آخر الأخبار
ثمة أرض مُقدسها الإنسان وأديمها الشعر والغناء ..
(1)
مع تباشير العام 1990 تعرفت على د سلطان الصريمي ،وجها لوجه، في منزل العزيز ابراهيم سعيد الشيباني في شارع هائل بصنعاء ، كان ذلك قبل الوحدة بقليل. لم أزل اذكر حضوره للمقيل حاملا جزئيين من رواية "مدن الملح" للراحل الكبير عبد الرحمن منيف ،التي كانت حينها حديث المثقفين والأدباء، وكانت مناسبة لي لفتح حديث معه في أول لقاء، متسلحا بجملة افكار "ساذجة" كونتها من قراءتي العجولة للعمل الروائي في تلك الفترة الباكرة .
قبل ذلك كنت أعرفه جيداً كمبدع كبير وشخصية وطنية عالية القيمة والدرجة، وقصائده التي غناها كبار الفنانين اليمنيين لم أزل اعتبرها ،حتى الأن، حصيلة مهمة في سنوات التكوين الأولى، فمع قصيدة "نشوان" التي لحنها وغناها الراحل الكبير محمد مرشد ناجي كنا نتماهى مع الحلم السياسي القادر على تغيير الواقع ، وغدت الأغنية أيقونة للفن المقاوم للاستبداد، ومع قصائده الكثيرة التي غناها الفنان عبد الباسط عبسي ، والتي بدأت مع" عمتي " التي أعادت تلخيص موضوع الهجرة بوصفه موضوعا اجتماعيا واقتصاديا خالصا بحساسية شعرية رائدة، وتواصلت على مدى أربعة عقود مع عشرات النصوص الخلاقة مثل "عروق الورد" و"باكر ذري" و " خضبان" و " ورود نيسان" و"وراعية" وغيرها من القصائد المغناة الجميلة ، صرنا نعي ماذا تعني المتلازمة الحية بين الانسان والأرض . ومع قصيدة " تَلِيم الحب في قلبي" التي لحنها وغناها الفنان ايوب طارش صرنا نبصر العاطفة وهي تتقطر شجناً شاهقاً.
(تهنيتك وغنينك غُنى/ أنا المحروم من خمر الوجن/ ومن بعد التلاقي والهناء/ رمى بي الحب في بحر المحن/ تهدابي لأمواج الضنى/ أخذ قلبي وسيَّبلي الشجن/ يُقهِّدني ويُسقيني المنى / عطش يجري بروحي والبدن) عن تجربته الرائدة في كتابة النص الغنائي التي التمت في وقت مبكر من سنوات الثمانينيات في مجموعة أولى أسماها "هموم ايقاعية" كتبت بعد أكثر من عقد ونصف من لقائي الأول به ، أي عام 2006، عن الشيء الكثير الذي أضافته هذه التجربة لكتابة الشعر العامي في اليمن والتجديدات التي اقترحتها ، واعتبرت في القراءة التي حملت عنوان " الصورة انزياحات لغوية وفنية" إن الصورة الشعرية في هذه التجربة تلقائية عفوية تتولد من أحشاء النص ولا تُقسر عليه، وإن القصيدة بشكل عام تجاوزت في بعض مراحلها حضور النص المكتوب خصيصا ليغنى ، الى تلك النصوص التي قدمها كخلاصة لتجربة ورؤية وموقف ،ومع ذلك لم تعدم مثل هذه النصوص بصورها الباذخة من الوصول الى نوتات الملحنين وحناجر المغنيين ، وكنت أعني قصيدته الطويلة " أبجدية البحر والثورة" التي صدرت هي الأخرى في كتاب ، والتي أدتها فرقة "الطريق العراقية" بعدن.
(2)
لا يذكر اسم سلطان الصريمي كشاعر غنائي كبير الا ويذكر معه الفنان المختلف عبد الباسط العبسي، الذي شكل معه ثنائيا فريدا ابتدأ مع أغنية "واعمتي منو شقول لمسعود" ، التي ظهرت مُغنَّاة أول مرة في مدينة الحديدة أوائل سبعينيات القرن الماضي" 1972" ، فصارت وقتها انجيلا للنساء في القرى اللواتي عانين من قسوة فراق الأزواج بسبب الهجرة والاغتراب، التي كانت حينها واحدة من تعيينات المعضلة الاجتماعية مع متلازمة الفقر، الذي يقود الى الهجرة القاسية، والتي قد تكون سببا في اختفاء الأزواج ، الذي يتحول مع الوقت الى شقاء مضاعف في حياة الزوجات الشابات ، فلا يمتلكن من جرائها سوى الشكوى المريرة التي تختصرها هذه الأغنية ، التي تتوجه بها الزوجة للعمَّة.
وطوال تاريخ التعاون الفني الطويل بينهما أنتج الإثنان عشرات الأغاني التي كتبت وغنت للطبيعة والانسان بصوت عبد الباسط الدافئ والمعبِّر في آن ، ومن اكثرها انتشارا أغنية "يا ورود نيسان يا شذى حبي" وأغنية "يا خضبان وردك جماله ثاني " وأغنية " باكر ذري " وأغنية "يا نور احلامي " وأغنية "عروق الورد مستني رعودك" وأغنية "متى وراعيه شمطر وأغنية "حنين الأرض يا سلمى" وأغنية " يا هاجسي " وغيرها و غيرها الكثير.
(يا ورود نيسان يا شَذى حُبي / ريم من ظمران قد سبى لُبي / واعتلى الفتان عرش في قلبي / ليتني جنبه انتشي والعب / من صفا حبه ارتوي واشرب/ اغتنم قربه ليتني يارب / من فراق الخِل اقتلي واذوب يانسيم عَجِّل شُل للمحبوب/ فُل من باجِل والجواب مطلوب / البُعاد يُبري أضلع العشاق /آه لو يدري كم أنا مشتاق/ دمعتي تجري ترسل الأشواق / منتظر للخير والبلاد ساقي / والمطر يُندي لحنِ أشواقي/ منيتي يا ريم يوم نتلاقي ) وهي اغان "كما تدل عليها العناوين" تستلهم من الطبيعة والأرض والجمال موضوعاتها الفنية، وتعبِّر عنها بالحان عذبة بسيطة ، كما هي الطبيعة البسيطة والجميلة التي جاءا منها (الفنان والشاعر)، وقبل ذلك تعبِّر عن صدق انتماء الشاعر والفنان للأرض والانسان ، حين يتجلى احدهما كفلاح او عاشق او حالم كبير.
ومادام الحديث عن تجربة الفنان عبد الباسط عبسي الفنية الكبيرة والثرية ،لابد من التوقف هنا أيضاً عند اسهام واحد من أساطين الشعر الغنائي الكبار في اليمن ، الذين أسسوا لهذا الصوت ومدوه بالعافية منذ التكوين الباكر قبل نصف قرن ، ونعني هنا الراحل الكبير محمد عبد الباري الفتيح ،الذي أنتج مع باسط العديد من الأغاني ذات الاستثناء المهم في تاريخ الأغنية بخصوصيتها الثقافية لمحافظة تعز. فمن منا لم يستمع الى أغنية "الليل وا بلبل دنا" ولم يطرب ، او استمع الى أغنية " واقمري غرد" ولم تأخذه النشوة بعيدا او استمع الى" ما أمر الرحيل " و" أينه شتسافر واعندليب " و" الليلة من الف ليلة " و " يا طير يللي " و" لا أين يا رجال " دون أن يحس ان اقدامه تغوص في أديم الارض ، وتمتلئ رئتيه برائحة ترابها وزروعها.
(واقمري غرد ما عليك من هم / خلك معاك وأنته بقربه تنعم / مش مثلي اتجرع كؤوس علقم / سقيم بحالي بس ربي يعلم / اشكي بعاد خلي ايحين شاشوفه / لمن ترك ورده خيار قطوفه / صباح مساء احلم ولو بطيفه / يا قمري والخل ما ذكر اليفه)
للفضول عبدالله عبد الوهاب نعمان مجموعة من النصوص الغنائية ، التي تحولت بصوت باسط الى طبق من الفاكهة اللذيذ في مائدته الغنية الدسمة ، ومنها اغنيات "من الضحى حتى دنوِّ الأصيل" و" من مبسم الفجر" و" طعْمهْ قُبَلْ" و" يا حبّي يا ارضي ويا سمائي" و"هاتوا لقلبي كل طل الصباح" و" برْدانْ.. برْدانْ.. أين الحب يدفيني" و" حسنك لعب بالعقول" و" يا حبي يا أرضي "
(حسنك لعب بالعقول /وانا مرَوِّحْ ضحيه /عنَّك حديثي يطول /فاسمع حديثي شويه / شلت ترابي السيول / وراح زرعي عشيه/ وأنا معك في ذهول/ أمشي على حسن نيه /مدريش ماذا تقول/ عيونك البابليه/ وأسمع رنين الحجول/ مثل الأغاني الشجيه /وحليتك عقد لول /وقامتك يافعيه /وتحت نحرك حمول / فواكهه مستويه/ تبقى بكل الفصول /ملآن صدرك طريه/ هات الشهود العدول/ شاقول آخر وصيِّه /شاموت ساكت خجول/ وافوت من غير ديَّه)
ولغير هذه القامات الكبيرة غنى لقامات سامقة ورائدة أيضاً مثل الشاعر أحمد الجابري الذي غنى له رائعته " اشتي اسافر بلاد ما تعرف الا الحب"
(أشتي أسافر بلاد ما تعرف إلا الحب / العيش فيها وداد والبُعد فيها قرب /اينا شا لإقي بلاد ما تعرف إلا الحب / ليل المُفارق طويل ويا تعب حالي / لو قلت شاشكي لمن من كيد عُذالي/ يا عين كُفي الدموع/ ما للضنا ومالي / اشتي أسافر أنا ...اشتي أسافر.)
وللراحل عثمان أبو ماهر غنى رائعته " ماشتيش دنيا قافره بلا حب" ، والشاعر الراحل عبدالله غدوه الذي غنى له باللون التهامي أغنية " ياليت كان محبوبي" و الشاعر عبده علي ياقوت (الذبحاني) "لمه لمه" والشاعر عبد الرب المقطري " ساجي العيون" و "مظلوم معك " ولمحمد المقطري غنى "امرُّ الكؤوس" ، غنى لعبد التواب سيف أيضاً " بخطرته قبالي، و انا بمايو صنعت أغلى عيد" .غنى للصديق الفنان عبد الفتاح عبد الولي رائعته " طائر الدان" من كلمات أحمد الصميد غنى "وا جلوبة" ، ومن كلمات عبدالله الكباري غنى" أنا اليمني" ،ومن كلمات سالم بازغة غنى " ياويلك ياهاجري" ، ومن كلمات علي عبد الرحمن البجيري " من نظره ملكت الفؤاد" ، ومن كلمات جبران شمسان " امانتك ياذا الحبيب".
غنى للشاعر محمد عبد القوي ناشر رائعته " سيل الحب"، و للشاعر الحارث ابن الفضل غنى "شقيق البدر" و " "يسعد مساكن ". لآخرين كُثر أيضاً غنى، أمثال الشعراء علي الحزمي وصفوان المشولي وعبده حمود الرج…
* المقال خاص بموقع المهرية نت