آخر الأخبار
حتى لا نحيا بذاكرة مشروخة .. ماذا عن أسئلة تنويري الثلاثينيات في اليمن ؟
حينما نسترجع ، بالكتابة، سير الرموز الثقافية ورواد التنوير في تاريخ اليمن المعاصر القريب، وأحياناً البعيد، هل نكون نكوصيين بالضرورة ، لأن المستقبل أمامنا صار معتماً ؟ ، فنهرب إلى الماضي خشية القادم ، وإن استردادتنا ، بالكتابة أيضاً ، لسيرنا التكوينية الباكرة هي الأخرى حنيناً لزمن سابق لم يتلطخ بآثام الأيام وقسوتها، والتي قد تتضاعف مع سيرورة الزمن في وعينا وأجسادنا، فلا نستطيع معاركتها بأدواتنا العتيقة.
المسألة عندي غير ذلك تماماً ، ومحفزاتها في الأصل هي المساهمة في إعادة التعريف بمحطات مهمة للوعي الجديد الخارج من معادلات العزلة والانغلاق التي فرضتها طبيعة السلطة الكهنوتية ورؤيتها للحياة ، تدلُ عليها سِيَر وأفعال شخصيات رائدة عملت في أقسى الظروف من أجل إنارة الطريق أمام الجميع.
انطلاقي من هذه القناعة ليس على قاعدة الرطانة الجوفاء التي تقول (من لا ماضي له .. لا حاضر له و لا مستقبل ينتظره) .. و إنما من أن هناك اختراقات فاعلة ابتدأها رموز في السياسة والثقافة والاجتماع والتجديد الديني في الجدار الصلب والمغلق لتاريخ اليمنيين المعاصر ، يتوجب الوقوف أمامها والإشارة إلى أصحابها الرواد بنوع من التحية ، وهي أبسط الوسائل، لترميم ذاكرتنا الجمعية المشروخة.
الحركة الوطنية التي بدأت مناهضتها الباكرة لحكم الإمام يحيى منذ اجتياح قواته لليمن الأسفل وتهامة لتصير هاتان الجغرافيتان مستتبعتين بالإخضاع للمركز واستكلابه المذهبي ، كان امتدادها ذلك الصوت البعيد الذي بدأ يشكك بأهلية نظام المركز الذي فرط في السيادة مع عام الكوارث (1934) ،وهو عام دخول القوات السعودية الى عاصمة إقليم تهامة الحديدة والمدن المحيطة بها، والذي ترتب عليه توقيع (اتفاقية الطائف) التي تنازل فيها الإمام عن المخلاف السليماني ونجران مقابل خروج القوات السعودية من تهامة ، والعام نفسه الذي وقَّعت فيه سلطة الإمام يحيي اتفاقية صداقة مع الإنجليز معترفة بسيطرتهم على عدن والمحميات مقابل اعترافهم بيحيى حاكماً لليمن .
هذا الصوت القليل كان كثيراً بجرأته ، وأقدر على التعبير عن رفضه لطريقة إدارة الإمام للبلاد، بعقلية الفقيه المتزمت والمتعصب، والشحيح، و خرج من ذات البنية الثقافية المحافظة، التي كرسها نظام الحكم ، وأدار معاركه الفكرية بنفس الأدوات التي يتكئ عليها نظام الحكم ، لكنها هنا كانت تمتلك، في ذات الوقت أسلوبها البسيط في النفاذ إلى عقول الكثير من المهجوسين بسؤال التحول الكبير ؟!.
عبَّرت عن تجليات هذا الصوت طلائع التنويريين العصاميين ،الذين لم يأتوا من حواضن سياسية منظمة أو مدارس فكرية حديثة ، فقط بإمكانياتهم المعرفية البسيطة خطوا أولى الخطوات في الطريق الشاق والطويل لمعارضة السلطة الغاشمة، وتعرية أدواتها المستخدمة في الاستبداد الديني، ومع ذلك حمل خطابهم المبكَّر " دعوة فكرية سياسية وعملية لتحطيم تابوهات القداسة التي صنعتها الإمامة حول نفسها، وكشفت بوضوح حقائق ووقائع الحالة الإمامية الميؤوس منها، وحالة نظام فقد أي صلة بالحياة والعصر." كما يذهب إلى ذلك قادري أحمد حيدر في كتابه "المثقفون وحركة الأحرار الدستوريين ـ عبد الله علي الحكيمي نموذجاً".
وأكثر الأسماء تمثيلا لهذا المنزع الجديد الشيخ حسن الدعيس ، الفلاح الفيلسوف، الذي حضر في معترك المركز، بوعيه الجدلي الديني المختلف والمؤثر، وهو الآتي من أحد جبال اليمن الأسفل (بعدان) ،وخلال فترة قصيرة استقطب العشرات من المثقفين الملولين من حكم الإمام، والذين أصبحوا المشغِّل الفاعل في نواة المعارضة السياسية ،التي بدأت تتحسس طريقها الشاق من المقايل وحلقات المسجد ، متخذة من الخطاب الديني، وموضوعاته الإشكالية ،مدخلا لنقد الإمام ووسائل وأدوات حكمه .
الآثار الفكرية القليلة للشيخ الدعيس "تقدمه لنا كواحد من حكماء الشرق والمنطلق من فكر الإسلام وإشراقاته التصوفية، والباحثين في ذلك الفكر عن نهج عادل يضع حداً لما كان يعانيه مواطنوه من اضطهاد وقهر في ديارهم التي تُدعى بالمستقلة" حسب د عبد العزيز المقالح.
وإلى جانب الشيخ حسن الدعيس ، ظهر المناضل محمد عبد الله المحلوي - صانع الحلويات البسيط في سوق صنعاء - الذي دخل هذا المعترك بوعي عصراني أكثر انفتاحاً، بسبب احتكاكه المباشر بمعارضين عثمانيين، الذين نفتهم السلطات العثمانية إلى اليمن كنوع من العقاب، فاكتسب منهم اللغات وبعض علوم العصر ،التي قادته بدورها إلى القراءات الفاحصة للفكر الديني ،الذي بواسطته كون شخصيته الثقافية الرائدة " فحفظ الحديث و التفاسير ودرس التاريخ والرياضيات والطب وأحوال البلاد الشرقية والغربية، ولولعه بالبحث والاستطلاع درس العهدين القديم والجديد عند حاخام صنعاء الكبير يحيى الأبيض، الذي كان متبحراً بالعلوم اليهودية والإسلامية." كما ورد في مذكرات العزي صالح السنيدار - الطريق الى الحرية.
وإلى جوار الاثنين كان أحمد المطاع ،الضابط المثقف ، وأحد مهندسي (هيئة النضال) ، التي عدها الكثيرون أول اتجاه معارض منظم يظهر في عاصمة الإمام، وعُرف عن المطاع شغفه بكتابة التاريخ اليمني، وميوله الصحافية والأدبية، فقد عمل محرراً بصحيفة الإيمان، التي أصدرها في صنعاء 1926 الإمام يحيي كصحيفة رسمية تعبِّر عن وجهة النظر الرسمية، ونشر موضوعاته السياسية عن حال اليمن في صحيفة الشورى، التي كان يصدرها في القاهرة محمد علي الطاهر، تم ترأس مجلة الحكمة بعد قتل رئيسها أحمد عبد الوهاب الوريث ، واستكمل فيها ما ابتدأه الوريث من نشر موضوعات عن الإصلاح (الديني والسياسي) في حلقات متتابعة تحت عنوان "في سبيل الإصلاح" ، متخذا من موضوع اللغة محورا للمساءلة عن أسباب وعوامل انحطاط وسقوط الفكر.
قبل هذه الفترة بقليل، كان المحامي محمد علي لقمان في مدينة عدن يقارب سؤال النهضة والتنوير، بإصدارة كتاب (بماذا تقدم الغرب !؟) في العام 1933، والكتاب في توجهه العام خاض في سؤال النهضة والتنوير ،الذي ظل يشغل الحيز الأكبر من تفكير النهضويين العرب ، وعد هذا الكتاب تمثيلا واضحاً للتوجهات التنويرية التي استوعبتها مدينة عدن ، التي شهدت في العام 1925ولادة أول نادٍ أدبي (ترأسه لقمان نفسه) وصولا إلى تشكيل الأحزاب والنقابات فيها بعيد الحرب العالمية الثانية.
وقد قيل في هذا الكتاب" إنه من الأعمال المبكرة للقمان إن لم يكن أولها .. وهو من الكتب التي تؤسس بداية تاريخ الثقافة المعاصرة في اليمن .. ويتشكل وفق مقاصد بلاغية، أي لا تكتفي من اللغة بإبلاغ الفكرة ، بل تسعى إلى التأثير في المتلقي عبر أسلوب اللغة نفسها" كما يقول د عبد الكريم قحطان.
ولقمان "هو المفكر السياسي والفيلسوف الاجتماعي وهو المناضل الجسور والثائر الصبور، وهو التربوي العملي والصحافي الناجح، وهو الناشر الذكي والمحامي المقتدر، وهو الشاعر الجميل والقاص المبدع والروائي الرائد" كما يقول الدكتور أحمد علي الهمداني.
وهو" لم يكن من أولئك الناس الذين تبهرهم الشوارع الجميلة والعمارات المخططة في مدينة عدن أو ما تحتويه أسواق هذه المدينة من سلع ضرورية وكمالية كانت تستورد من خارج الوطن ...إن المحامي لقمان يعد أن ما بنته وعملته بريطانيا لم يكن الا قشوراً وخدمة لمصالحها التجارية ، ولا يساوي ذلك العمل شيئاً مع حجم المصائب التي ورَّثها الاحتلال والأساليب الدنيئة التي استخدمها أثناء تثبيته للسيطرة البريطانية على عدن وبقية مناطق الجنوب اليمني " كما قال د عبد الغني محمد غانم عن أول مفكر إصلاحي ليبرالي في اليمن.
شخصيات تنويرية رائدة قفزت إلى الواجهة في تاريخنا في فترة الثلاثينات تلك منها الأستاذ أحمد محمد نعمان صاحب مظلومية (الانَّة الأولى) التي عدها الباحثون أبكر وثائق حركة الأحرار اليمنيين وقدم فيها رؤية مبكرة حول بعض جوانب التاريخ الاجتماعي لليمن، وكما يضيف د أحمد القصير، و "شرحا لأسباب الهجرة وأشكال اضطهاد الرعية باستخدام الإمامة أساليب (الخطاط) و(التنافيذ) و(التخمين) في تحصيل الضرائب" ،التي جعلت المئات من الفلاحين من (اليمن الأسفل) يفضلون الهجرة إلى عدن وساحل أفريقيا الشرقي، وموانئ ومدن بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، هرباً من هذا التعسف.
هذا الطالب الذي سيتحول بعد سبعة أعوام ، إلى قائد في حركة الأحرار الذي تشكلت في عدن في العام 1944، بعد أن أظهر نبوغاً قيادياً ومركزياً مبكراً في حركة الأحرار لدعم القضية الفلسطينية في أواخر الثلاثنيات كما يقول حسن شكري ، وكان أكثرهم إيماناً بالعلم كمدخل للتحول، لأنه رأى ،خلال رحلة تعلمه التي ابتدأها في العشرينيات في مدينة زبيد ، وأتمها في الأزهر أواخر الثلاثينيات، أنه لا مناص أمام هذا الشعب للخروج من بؤسه وشقائه الا بالعلم، وقد قضى النعمان سنوات كثيرة في تعليم الآخرين ابتداء من عمله في مدرسة ذبحان(الأهلية) ، حيث عاش الصدمة المعرفية الأولى ،حين لم يقبل في بداية الأمر بطرائق التعليم الحديثة وموادها ،التي كان يقدمها الأستاذ (محمد أحمد حيدرة) في ذات المدرسة ،وعدها خروجاً عن الدين فدخل معه في منازعات وصلت الى أمير تعز، قبل أن يتحول إلى أشد المدافعين عن حيدرة، وأساليبه التربوية والتعليمية، وحين قربه الإمام أحمد ،حين كان وليا للعهد، أوكل إليه تدريس ابنه البدر، وإدارة المعارف في تعز، وفي حجة ، حيث كان مسجونا بعد فشل ثورة 1948، افتتح المدرسة (المتوسطة) لتعليم الأطفال ، وفي ندائه للشعب اليمني - شمالاً وجنوباً- لدعم كلية بلقيس التي افتتحت في العام 1961 في الشيخ عثمان بعدن قال " لابد أن تعد مجموعة من الشباب نفسها لتحمل مهمات التعليم بعقلية متفتحة تعي جيداً أحوال شعبها ،وتدرك المهالك التي طرح فيها بالمواطنين" ، لهذا عُد النعمان مثقفا عضويا "اتخذ التعليم مدخلاً للإصلاح السياسي، ورأى أن تنوير العقول هو أساس تطوير المجتمع والإنسان" كما يقول هشام علي ، وقد كانت مقالاته الصحافية في توجهها العام" تدعو الى العلم والتعلم لكي تقوي في الإنسان البنية الثقافية " حسب عبد الله البردوني في مقالته الذائعة "البشير والختام ".
هذه عينة فقط من رموز التنويريين الأوائل الذين لم تزل أسئلتهم الملهمة تحلِّق في فضاء الوعي في اليمن منذ تسعين عاماً ، دون أن تجد إجاباتها الشافية حتى في مبذولات النخبة المعاصرة في زمننا هذا ،و التي صارت للأسف عنواناً لانقسام المجتمع وضعضعة حلمه ، وهي بمقاييس الزمن الذي أنتجها كانت تتقدم تفكير العامة والنخبة معاً بخطوات واسعة.
لهذا نحن لم نزل بحاجة إلى مقاربة مثل هذه الأسئلة التي أنتجتها عديد قضايا وإشكالات ، تعتمل في بنى المجتمع مثل الاستبداد ، والآخر ، والتعليم ، وتجديد الخطاب الديني ، وهي ذات القضايا تقريباً التي لم تزل تفعل فعلها القاسي في وعينا قبل معاشنا اليومي.
المقال خاص بموقع المهرية نت