ومكتبته التي زرناها بمعيته ، زكريا الكمالي وعبد العزيز نصر، وأنا، تحتوي على مئات العناوين المهمة، في الأدب والفلسفة والتاريخ والاجتماع والأديان وتكونت بمبادرة فردية منه.
عصراً صعدت جبل صبر برفقة الصديق ماجد الخليدي والأولاد تمام وتميم وصديق رابع ، وفي استراحة حديثة ونظيفة تطل على المدينة وتفاصيلها استقر بنا المقام ، نتحدث و نشاهد قرى الجبل الأخضر ومعالم المدينة ، بما فيها استراحة زائد المدمرة وقلعة القاهرة ، اللتان صارتا تحتنا ، ونراهما بكل وضوح ، وماهي إلا ساعة حتى سمعنا انفجارا قويا ، شاهدنا على أثره دخانا يتصاعد من جوار ملعب الشهداء، فانفجارثان في ذات المحيط وثالث ، وحينما بدأنا بالتحقق من أين تأتي مصادر النيران التي تطلق على المدينة ، رأينا لهباً أحمر يسبق كل صوت انفجار يظهر من تبة السوفتيل ، حيث يتمركز الحوثيون . أكثر من عشر انفجارات متعاقبة سمعناها ، وشاهدنا أماكن سقوطها في حي الجحملية ، وسقط من جرائها قتلى وجرحى حسب الأخبار التي غطت هذه الكارثة .. كان ذلك في مساء الاثنين 21 سبتمبر حيث يحتفل الحوثيون بذكرى دخولهم صنعاء، وهو التاريخ الذي يصادف اليوم العالمي للسلام ، الذي كان شباب بلا حدود يحيونه صباحاً برسم الحمائم على جدران الملعب الذي سقطت بجواره القذائف.
اضطررنا لمغادرة الاستراحة والعودة إلى المدينة خوفاً من تعقد الوضع أكثر ، وفي المدينة كان الناس يمارسون حياتهم بشكل طبيعي ، فقد اعتادوا على مثل هكذا أوضاع منذ سنوات ، لكنهم استغربوا أن يتجدد القصف بد أشهر من الهدوء ، غير أن استغراباً مثل هذا سيزول بعد معرفتهم أنه في هذه الليلة يحتفل الحوثيون بذكرى 21 سبتمبر ، يوم استباحوا صنعاء وغيروا الشيئ الكثير في الخارطة السياسية ، حين استجلبوا بانقلابهم حرباً عبثية لم تزل تفعل فعلها الآثم في حياة اليمنيين.
غادرت تعز المدينة عن طريق منفذ الأقروض الضيق والوعر ، والذي يمد المدينة والمحافظة المحاصرة بالسلع والبضائع التي تدخلها من المحافظات غير الجنوبية ، ويستخدمه المسافرون كإحدى البدائل في مغادرتهم المدينة إلى ضاحيتها الشرقية ( الحوبان) ، أو إلى المحافظات الأخرى ، ويقطعونه في ثلاث ساعات كاملة ، عوضاً عن عشر دقائق كانوا يستغرقونها للانتقال من قلب المدينة المزدحم إلى الحوبان.
المقال خاص بموقع المهرية نت