آخر الأخبار

«رصاصة المكاروف» للعُماني علي العايل الكثيري… محاولة أخيرة للحفاظ على ذاكرة حيّة

المهرية نت - القدس العربي
الثلاثاء, 16 يناير, 2024 - 12:58 صباحاً

بداية يُهدي المؤلف العُماني علي العايل الكثيري روايته «رصاصة المكاروف.. وما تبقى من فصول الحكاية» إلى الأب وزملاء المدرسة ورفاق المُعتقل، وهم المحاور الأساسية التي دارت حولها الرواية بالفعل، لذا ذيّلها بعد عنونتها بأنها (رواية سيريّة). ويوضح المؤلف في مقدمته للرواية لماذا انتهج الكتابة السيريّة، وذلك.. لتوثيق تجربته الشخصية، التي لا تقتصر على الخاص، بل تمتد إلى معايشة فترات ومراحل زمنية مهمة في تاريخ منطقته، وهو بالتالي ـ حسب وجهة نظرة ـ أمر أقرب إلى التوثيق التاريخي، ولكن بما أن حالة التوثيق تلك تعتمد على الذاكرة ـ وللذاكرة ألاعيبها ـ فالأمر يقترب أكثر من كونه عملاً فنياً في الأساس.

 

ويُقسّم الكاتب مراحل هذه السيرة بداية من الطفولة في ستينيات القرن الفائت، حيث قسوة الحياة في منطقة (جبال ظفار).. «ولم تكن حال أجدادي ووالدتي أفضل مما كانت عليه حال سكان جبال ظفار، نتيجة لما يعيشه السكان من حرمان وفقر وبؤس وجهل، وكأنهم في العصور البدائية الحجرية».

 

ثم فترة السبعينيات، حيث مرحلة التعليم والانفتاح على الثقافة والوعي بما يحدث حوله.. «صقلتني تلك المرحلة رغم صغر سني، وصار لديّ فكر أمضي عليه وأؤمن به، حتى عودتي للوطن الأم عام 1980»، وفي الثمانينيات كان العمل الثوري ودخول المعتقل لمدة خمس سنوات، ثم تأتي فترة التسعينيات والألفية الجديدة لتصبح فترة، أو مرحلة المضايقات الأمنية، وصولاً إلى حالة من الاستقرار النسبي وكتابة الشعر، وصولاً إلى ما سماه «مرحلة ما بعد قابوس».

 

يُذكر أن الكثيري أصدر ديواني شعر هما «جواز عبور» 2006 و»ذاكرة الرماد» 2021، وحصل الأخير على جائزة أفضل إصدار شعري في عُمان لعام 2022. وصدرت الرواية عن دار الآن ناشرون وموزعون في الأردن 2023.

 

السنوات الأولى

 

لا يفصل الكثيري ما ألمّ به من مرض أو عاهة ـ فقدان بصر العين اليُمنى ـ عن عاهة اجتماعية أكبر، وسلطة سياسية قاهرة في الوقت نفسه، هي سبب كل الأمراض والموبقات، رغم الإيمان بحتمية الأحداث وقدريتها.. «كنتُ رضيعاً حين أصبت بالمرض في عيني، ولم أكمل الأربعين يوماً بعد، فقدتُ على إثر ذلك بصر عيني اليُمنى إلى الأبد… لا تكاد تخلو أسرة في جبال ظفار من معاق، إما أعمى، وإما أعور عين، أو أحول، أو أعرج، أو قعيد ومشلول، نتيجة ما خلفه النظام البائد وحرمانه لهذا الشعب من أبسط حقوق العيش بسلام وكرامة».

 

الشهيد

 

ومن الراوي الذي أصبح شهيد الظرف السياسي والاجتماعي ولو مجازاً، نظراً لعاهة طفولية لا حيلة له فيها، إلى تجسيد معنى الاستشهاد الإرادي، والمتمثل في موقف (عمه) من النضال ضد السلطة ـ وقت سعيد بن تيمور ـ والمنُنتمي إلى (جبهة تحرير ظفار). وهنا يتساءل الراوي/الطفل عن معنى الاستشهاد، وما الذي يمكن أن تزهق الروح في سبيله؟ اللاوعي الطفولي هذا هو ما كان بدوره يرسم تفاصيل حياة الرواي في ما بعد ـ بقصد أو دون قصد ـ ليستكمل المسيرة بشكل أو بآخر في مرحلتي الشباب والكهولة.

 

مدارس الثورة

 

وبعد مسيرة عشرة أيام على الأقدام، يصل الراوي/الطفل ـ لم يتجاوز العاشرة ـ منطقة حوف اليمنية، مقر المدرسة، وهناك سوف يبدأ تعليمه في ما أطلق عليه (مدارس الثورة) مع ملاحظة وعورة الرحلة، وكذا تحالف قابوس بن سعيد مع المحتل الإنكليزي للقضاء على الثورة، ولم يتورع عن إلقاء النابالم على الناس والماشية وحرق الأحياء في منازلهم. وهو ما تم بالفعل لمقر المدرسة نفسها، التي تغيّر مكانها نظراً لعمليات القصف المستمرة لها وللمستشفى الوحيد، وكذا بعض المناطق والبنايات التي كانت تخص المدنيين.

 

فقدان الوعي

 

ويربط الراوي بين تراجع المد الثوري وحالة الإغماء المتكررة التي أصبحت تنتابه «مما اضطرني في حدود عام 1975 إلى قطع الدراسة والسفر إلى عدن للعلاج من نوبات فقدان الوعي هذه، وهناك عرفنا أن هذا المرض يُسمى الصرع. وفي فترة ما بعد التراجع العسكري للعمل المسلح، بعد الحملة العسكرية الإيرانية البريطانية والجيوش المرتزقة التي تكالبت بكل قوتها الجوية والبرية على المواقع العسكرية للثورة، والمناطق الآهلة بالسكان في المنطقة الغربية التي على إثرها تراجعت العمليات المسلحة، وانسحب ما تبقى من الثوار وقياداتهم إلى الحدود اليمنية القريبة من عُمان، بينما عاد بعضهم إلى صفوف النظام في السلطنة». ولكن.. وإن كان الراوي قد شُفيّ من الصرع في النهاية، وقد التصق به لفترة وصفه بـ(المجنون)، إلا أن المؤمرات والانقلابات ضد الثورة لم تنته.

 

رصاصة المكاروف

 

يعود الراوي إلى وطنه في سن العشرين، بعد رحلات طويلة أطلق عليها (مسلسل الغربة) وبمجرد وصوله مسقط تم التحقيق معه، وقد نسي رصاصة (المكاروف) ـ مسدس روسي عيار 9 مم ـ في حقيبته، التي تم إبطالها بالمطرقة.. «لم أعرف أن الرصاصة لم تزل في الحقيبة التي سافرت فيها إلى أكثر من دولة، فلم تُكتشف إلا في مسقط، بعد أن أفرغت الحقيبة من كل شيء، ومن ثم تم ضربها بالمطرقة على قاعدتها، وهو ما تسبب في خروج الرصاصة وسقوطها بقوة على أرض بلاط المطار».

 

الحصار الأمني

 

وبعد الاعتقال لخمس سنوات بعد محاكمة صورية، بدأ الحصار الأمني والتضييق على الراوي، فلا يستطيع الالتحاق بعمل مناسب ـ بعض الوقت في شركة أعلاف، وكذا أحد البنوك وقد ضرب رئيسه في العمل ـ وأربع سنوات دون عمل، ليتصل به الجهاز الأمني الذي رفض الراوي العمل معه بعد انتهاء فترة اعتقاله.. «أبلغتهم أن الطريقة التي يتعاملون فيها مع الناس هي طريقة بدائية عفا عليها الزمن، وأن العالم تغير، والنظريات السياسية انتهت، وأن الجميع الآن صار يبحث عن مصدر رزق ليعيش منه، وأن التوجه الدولي صار اقتصادياً، ولم يعد للسياسة دور إلا في ما يتوافق مع المال والأعمال ومصالح الدول والأفراد الاقتصادية على السواء».

 

ما بين الثورة والربيع العربي

 

وفي الأخير نود عقد مقارنة بين رأي الراوي في كل من ثورة ظفار وأحداث الربيع العربي، خاصة وقد شارك وانخرط في الأولى، ولم يأبه لما حدث في ما سُمّي بالربيع العربي، بل يكاد يرفضه.

 

يبرر الراوي بأن ثورة ظفار كانت وطنية ووقفت أمام أي تدخل لقوى أجنبية في المنطقة، وحتى بعدما خفت صوتها، وأعلنت سلطنة عُمان انتهاء هذه الأحداث عام 1975، وربما حاول العديد من الدول المساعدة بعد ذلك، إلا أن الراوي يرفض تبديل الاحتلال بآخر، وعلى الأخص الوجود السوفييتي في المنطقة، بديلاً للاحتلال البريطاني، رغم الفكر الاشتراكي الذي تبناه الثوار وتعاملوا على أساسه، بل تم تدريبهم وتربيتهم الفكرية والعقلية من خلال هذا النموذج، ولكن ماذا عن أحداث الربيع العربي؟ يجد الراوي أن الأمر ملفق أكثر منه حالة من حالات الإصلاح، وأن التظاهر والتجمهر والإضرار بثوابت البلاد لم يكن في صالح أحد. ربما لم يبتعد الراوي عن كثيرين كان لهم الموقف نفسه، ربما للطبيعة المختلفة لثورات الربيع العربي، وكذلك مآلها السريع الذي لم يكن في صالحها، وهي التي لم تكتمل بعد، ولم تتضح نتائجها؟ ربما نظرة الكبار إلى أجيال لم تعد تعتنق الأيديولوجيا في نضالها ضد السلطة؟ كلها أسئلة جديرة بالمناقشة في عمل يتميز بالكثير من الصدق الفني.

 


كلمات مفتاحية:


تعليقات
square-white المزيد في ثقافة وفنون