آخر الأخبار
النخب السياسية اليمنية..حذق لا يثمر سوى الخسارات
جسد اليمن ندوب غائرة تكشف عن الطابع العنيف لحركة السياسة في هذا البلد ؛ ويكفي أن نتذكر أن ثمانية رجال ممن حكموا اليمن الحديث خلال قرن من الزمن انتهى بهم الحال مقتولين لنعرف أن اليمنيين قلما تمكنوا من السيطرة على حياتهم السياسية وتوجيهها صوب ما يحقق مصالحهم في دولة عادلة ومجتمع متماسك يسوده الأمن والرخاء . قد يثور اليمنيون ويصنعون الحدث السياسي، ولكن دورهم عادة يكون قصيرا جدا فيغادرون المسرح باكرا ليتحولوا إلى مجرد مشاهدين مرعوبين لأكثر السيناريوهات السياسية جنونا وإجراما .
قلما كانت النخب السياسية التقليدية أمينة في تمثيل اليمنيين والذهاب بمطالبهم أبعد من مساحات النضال العامة في الشوارع أو الجبهات، والأدهى من ذلك أن هذه النخب تتنصل حتى من دور المترجم الأمين لما يجري عندما ينقلب المسرح رأسا على عقب ويكون هناك خروج فادح عن النص على هيئة حروب واغتيالات وانقلابات تمس بشكل حاسم مصير اليمن .
كان الحوثيون يخوضون حربا خطيرة تستهدف تصفية ما تبقى من آمال للجمهورية والدولة، ونفذوا انقلابا كاملا على الشرعية وعلى السياسة نفسها، بينما كان معظم الحديث النخبوي ينصرف في اتجاهات مختلفة ماعدا توصيف ما يجري على حقيقته . بإمكان أي شخص مراجعة الإنتاج الصحفي خلال تلك الفترة، إذا كانت ذاكرته وحدها لا تكفي لذلك، ليأخذ صورة عن حجم التضليل الذي مارسته على اليمنيين نخبهم السياسية، بما فيها قيادة الدولة نفسها، في ظرف كانوا يتعرضون فيه لاختبار حاسم يتعلق بجمهوريتهم ذاتها.
الكثير من الذين يتحدثون اليوم بصوت عال عن الانقلاب، والمشروع الإيراني، والإمامة الجديدة، كانو يثرثرون في ذلك الوقت كثيرا فقط من أجل أن يهربوا من قول هذه الأشياء نفسها التي يصرخون بها الآن . كان الجميع حينها مستغرق في اللعبة السياسية الكبيرة والمعقدة التي انفتحت على إثر ثورة الشباب، وكان أقل القليل من النزاهة في الخطاب السياسي يعتبر مناقضا للحذق الذي تتطلبه اللعبة . يمكن استثناء حزب الإصلاح هنا لأنه كان هدفا مباشرا لتحالف الحوثي - صالح، ولم يسعفه وضعه الحرج في تلمس خيارات تصالحية مع المشروع الجديد تكون دافعا للمشاركة في الحفلة الفاجرة لخداع الشعب .
لكن حزب الإصلاح يبقى جزءا أصيلا من النخبة التي أتقنت حذق السياسة حتى عندما يكون ذلك على حساب الثوابت الأساسية التي يجب أن تدور في إطارها لعبة السياسة كلها. هذا ما أكده ويؤكده استعداد الحزب للذهاب في مجاملة التحالف السعودي الإماراتي إلى حد بعيد جدا تضيع داخله حدود الوطن التي أصبحت نهبا لأطماع التحالف، والتي من المفترض أن تتركز داخلها نشاطات الحزب وآماله . جدير بالملاحظة أيضا أن غياب الصراحة في موقف الحزب من التحالف ومن الإمارات تحديدا لم يكسره حتى وقوف الأخيرة وراء سلسلة من الاغتيالات الدامية لأعضاء وكوادر الحزب، وهذا التسامح المطلق الذي يبديه الحزب تجاه تدخل الإمارات في الشأن الداخلي للبلاد يبدو مستغربا جدا بالنظر إلى موقف أسلافه الأيديلوجيين الذي أبدوا حساسية عالية إزاء التدخل المصري في ستينات القرن الماضي، مع ما في المثالين من فارق إيجابي لصالح المصريين .
ثنائية الاستعمار والاستبداد التي دفعت اليمنيين لإشعال ثورتين عظيمتين في ستينات القرن الماضي، وأوقدت فيهم الكثير من الغضب الذي عبروا عنه بأكثر الطرق حيوية من المظاهرات السلمية والإضرابات إلى العمل الفدائي العنيف، تتكرر في الوقت الراهن فتسارع النخب السياسية إلى التطبيع معها عبر لغة مراوغة وبيانات مائعة هاربة من الحقيقة طمعا في نيل حظوة لدى المستبد أو المستعمر أو كلاهما . تتجلى هذه الحالة، على سبيل المثال، بشكل واضح لدى قطاع واسع من السياسيين والنشطاء اليساريين في مداهنتهم للمجلس الانتقالي المنتج إماراتيا، والذي هو فوق ذلك كيان عنصري بشكل سافر، وكأن التجربة الأولى في مداهنة الحوثيين قا عادت على هؤلاء بالمكاسب المرتجاة من مسلك النفاق هذا !
هذا الأسلوب المتبع من قبل النخب السياسية في التعامل مع قضايا راهنة ذات خطورة كبيرة يتوخى، كما سبق الإشارة أعلاه، ممارسة درجة عالية من البراجماتية، ولكننا كمواطنين ومتابعين ومناصرين لهذه الأحزاب لا نلمس أي عائد إيجابي لهذه الحذاقة . على العكس، إننا نشهد الخسارات فقط، بما فيها خسارة هذه الأحزاب لهويتها ووظيفتها الوطنية ولإمكانية الحكم وممارسة السلطة مستقبلا. تبصير الناس بحقيقة ما يحدث لهم هو آخر وأسهل مهام السياسيين العاجزين، ولكنه مع ذلك يستعصي عليهم لدرجة أن بعض المكاشفة، كالتي أقدم عليها أحد البرلمانيين مؤخرا، تبدو وكأنها مغامرة قاتلة بالنسبة للنخب العاجية في بلادنا.