آخر الأخبار

القراءة العربية لسوزان برنار وتجلياتها النظرية

المهرية نت - حاتم الصكر
الأحد, 12 يناير, 2025 - 09:23 مساءً

يمثل كتاب سوزان برنار «قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا» أحد المرجعيات الحاضرة في التأريخ والتنظير المبكر لقصيدة النثر، والمستمر في أيامنا العربية أيضاً، وليس في أيام الباحثة الفرنسية، أو وقتها الراهن كما تفضل المترجمة المصرية راوية صادق، في المحاولة العربية الثانية لترجمة الكتاب بعنوان «قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن»، وبتقديم وافٍ وثري من الشاعر رفعت سلّام، بعد أعوام من الترجمة العربية الأولى التي أنجزها في العراق زهير مجيد مغامس.

 

يربو الكتاب على ثمانمائة صفحة في أصله الفرنسي، بينما تُرجم عربياً إلى ربع ذلك في ترجمته الأولى، التي قدمت خدمة كبيرة لكتابة قصيدة النثر ونقدها، تخلصاً من فصل خاص بالدادائية والسريالية، وآخر بالبحور المستخدمة في الشعر الفرنسي، وكثير من هوامش الكاتبة وملاحظاتها الخاصة بالشعر الفرنسي التي رأى المترجم أنها لا تعني القارئ العربي كثيراً.  بينما جاء بترجمة راوية صادق عام 2000 في جزأين وبحوالي ألف صفحة.

 

يردد كثير من الشعراء ودارسي قصيدة النثر مقولة متداولة كشائعة، بأن الكتاب من كلاسيكيات النقد والبحث الأكاديمي حول قصيدة النثر، متناسين امتداد فرضياتها وتوصلاتها إلى خطاب نقد الشعر بالعربية، وإن تظاهر بعض مستخدميه باستخفافهم بشروطها الثلاثة التي علقت في ذاكرة الكتابة النقدية بحوثاً وكتباً وفي الأبحاث الأكاديمية أيضاً. ويصل الاستخفاف حد قول عبد القادر الجنابي في حِجاج نظري يفند تلخيص أدونيس لبعض مفاصل الكتاب، بأن «طالبة دكتوراه اسمها سوزان برنار، انتظر أدونيس ظهور أطروحتها ليكتشف وجود شعر اسمه قصيدة النثر».

 

هذه (الطالبة) لم ينفد زمن أطروحتها (كتابها بالأحرى) فرنسياً، حتى ليصف تزفيتان تودوروف الكتاب بأنه «التاريخ الهائل والموسوعي لجنس الشعر من دون البيت»، ويناقشها في فصل مطول من كتابه «مفهوم الأدب» 1987. منطلقاً من ثنائيات ضدية متناقضة تركبت منها قصيدة النثر؛ كالنظام والفوضى، والشعر والنثر، ووحدة المتناقضات، والحرية والصرامة. ويذهب تودوروف عميقاً في تفكيك مفهومها لهذه الخصائص الضدية، وكيفية تكوينها لشعرمن غير بيت، منطلقاً من تعريفها للقصيدة كشيء كلّي تكمن سماته الجوهرية في الوحدة والتكثيف. وإضافتها لغرض توسيع وتوضيح مفهوم الوحدة باقتراح علاقة مع الزمن والصور الزمنية التي تقدمها القصائد، وهي علاقة ضدية أيضاً تقترب في رأيي من قول سوزان برنار بالمجانية التي لم يستوعبها الخطاب النقدي التبشيري المبكر لقصيدة النثر العربية.

 

تبدأ سوزان برنار كتابها بالتساؤل عن اللحظة التي تتوقف فيها الكتابة عن كونها نثراً بحتاً أو جميلاً، وتستحق أن توصف بأنها قصيدة، مركزة على العناصر التي تتخفى في قصيدة النثر نظراً لطبيعتها الشعرية، بينما تتوضح بجلاء في الشعر الموزون والنثر الشعري أو الشعر المنثور. وهذا ما سنجد له صياغة عربية في مرحلة التبشير التي قادتها مجلة «شعر» التي (بدأ معها التاريخ الفعلي لقصيدة النثر العربية) كما يصرح أحمد بزون في دراسته «قصيدة النثر العربية – الإطار النظري».

 

وهي قناعة نجدها في ما كتب النقاد عن قصيدة النثر العربية تاريخياً وفنياً، مثل كمال خير بك ومحمد جمال باروت وكمال أبو ديب ومحمد بنيس وخالدة سعيد وسواهم.

 

لقد ظهرت وثيقتان عربيتان مبكرتان، هما مقدمة أنسي الحاج لديوانه «لن» 1960 ومقال (في قصيدة النثر) منتهياً باسم أدونيس، أو علي أحمد سعيد إسبر كما ورد في فهرس المقالات عند النشر، وبتسع صفحات من العدد 14 لمجلة «شعر» ببيروت في الأول من نيسان (أبريل) 1960.

 

يشير أدونيس في الهامش الأول من مقالته إلى أنه (اعتمد في كتابة هذه الدراسة بشكل خاص على كتاب)، ويورد بالفرنسية اسم سوزان برنار وكتابها ودار النشر وسنة نشر هذا الكتاب 1959. وليس من ذكر في صفحات الدراسة لسوزان برنار، رغم استيعاب أدونيس الذكي لأبرز مقومات أطروحتها وتفاصيلها، منها يتوسع بشكل نظري مدعم بالأمثلة غالباً لينقض البنية التقليدية لشعر الشطرين أو شعر الوزن كما يسميه، وبدون ذكر صلة قصيدة النثر بالشعر الجديد (الحر) القائم على السطر الشعري لا البيت، وعلى تعدد القوافي وتنوع عدد التعديلات في القصدة.

 

يسمي أدونيس بعض ممهدات التحديث، ومنها الترجمة التي ألغت شروط العمود الشعري الموضوعة ليكون النص شعرياً، وقدمت أشعاراً أجنبية بالعربية لا تلتزم بذلك، ويصل في الوقت نفسه إدراك القارئ لشعريتها، مطالباً بنقل هذا الامتياز إلى القصيدة العربية.

 

ويتتبع المزايا التي تحدد قصيدة النثر، معيداً صياغة تساؤل سوزان برنار الذي ذكرناه مطلع المقالة وذكرته هي في مطلع دراسته، فيقول: «ماهو المقياس الذي يسمح لنا أن نأخذ قطعة نثرية ونقول: هذه قصيدة؟». ومن التساؤل يصل لاستعراض المزايا التي ذكرتها سوزان برنار مقترَحاً لتعيين قصيدة النثر، وهي عنده وبحسب استيعابه الشامل والدقيق للكتاب ثلاث خصائص: التنظيم الواعي الذي يجعلها كلّاً عضوياً أو الوحدة العضوية، والمجانية التي تعني عدم وجود غاية لقصيدة النثر خارجها، وهي مجانية يحددها بفكرة اللازمنية التي نصت عليها برنار، والكثافة التي يحددها بعدم الاستطراد.

 

ويعرض لموسيقى قصيدة النثر، متابعاً الكاتبة في اقتراح الإيقاعية الخاصة التي يذكر منها إيقاع التكرار والتوازي، والنبرة والصوت، وحروف المد، وتزاوج الحروف، وغيرها.

 

وهو ينفق جهداً كبيراً لتمييز قصيدة النثر عن الشعر المنثور الذي كان مهيمناً كنوع ثالث بجانب شعر الوزن والشعر الجديد. وينسب للشعر المنثور إغراقه في التفاصيل والاستطراد والغنائية والمناجاة. ولا شك أنه يتابع برنار في فصلها الخاص المعنون من الشعر المنثور إلى قصيدة النثر، من دون ذكرها دوماً.

 

وما قدمه أدونيس قريب من تأكيد برنار على الفرق الجوهري بين الشكلين. فهي تعلن أن (الحدود قليلة الوضوح جداً بين قصيدة النثر والنثر الشعري)، لكنها تستجلي مواصفات كثيرة تتصل بلغة النوعين، وموقفهما من الكثافة والتركيز والإيجاز.

 

لم يأبه أدونيس بمصطلح قصيدة النثر، وما يحمل من تناقض ضدي لم ترتح له برنار ذاتها. وترك ذلك لفترة لاحقة، سيقترح فيها معترفاً بالبلبلة الاصطلاحية، مصطلحاً لم يكتب له الانتشار، شأن كثير من المقترحات الاصطلاحية البديلة، لأنها لم تستطع التخلص من الثنائية الضدية.

 

أما قراءة أنسي الحاج فستظهر سريعاً في مقدمته لديوانه «لن» المؤرخة في خريف 1960، أي بعد أشهر من ظهور دراسة أدونيس سالفة الذكر.

 

يطور أنسي الحاج أسئلة برنار وأدونيس بصياغته لتساؤله الجوهري: (هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟) متعرضاً لمأزق التسمية، مجيباً بالتفريق الدقيق بين النثر والشعر والقصيدة. وذلك التطوير مهم في رأيي، وقد تفرد به أنسي، لأنه تفريق بين كتلة الشعر وقوانينه القارّة، وبين القصيدة كإبنة متمردة على تلك القوانين بنصيَّتها.

 

يورد أنسي اسم سوزان برنار وكتابها بالعربية «قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا»  قائلاً إنه يستعير منها ما يجعل قصيدةً ما قصيدةَ نثر، منوِّهاَ في الهامش بأن (أدونيس كان أول من تناول هذا الموضوع بالعربية في عدد مجلة شعر) أي دراسته في قصيدة النثر عام 1960. ويذكر الشروط الثلاثة: الإيجاز أو (الاختصار)، والتوهج والمجانية. مؤكداً افتراق قصيدة النثر عن أسلوب الشعر المنثور، ومنوهاً بممهدات الانتقال الحديث كما ذكرها أدونيس.

وبهذا توسَّع ما طرحتْه برنار عربياً ولكن سيناله التكرار والانحباس في الشروط والجدل حولها. تلك الشروط والقوانين التي سيعلن أنسي الحاج في ندوة إذاعية عام 2011 ندمه على تبنّيها، لأن الشعر لا تحده شروط أو قواعد أو قوانين مسبقة، كما يقول في تبرير ذلك الندم.

 

أما المعترضون على حضور سوزان برنار في التنظير العربي لقصيدة النثر والحماسة لقوانينها التي شكّلت محور الخلاف حول القيمة المرجعية لكتابها، فهم أيضاّ لا يستغنون عن مصطلحاتها ومقترحاتها، سواء مصطلحها (قصيدة النثر) أو القوانين والمزايا التي اقترحتها، وهي في سياق الإجابة عن تساؤل بدأت به أولى صفحات كتابها، وظل صداه يتردد في الكتابة النقدية العربية.

 

حتى الجنابي نفسه يكرر بعض مقترحاتها – مقترحات طالبة الدكتوراه! ــ فيذكر الوحدة العضوية، والجملة بديلاً للبيت والكثافة وتجنب الاستطراد. وفي مناسبة أخرى يذكر (الإيجاز والتوتر والجُزاف) بديلاً للمجانية والكثافة. وللجنابي مجهود هائل يهمنا الإشارة إليه، عبر ما قدمه من نماذج نصيّة وتحليلات معمقة وعروض تاريخية لقصيدة النثر العالمية والعربية. وها هو بإحاطته النصية والتاريخية يتساءل: (هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟). وبهذا يستبق الشاعر تشخيص مأزق التسمية الذي تنبه له من بعد شعراء قصيدة النثر أنفسهم، كما فعل منظّروها الفرنسيون إذ صرحوا بقلقهم من المصطلح، وهم في مهاد ظهورها شعرياً.

 

ويعلن الجنابي في كتابة لاحقة أن واضع مصطلح (قصيدة النثر) عربياً هو شوقي أبي شقرا؛ لأنه وصف قصيدته (رب البيت الصغير) المنشورة في جريدة «النهار» البيروتية في 28 نيسان (أبريل) 1959، بأنها (قصيدة نثر)، وأثبت الوصف مع القصيدة المنشورة. والجنابي هنا لا يلتفت إلى أن شوقي أبي شقرا لم يشفع التسمية بأي مبرر أو توسيع، ولم تطّرد لديه تلك التسمية.

 

المصدر: القدس العربي


كلمات مفتاحية:


تعليقات
square-white المزيد في ثقافة وفنون