آخر الأخبار
المهرية لغة متجذرة من المشافهة إلى الكيبورد
مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث في اليمن (اندبندنت عربية)
الثلاثاء, 28 يوليو, 2020 - 01:27 صباحاً
في أقصى شرق اليمن تقع محافظة المهرة التي يتحدث ساكنوها اللغة المهرية التي تعود جذورها إلى آلاف السنين، إضافة إلى اللغة العربية، وتوارثت الأجيال هذه اللغة من آبائهم وأجدادهم، وتعتبر لغة عربية بمنظور وأسلوب آخر، لأنها تشتمل على جميع الحروف العربية الأبجدية، إضافة إلى ثلاثة حروف أخرى لا توجد في العربية.
والمهرية لغة قبيلة المهرة في شرقي اليمن وعمان والكويت والإمارات والسعودية، وهي أحد أقسام اللغات العربية الجنوبية الشرقية الحديثة، ويعتبرها الباحثون واللغويون لغة سامية بدائية، والأصفى لغويّاً بين اللغات السامية بسبب انعزالها.
لغة محكية
يوضح مدير مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث عامر بلحاف، أن المهرية لغة محكية في جنوب الجزيرة العربية، تناولها بعض الدارسين منذ سنوات خلت، فمنهم من رأى فيها بقية من بقايا اللغات العربية الجنوبية (الحمّيرية)، وقرّبها بعضهم من العربية الفصحى، وشطّ بعضهم حين جعلها أقرب إلى العبرية أو العجزية (الحبشية)، ووضع عددٌ من الباحثين الذين عنوا بالمهرية ولهجاتها، خصوصاً المستشرقين منهم، افتراضات، أصاب بعضها كبـد الحقيقة، وجانب أكثرها الحقيقة والصواب والمنطق.
ويستند بلحاف، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إلى بعض الدراسات التي كشفت أن عمر اللغة المهرية يتجاوز 3000 سنة، وأخرى ترى أن عمرها تجاوز 5000 سنة، منطلقين من مبادئ علم الإنسان الأنثروبولوجيا، مضيفاً أنها لسان أهل المهرة المنتمين نسباً إلى مهرة بن حيدان بن عمرو بن لحاف بن قضاعة، ويمتد النسب بعد ذلك إلى مالك بن حمّير، وأن بلادهم المهرة هي اليوم محافظة من محافظات اليمن وبوابتها الشرقية، إذ تحدّها سلطنة عُمان شرقاً، والسعودية شمالاً، ومحافظة حضرموت غرباً، ويحدّها من الجنوب بحر العرب، وتتموضع هذه البلاد في رقعة جغرافية كبيرة تتجاوز 93000 كم، ما جعل تكوينها الجيولوجي يتنوّع بين أراضٍ ساحلية، وسهلية، وجبلية، وفي الداخل توجد الوديان السحيقة والصحاري الممتدة.
ويتابع، "في هذا الامتداد الجغرافي والتنوع الجيولوجي تكلم الناس المهرية منذ زمن قديم، وتنوّعت ألسنتهم فيها حسب الجغرافيا. والحق أنّ المهرية لم تنحصر في تلك الحدود التي رُسمتْ، بل تعدتها إلى بلدان مجاورة مثل سلطنة عُمان، إذ تتكلمها بعض قبائل الإقليم الجنوبي (محافظة ظفار) المنحدرة من أصول مهرية، كما تتحدّث بها بعض قبائل السعودية في الربع الخالي والمنطقة الشرقية المنحدرة من الأصل نفسه، وتتحدث بها أيضاً قبائل المهرة في الإمارات".
لغة أم لهجة؟
وعن سؤال "اندبندنت عربية" هل المهرية لغة أم لهجة؟ أجاب قائلاً "المهرية لغة، وليست لهجة، لأنها بعدت عن أصولها الأولى، ما جعلها غريبة عن أخواتها، عسرة الفهم على أبناء اللهجات الأخرى في اللغة نفسها، كما أنّ الاختلاف فيها لم يعد في صفات لغوية ضمن بيئة خاصة، ولم يعد عادات كلامية مستقلة، بل تعداه إلى عناصر لغوية متنوّعة، يضرب بعضها بعضاً في حقب زمنية موغلة في القدم، وهذه المبادئ التي ذُكرت يعتمد عليها علم اللغة اليوم في التمييز بين اللغة واللهجة".
ويسهب بالحاف مفصِّلاً ذلك قائلاً "لقد أثبتّ أن المهرية لغة وليست لهجة، فهي تحتفظ بعناصر لغوية متنوّعة، ما يعني أن الصفات اللغوية فيها ليست واحدة، والعادات الكلامية فيها ليست واحدة، بالتالي فهي لغة لا لهجة، ثم اصطلاح الباحثين في الألسن التي وجدت في جنوب جزيرة العرب، فمنهم من اصطلح عليها بأنها من اللهجات العربية الجنوبية، ومنهم من قال أنها من اللغات العربية الجنوبية، وقد أضحى الاصطلاح الأخير أقرب إلى الإقناع، خصوصاً بعد أن أثبتت النقوش وجود بعض الفروق بين تلك الألسن، كما ثبت لدينا أن المهرية وجدت منذ عصور قديمة، وقد أثّرت في غيرها وتأثرت، بالمفهوم العلمي اللغوي الحديث يجعلها لغة، إذ غدت بيئة أوسع وأشمل وأكثر اختلافاً مما جاورها من البيئات، وعندما أرى أن المهرية لغة، لا أفصلها بالطبع عن محيطها العربي، إذ هي عربية لا يمكن أن ينكر ذلك منكر أو يزيّف ذلك مزيّف".
تقارب مع العربية الفصحى
ويلفت إلى تقارب المهرية المعاصرة مع العربية الفصحى تقارباً كبيراً، فـ"معظم الأفعال فيها متوافق مع الفصحى لفظاً ودلالة، ومعظم الأسماء فيها متوافق أيضاً، مثل ألفاظ الأسرة، وأعضاء الجسم، والألوان، وألفاظ العدد والكثير والكثير".
وأضاف، "كما تتطابق المهرية مع العربية الفصحى في الصيغ الفعلية، وتقسيمات الفعل (ماضٍ، ومضارع، وأمر)، وأبنية المجهول والتعدية والاستعمال، والظواهر اللغوية اللهجية والإمالة والتخفيف ومد الحركات، والأنظمة اللغوية في تقسيمات الضمائر (متكلم، ومخاطب، وغائب)، والنسبة والعدد، كما تحتفظ المهرية المعاصرة اليوم بعناصر لغويةٍ عربيةٍ جنوبية عدة".
الكيبورد المهري
وعن حاضر اللغة المهرية يؤكد اعتزاز أهل المهرة بلغتهم اعتزازاً كبيراً، وهم يتناقلونها شفاهة أباً عن جد، فهي تحظى اليوم باهتمام كبير على الصعيدين الشعبي والرسمي في زمن كثرت فيه التحديات، معتبراً أن من أبرز التحديات التي تواجه المهرية تحديان: الأول عدم وجود نظام كتابي لها، والثاني عدم وجود معجم يحفظ ألفاظها، متطرقاً إلى الجهود الشعبية التي تعمل على الحفاظ على اللغة المهرية، ومنها قيام مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث في صيف 2019 باقتراح نظام كتابي يعتمد الرموز العربية مع تمييز الحروف الزائدة في المهرية برموز خاصة، وقد حُوّل هذا الاقتراح إلى برنامج يعرف بـ(الكيبورد المهري)، ويُستخدم حاليّاً في الحواسيب والجوالات، إضافة إلى تنظيم جولات ميدانية للمهتمين بالثقافة واللغة المهرية لمديريات المحافظة لتوثيق مفرداتها، تمهيداً لوضع المعجم المهري الشامل.
امتداد جغرافي
ويرى الباحث والمهتم بالتراث واللغة المهرية سالم لحيمر القميري، أن "المهرية" ما زالت تشغل الباحثين والدارسين حتى وقتنا الحاضر.
وينوّه، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إلى أن المهرية كلغة لم تنحصر في تلك الحدود التي رسمت لها، بل تعدّتها إلى دول مجاورة، مثل سلطنة عمان، إذ تتكلم بها قبائل الإقليم الجنوبي من محافظة ظفار المنحدرة من أصول مهرية، كما تتحدّث بها قبائل السعودية في الربع الخالي والمنطقة الشرقية، وفي هذا الامتداد الجغرافي والتنوع الجيولوجي تكلم الناس المهرية منذ زمن قديم، وتنوّعت ألسنتهم حسب الجغرافيا. ويكشف عن ارتباط اللغة المهرية بلهجات محلية منذ القدم، مثل الحرسوسية والبطرحية والهوبيوت والشحرية والسقطرية.
وفقاً للقميري فإن فرضية امتداد وبقاء اللغة المهرية من السامية إلى قوم عاد إلى السبئيين، افتراض بحاجة إلى الدراسة والبحث، لا سيما علاقتها ببعض الكتابات القديمة، مثل الخط المسند والخط المسماري، معرباً عن أمل المهريين في معرفة تحديد لسان هذه اللغة، متى بدأت وأين توقفت؟ وما الأقوام التي تتحدّث بها؟ وما أبجدية وخط هذه اللغات؟
جهود المستشرقين
رافق القميري في سنوات مضت زيارات قام بها عدد من المستشرقين والباحثين للمهرة، لكشف أسرار اللغة المهرية. وقال "توجد جهود بُذلت من بعثات أثرية متعددة، فقد أتت المستشرقة الفرنسية ماري كلود سيمون بين عامي 1978 و1983، وكنت مرافقاً لها في رحلاتها، اكتشفت فيها لهجة (الهوبيوت) التي تعدُّ من اللهجات المنبثقة من المهرية، في كلماتها وألفاظها وتصاريفها، كما كتب المستشرق آت جونسون دراسة اللغة المهرية والسقطرية، وأعدّ لها قواميس في الفترة بين عامي 1977 و1987، ويعتبر ذلك عملاً موسّعاً، لما بذله من جهد يشكر عليه، وقدم عملاً علمياً كبيراً، كما قام المستشرق الروسي ناومكين بدراسة ونشر اللغة المهرية، 1978 و1993، غير أن رحلات المستشرقين كانت أقدم بذلك بكثير، فقد وصل مستشرق نمساوي (حيل) 1508، وكتب أحرف لغتنا وصور ورسم من تراث المهرة الكثير، وعند عودته إلى النمسا افتتح مُتحفاً خاصاً بالمهرة".
ويخلص إلى القول "إن مساهمة المهره ثقافيّاً وتاريخيّاً في التاريخ اليمني والعربي كبيرة، بحفاظها على لغتها الأصيلة منذ مئات السنين، إضافة إلى الموروث الثقافي والإنساني الزاخر، المتمثل في العادات والتقاليد، التي تميز بها المهرة عن غيرها من أقاليم اليمن"، مطالباً الحكومة اليمنية، لا سيما وزارة الثقافة، والمنظمات الدولية ذات الصلة، بالاهتمام بهذا الموروث الحضاري.
خارج الحدود
في السياق ذاته، قال الباحث أحمد التميمي، إن اللغة المهرية لها حضور بارز في الشارع السعودي، ويوجد نحو 20 ألفاً من أبناء السعودية يتحدثونها، ينحدر أغلبهم من قبيلة المهرة اليمنية المنتشرة في السعودية، لا سيما في جزئها الجنوبي من صحراء الربع الخالي، حيث يسكن أغلبهم محافظتي شرورة والخرخير.
وأوضح التميمي، في بحث له عن اللغة المهرية، اطلعت عليه "اندبندنت عربية"، أن علاقة المهرية بنظيرتها الحمّيرية (لغة مملكة حمّير القديمة في اليمن) مثل علاقة الأم بابنتها، وهذا ما جرى اكتشافه خلال إجراء بحث سابق، ورصد النقوش الحميرية في المناطق التي تتحدّث المهرية.