آخر الأخبار
ثلاثة أيام في تعز .. من المدينة القديمة الى الجحملية الألمُ أملٌ باذخ!!
(2)
بعد مغادرتي لمقهى عبده علي اتجهت مباشرة الى باب الكبير ، توقفت قليلاً أمام (مقهى الإبي) دون أن أتناول شيئاَ ، لآن مقصدي كان أن أصل مباشرة الى (مقهى الشُعبي) في سمسرة الطعام لتناول البن بالحليب.
كان أول ما لفت انتباهي تلك الشعارات والحكم والآيات التي احتلت الجدران المحيطة بالمقهى، وكُتبت بخط جميل وبالوان متعددة ،وكلها ذات توظيف سياسي و وعظي حاد، وأرجعت أمر وجودها بتلك الكثافة الى سيطرة الجماعات المتشددة على المدينة القديمة لفترة طويلة في السنوات الماضية ، وفرضوا فيها سلطتهم الخاصة بكل صرامة.
لا يزال المقهى، كما عهدناه، يستقطب العشرات ممن يحبذون تناول البن صباحاً ، لهذا وجدت مساطبه الإسمنتية في الخارج وطاولاته وكراسيه الحديدية الحمراء مزدحمة بالزبائن، الذين يتوافدون إليه، من أنحاء متفرقة من المدينة ، من بعد صلاة الفجر، حتى السابعة والنصف ،حينما تنتهي نوبة عمل البن لتبدأ بعدها نوبة الشاهي ، لأنه حين وصلتُه في يوم تالٍ مع الصديق علي سالم المعبقي في الثامنة صباحاً وجدنا النوبة انتهت، فاضطررنا لشرب الشاهي الأحمر، وكانت النفس راغبة في البن.
تركت المقهى ، وبدأت بأخذ جولة طويلة في المدينة القديمة ابتدأت بحارة اسحاق ،والنورية، والظاهرية ،والعودة الى المظفر، صعوداً الى الأشرفية ، ومنها الى حارة المعتبية ،نزولاً الى حارة عبد الهادي ، وحارة الطحان ، وفي الأولى قمت بتصوير الدمار الذي لحق بقبة ومقام الشيخ العارف بالله " عبد الهادي السودي" الذي فجرته مع القبة الجماعات المتشددة في أواخر يوليو من العام 2016، وبعد عودتي الى صنعاء نشرت صورة الدمار مع صورة أحتفظ بها للقبة والضريح منذ صيف 2007، ونشرت الصورتين في صفحتي بالفيس بوك مع تعليق صغير يقول:
" من أكثر الصور التي آلمتني في مدينة تعز هي رؤيتي للدمار الذي لحق بقبة وضريح الشيخ الصوفي العارف بالله (عبد الهادي السودي) في المدينة القديمة . ورأيت حزناً قاتلاً في ملامح القاضي أحمد محمد المجاهد وهو يتحدث عن جُرم الجماعات المتطرفة بحق هذا المعلم التاريخي والقبور التي كانت تحوط الضريح .في صيف 2007 التقطت الصورة الأولى للقبة بعد ترميمها ، وفي خريف 2020 التقط بكاميرا الهاتف هذا الدمار.
ما تقترفه الجماعات الدينية المتطرفة ( السنية والشيعية) في حق الشعوب وإرثها الحضاري والثقافي اشد فتكاً من أي تدمير آخر تنهجه جماعات الحرب وأدواتها ، لأنها في الأصل تدمر الذاكرة الجمعية للشعوب التي تنهض على قيم التسامح والقبول الديني، التي هي المقدمة الحقيقية لتجاوز كل الإنهدامات."
من حارة الطحان دلفت الى حارة الميدان، وأطليتُ على قصر الباشا ( قصر النائب) الذي دارت فيه أحداث رواية زيد مطيع دماج الشهيرة (الرهينة) فوجدت أعمدة خرسانية نابتة في المكان بعد إزالة المبنى القديم في عملية فجة لتغيير معالم المكان ، واستبدال الاسمنت الكئيب بأحد معالم المدينة الرسولية العتيقة.
ومن الميدان اتجهت غرباً الى باب موسى مروراً بـ (قبة الحسينية) ، التي لم تزل مسنودة بالعديد من السقالات الحديدية منذ مشروع ترميمها الذي لم يتم ، وفي باب موسى شاهدت بعض دمار المتحاربين في واجهاته الحجرية. صعدت الى سطح فندق" تاج شمسان " القريب من باب موسى ،حيث تصير قلعة القاهرة ومعالم الدولة الرسولية واضحة أمام المشاهد ، في استعادة مهيبة لذكرى أيام تعز الثقافية في ربيعيات العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين.
عدت الى قلب المدينة لتسجيل زيارة خاصة ، للخطاط والرسام محمد علي شكري في محله المجاور للسوق ، الذي لم يزل حضوره في ذاكرتي استثناء باذخاً منذ كنا أطفالاً نقلد خطه ورسمه.. ينحدرمحمد من أسرة فنية معروفة فجده لأبيه (شكري زيوار) كان خطاطًاً ونحّاتاً مشهوراً، وهو، كما تقول بعض الروايات ، الذي خط المصحف في جامع الملك (المظفر) في مدينة تعزّ. كما أن والده علي شكري هو الذي قام بتزيين قباب جامع الملك (المظفر)، ووضع التصاميم لبعض العملات اليمنية في عصره، مثل عملة (البقشة) النحاسية الحمراء التي تم تداولها لفترة من الزمن.
قال أنه اُستدعي الى صنعاء منتصف الستينات ليرسم شعارات القوة الجوية على طائراتها المقاتلة وهو شاب على عتبة العشرين، وتالياً قام بتنفيذ عدد من المجسمات العسكرية للقوات المسلحة، بما في ذلك تمثال (محمد محمود الزبيري)، وتمثال الرئيس (عبدالرحمن الإرياني)، وتمثال الجندي المجهول، ولاحقاً كانت عربات الاحتفالات في أعياد الثورة والعمال تحمل بعض مجسماته الخشبية والاسفنجية وهي تصعد العقبة في طريقها لميدان الشهداء في العرضي.
صار محل الخطاط والرسام شكري الصغير، الذي أفتتحه في العام 1968، محلاً واسعاً في الجوار منذ منتصف الثمانينات ، قبل أن يصير مؤسسة إعلانية كبيرة لها أجهزتها ومعداتها التقنية ولها فرعها الكبير في عدن ، استبدلت بالجرافكس وتقنيات الخط الالكتروني واللوحات الحرارية والبنر والبلاستيك المقوى بالأنامل الذهبية للفنان وصحبة وبخشبهم وسفنجهم ولوحاتهم القماشية الملونة. الفنان محمد علي شكري لم يزل بأناقته التي عهدتها به قبل أربعين عاماً ، ولم يزل جسده النحيل يحمل الكثير من وسامته الشابة ورشاقته.
بعد تركي لشكري ومحله التقيت بمكان قريب منه " سائلة الضبوعة" الصديق (فهد الظرافي) ، الذي يصح أن يلقب بذاكرة تعز الفتوغرافية والمرئية لما يكتنزه لها من صور وفيديوهات نادرة خلال قرن كامل، وعلى سيارته عدنا معاً الى المدينة القديمة ، والتي دخلناها هذه المرة من باب المداجر الغربي مروراً بدار الناصر وصولاً الى الميدان ، ثم الأشرفية حيث سجلنا زيارة سريعة للقاضي أحمد محمد المجاهد أحد عشاق تعز الكبار. وبعد مغادرتنا لمنزله المتواضع الكائن بالقرب من الجامع والمدرسة التاريخية الشهيرة مررنا جوار دار النخلة الخاص بالمناضل جازم الحروي حيث شاهدنا ما لحق به وبنخلته الشهيرة من دمار المتحاربين.
خرجنا مرة أخرى من (باب المداجر) أو باب المحارق كما تسميه كتب التاريخ للوصول جنوباً الى الدائري الذي يربط منطقة صينة بالقلعة والقلعة بحي السواني ، وصولاُ الى المجلية السفلى، ومنها هبطنا سائلة محرم المتصلة بسائلة الهندي للوصول الى أول حواري الجحملية الوسطى من الجنوب الغربي حيث حارة بيت زيوار وبيت جمال وهناك بدأنا بمشاهدة أثار الدمار في المباني، وتعاظم هذا الأثر حينما صعدنا الى حارة قريش ،حيث جرت فيها أشد المعارك ، ومنها اتجهنا الى أسفل حارة مدرسة عقبة بن نافع في الجحملية العليا، وثم صعدنا إلى أعلى حارة المستشفى العسكري، ثم اتجهنا شرقاً باتجاه بيت صالح الزواحي وبيت العنسي، ومنها خرجنا الى جامع الحارث بالقرب من المركز الثقافي ، ثم عدنا الى الشارع الذي يؤدي الى معهد المعلمات " حالياً مدرسة الخنساء" ، جوار المستشفى العسكري من جهة الشرق ، وتوقفنا في بداية الشارع النازل الى مستشفى الكندي وجولة القصر والمغلق لوجوده في مناطق التماس ، ثم توقفنا أمام التموين العسكري ( جرش الدبابات) المقابلة لمدخل أكمة العكابر حيث أمكننا مشاهدة منزل الرئيس السابق علي عبد الله صالح المدمر بكل وضوح ، ومنهما نزلنا الى الجحملية السفلى التي تبدأ بحارة جامع عباس الملاصق لمقهى (غالب مخسو) الشهير وصولاً الى جولة العرضي العليا حيث محل طرمبة الهلالي الشهير، ومنها هبطنا للعرضي وفرن الكدم الذي صار هنجراَ مدمراً ، نزولاً الى نادي الضباط والورشة العسكرية وجامع العرضي ، حيث صار الى يسارنا مبني قصر العرضي وملحقاته " المقام الشريف" وصار على يميننا الشارع المؤدي لصحيفة الجمهورية ومدرسة الفاروق والثلايا ، وبمدخله بقايا مبنى القيادة العسكرية المدمر بالكامل.
أثناء الهبوط صار على يسارنا ميدان الشهداء ( الذي اُجريت عليه ترميمات وعملية صيانة)، ثم مبنى المؤسسة الإقتصادية (البنك المركزي سابقاً) ، وإدارة أمن تعز، ومكتب الإعلام ومنه استمر نزولنا من جوار مجمَّع الإطفاء باتجاه جولة حوض الأشراف ، حين أوقفنا أحد المسلحين بلباس مدني وطلب مني أن أريه ما قمت بتصويره بكاميرا الهاتف للمباني المدمرة التي في الواجهة ، ثم طلب مني محوها ففعلت . عدنا الى سوق الصميل ومنه خرجنا باتجاه فندق الجند ، حيث سلط علي أحد المسلحين ضوء كشافه في الصباح الباكر ، والذي تحول الى ثكنة عسكرية . عدنا من الشارع الموازي لمقر (بنك أندوسويس) واتجهنا يسارا الى مقابل مبنى البريد المرمم ، وصارت مباني المالية " المرممة أيضاً" على يسارنا ، ومن جوار سورها الشمالي ،الذي يتزين برسوم مأخوذة من لوحات الراحل الكبير هاشم علي عبدالله، أخذنا طريقاً باتجاه الغرفة التجارية، ومنها الى جولة الأخوة، وحين قاربنا النقطة العسكرية التي تقع أسفل ربوة الفندق أوقفنا عسكر النقطة ومنعونا أول الأمر من مواصلة الصعود، حتى ظهر أحدهم يعرف الرفيق فهد فسمح لنا بالصعود ،وكان همي الوحيد هو كيف ألتقط صوراً للمدينة من شرفة الفندق السفلى كما كنت أفعل في السنوات التي سبقت الحرب ، وهو ما حدث فعلاً ، قبل أن نعود أدراجنا من الشارع الخلقي المقابل لفندق مأرب حيث يظهر الدمار جلياً ، وكذا بعض المصفحات والدبابات المحروقة في الشارع المجاور لفندق مارب و المقابل لفندق الأخوة الذي صار مقراً عسكرياً محصَّناً.
هبطنا من جديد من عقبة شارع جمال وصولاً الى مقربة من مركز المدينة ، حيث قام فهد ، دليلي في الرحلة، بركن السيارة بالقرب من مباني حوش الغنامي بالقرب من شارع 26 ، لندخل راجلين من الأزقة من جهة شارع المدرسة وسينما بلقيس وصولاً الى السوق المركزي وهناك افترقنا ظهراً، بعد أن رأيت كمية الدمار التي تعرضت له الجحملية بشقيها السفلي والعلوي، وكذا العرضي ،وجولة حوض الأشراف ،ومنطقة فندق الإخوة في جبل الضبوعة.
رغم الألم الكبير الذي انتابني من مشاهدة المباني المدمرة والشوارع المقطوعة، والنزوح والتشرد الذي فُرض على السكان ، الا أن أملاً شع بداخلي حينما رأيت إصرار الجميع على المقاومة بالحياة, فقد رأيت طلاباً وطالبات عائدين من مدارسهم الى مساكنهم شبه المدمرة، رأيت حياة وازدحاماً بالقرب من محل الهلالي للطرمبة التي اشتهرت به منطقة الجحملية، رأيت أبواب المشفى العسكري مفتوحة، رأيت من يبيع كدماً ساخناً بالقرب من الفرن المدمر، وفي صباح لاحقٍ صورت طلاباً وطالبات هابطين الى مدارسهم/ن وخلفهم أثار الخراب التي لم تمنعهم من مواصلة رحلة التعليم، صورت مرتادي مقهى غالب مخسو يتناولون البن والشاهي على طاولات حديدية قديمة تتحدى منطق الحرب ، وتستجلب أملاً صاعداً من ثقوب الرصاص التي وشمت واجهة المبنى القديم.
في إحدى مخابز السوق ، بالقرب من سوق السمك تناولنا ، أنا وبعض الاصدقاء، غداءنا من السمك الذي لم يزل يصل الى السوق ،وإن بمشاق كبرى كما قال لي صاحب محل هناك ، فالمخا التي كانت تجود بجواهر بحرها من الأسماك الطازجة، قبل الحرب والحصار لم تزل تجود ببعضها، لأن الطرق التي تسلكها سيارات نقل الأسماك للوصول الى المدينة صارت بعيدة وبدائية ، وتصل بعد وقت طويل، لتنضاف أكلاف الرحلة ومشاقها على الأسعار التي يكتوي بنارها المواطن البسيط
(يتبع)
* المقال خاص بموقع المهرية نت