آخر الأخبار

قصص وحكايات في الذاكرة عن عالم الكتابة باليمن

صورة تعبيرية

صورة تعبيرية

المهرية نت - خاص_ أحمد سالم العامري
الخميس, 04 يونيو, 2020 - 10:33 صباحاً

أكتب لا أدري ماهي الكتابة ولا جنس الكتابة، قصة أم شعراً أم نثرا لا أتقن فن تطويع اللغة، بل قد تهرب مني الحروف تنطقها لساني وترفض أصابعي  الإمساك  بها... ثقيلة هي حروفي  تغوص في الأعماق لتجد كل شيء فتخرج بلا شيء فرحة ببعض الشيء.

 

 مهابة لغتي  حتى أمهر القراء لا يدركون كنهها  وخطي هو الآخر لغز محير لعل تدربي الأول عليه جاء من لعبة المتاهة التي كنت أمارسها بشكل يومي مع صبية الحي والصبايا، ومن يدري لربما الخطاطون مع تطور العلم يكتشفون إلى جانب الخط الكوفي والرقعي  والنسخي ...خط المتاهة ... حينها سأكسب حق الاختراع الفريد.

 

   وخروجا من المقدمات، والتدبياجات، والزخرفة سأحكي لكم حكايتي مع الكتابة، بدءا بأبي..

 

جلس أبي ذات مساء مجبراً على كتابة رسالة لشقيقه في دول الخليج؛ يخبره بسوء الحال وانتشار القحط وهلاك المواشي، ونضوب الأودية، وجفاف الضروع..  أبي ذلكم الرجل الذي أكله الدهر وشربه وأخذ من سمعه وبصره، فأصبح ثقيل السمع عسير الحال، لا يمتلك نظارة ـ وأنى له ـ ليرى حسن حروفه وخلوها من التقصير، اتجه والدي إلى صديقه عيسى الذي تبعد قريته ثلاثين كم عن قريتنا المحروسة درعها مشياً على قدميه الحافيين .

 

كان عيسى هو من يكتب رسائل والدي، لكن هذه المرة قرر أن يكتب بنفسه لحاجة في نفسه ...كان يرى أنه إذا كتب بنفسه؛ لربما كان وقع كلماته أشد تأثيرا في أخيه المغترب منذ ثلاثين سنة ..رحب عيسى بصديقه وبادره والدي بطلبه، ففتح صناديقه واستخرج منها قلما أزرقا جافا، وورقة مهترئة الخطوط متغيرة اللون، ترفق بها في مسكته مبسوطة كأنما يمسك جوهرة زجاجية يحذر انكسارها، واشترط عيسى على صديقه استرجاع القلم صحيحا سليما، وفي أقرب وقت ممكن محاججا أنه قد يأتي إليه شخصا آخر ليكتب له، ومزخرفا قوله له أن صداقتهما أعلى شأنا من أن يتقاضيا في قلم لكنه العدم، ولو وجد معي آخر لوهبتك هذه القلم هدية، كما وهبتك الورقة ...هز أبي رأسه مبديا القبول، وأغمض عينيه ووضع كفه اليمني في صدره وتحديدا في قلبه مشيرا بقبول الشرط وملتزما بالوفاء بالعهد.

 

لم يدخل أبي مدرسة ولم يتعلم الخط لكنه كان يختلف أحيانا إلى صاحب المعلامة الشيخ (حسن) وقت فراغه ليتسليا بأولاد المعلامة وهم يتدربون على قراءة الألواح القرآنية وكتابتها، وما يثير حضوره أسلوب جاره حسن الخشن. ينهر الطلاب بشدة ويخوفهم بقساوة ويضربهم تارة ويسخر منهم أخرى، كان والدي بالنسبة لهم رسول الرحمة، وبالنسبة لنفسه طالب خفي يمارس التعلم خلسة، لكن جهله وحياؤه حرمه كما حرم أبا طالب الشفاعة.

وحين يعود أبي إلى بيته يتدرب على الكتابة بالفحم فوق الجلود والأحجار؛ وقبلها علمه والده قراءة القرآن دون الكتابة؛ فكان يجهد نفسه بنقل قصار السور.

 

ما أصعب الكتابة وستظل صعبة عسيرة في شتى الأوقات والأزمان على فئات الناس جميعا ترى طالبا في شتى مراحل التعليم يتخوف الكتابة والتعبير عما في خلجات نفسه، وكذا الشاعر والفنان والشيخ ولو طلبت منهم الكلام في قضية ما، يتحفك بسيل عرمرم من الكلام يبدو متناسقا بليغا مؤثرا أشد التأثير؛ لكن لو طلب منه كتابتها لحار في مفرداتها وأسلوب كتابتها وصوابها من ناحية النحو والتركيب، ولو  فعل لأجهد نفسه.

 

أول كلمة كتبها والدي في رسالته "أخي" وكانت أصعب ما واجه من الكلمات ثقيلة الحروف بثقل الدلالة كأنما ينتزعها انتزاعا من قلبه أخي( أ . خ. ي) هكذا كتابها أبي مقطعة ...وحين تذكر جاره وهو يعلم أحد طلابه كتابة رأس الهمزة "ء" حاول تقليده فكتبها برسم يشبه اللغة اللاتينية مقلوبة ـ ليس مهماـ المهم هل يفهمها شقيقه وهل تقع في قلبه كما خرجت من قلب أبي من يدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.

 

أوشكت الشمس تقترب من المغيب ومازالت المعركة بين والدي والكتابة قائمة، يكتب سطرا كلاميا مكررا حتى يحفظه وبعدها يقوم بخطه لذلك لا يمحو ولا يستبدل لكيلا يسفد الورقة الوحيدة.

 

وهو على هذه الحال أقبلت عليه، وحين رآني تغير لونه وتمنى في قلبه لو كنت في ضيافة أحد الأقارب في تلك الليلة أقبل ولده المدلل مضيفا معركة أخرى فوق معركته الأساسية...فاتجهت إليه مباشرة أريد أن أكتب يا أبي، وليتني عرفت ما أكتب وكيف أكتب ولمن يكتب لكني أصررت بكل ما أتملك من حق الدلال، وحاول مراضاتي مرارا فرفضت.. أعطاني القلم ورسم على يدي جملا...قال اكتب على يدك فرفضت إلا في الورقة الوحيدة، وفوراً ما أن رفض الوالد السماح لي بالكتابة على ورقته الوحيدة؛ مارست حقي وشفيعي فصرخت وانتحبت  قاصدا إبلاغ نحيبي الزائف إلى أمي، فهرعت فعلا لنجدتي تاركة وراءها عملها الشاق وهو خض اللبن الذي باشرته من  الواحدة ظهراً إلى حين صراخاتي وما كانت لتتدخل لولا أنها رأت اختلاف طبيعة أبي علي، فلم تعهد كهذه الحدة منه وتوقعت أن تتطور الأمور إلى الضرب،  قامت بدور المصالحة طالبة أن أكتفي بمرة واحدة، استغرب والدي طلبها وسألها كيف نرسل رسالتنا بورقة فيها لخبطات ولدك؟ فأجابت بعفوية أنها مرة واحدة يكتب جزء وتزيد فوق كتابته، انتفخت في مكاني وكأني موسوعة أو عالم من علماء اللغة.

 

في ذكرياتي اللاحقة شكلت هذه الرسالة لوالدي امتحانا عسيرا وتقلبا في طبعه تجاهي، فكان يتلطف بي فيما بعد كثيرا أثناء مراجعتي وينصحني بأن لا أجهد نفسي.. بعكس والدتي التي على جهلها فقد كانت تشتد علي تأمرني بالاهتمام وترك اللعب.

لم تستشعر والدتي أهمية الرسالة وكأنها نطقت بتصرف عمي الذي لا يزيد في ردوده السابقة والمتأخرة كثيرا على عبارات بسيطة وبعض الدعوات المستهلكة ...عمي لم يكن يتوقع أن الله يبدله بشقاوته السابقة بعيش رغيد وظيفة محترمة ومرتب يسد حاجته واستطاع امتلاك سيارة جديدة، وهو من كانت في عجزه نتوءات وجروح أشبه بالدمامل جرا ملازمته ظهر حماره في روحاته وغدواته وكذا شقة مجهزة بأفخر الأثاث سلمت له من الحكومة وما أن تطوف بخياله ذكرى حياته السابقة يكاد يتقيأ ويتمنى لو لم يتذكر تلك الحياة بل أنه ما يكاد ليقرأ رسائل أبي أو يرد عليها.

 

حين كبرت وقارنت حياة أبي بحياة عمي أدركت سبب تأخر رده كثيرا ورجوت لو ذكره والدي  بحياته العسيرة ، وعطفه عليه في صغره وحفظه لأرث الأهل، من أرض وزرع وبقاء اسمهما في القبيلة، وهو من اتفق معه أثنا سفره على ذلك وزوده بما يملك من نقود، فلماذا أصبحت هذه الذاكرة تثير تقيؤ عمي وتأتيه بالدوار .. كنت أود لو يضمن والدي رسالته ليذكر عمي حياته الماضية قصة العجوز التي اغتربت بضعة شهور إلى دوال الخليج فتنكرت لحياتها الجبلية وأنكرت وجباتها المفضلة، وحين عادت كانت تمر في طريقها بحفريات في الأرض فتسألت بلغة مستهجنة ساخرة ما هذه المحفوريه..رد عليها أحد اتباعها اسألي يديك هذا محفورية يديك، هي لم تكن ناسية أصلا لكنها أرادت لو تبدل عيشها إلى ما عاشته أثناء زيارتها تلك.

 

   سابق عهدها تغتدي باكرا تسابق الطير إلى أماكن تواجد (الحيدس) وهي نبتة صغيرة طعمها حامض قليلا، لكنها تشفي الجوع، تقوم باستخراج جذعها الصغير المغنرس في الأرض على بعد سنتمتر واحد فقط، لكنه لا يتوافر في أماكن متقاربة، فتستمر في السعي تحفر هنا وهناك لتعود مجهدة قبيل الظهر،  بما يسد جوعها وولدها وزوجها فتطبخ الحيدس ويشرب مرقها وتمص جذوره ولا تؤكل إلا عند الجوع الشديد .. ما أن تذوقت شطارة  حلاوة الرز البرياني ولذة اللحم المندي والمشوي حتى نسيت أو تناست محفورية الحيدس تلك وطعمه وحق لها.

 

كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى... فهل يا ترى عمي استغنى ونسي سعيه الماضي أم أنه تناسى حتى لا يوقظ  في الذاكرة أحاسيس تحاول أن تنام ولا ينكأ في القلب جراحا ثخينة أوشكت على الاندمال...من هنا جاءت حاجة أبي للكتابة وبنفسه حتى يحاول استرجاع شيئا من الماضي فيحنن قلب أخيه القاسي، حين يحدثني أبي عن أفضاله تجاه عمي لا أكاد أصدق لولا تقتي العظمية به، أفعال جليلة من الأخ تجاه أخيه تستعصي النسيان.

 

 ذات مرة مرض عمي مرضا شديد في المنطقة التي ضعنا إليها فرار من القحط، فسكنا في أعلى قمة حيث لا طبيب ولا دواء ولا سيارة فحمله والدي في ليلة ظلماء والآخر ينازع روحه كان الوقت قاسيا لكنها الضرورة فقد ترك زوجته وحدها تصارع الظلام  وترك مواشيه التي يحرسها كل ليلة عرضة للسرقة المنتشرة المتفشية بسبب الجوع المفرط. حمله على ظهره في الطريق الوعر وقد تعثر مرارا بالحجارة بأقدامه الحافية، لكنه يأبى السقوط.  تترك الحجارة والاشجار أثرها في جسده وثوبه ولا يهتم سوى بأخيه الوحيد لاهجا بالدعوات إلى ربه كي ينقد روحه. وأخيرا وصل إلى الطبيب بعد مسيرة بطولية دامت ثلاث ساعات طوال مع  الطريق، وترك المريض مع الطبيب بحسب طلبه ليمارس شعوذاته بحرية ودون مضايقة أحد، فأخرج حفنه من عود اللبان ووضعها في مجمرته ولبس أسماله وبدء يزمجر ويرعد ويزبد محركاً شفتيه بسرعة عالية يصدر أصواتاً غريبة فسأل لعابه غزيراً بزبد أبيض كثيف، كأنه فحل هائج.

 

كثيرة هي مواقف أبي البطولية تجاه أخية شخصيا ومع القرية عامة ما منهم من أحد إلا ويقر بفضله وكرمه وحكمته، وهي أكثر من أن يحددها وصفي القاصر وأبلج من أن ينكرها عمي الجاحد، مواقف بطولية لم أقرأها في كتاب أو مجلة ولم أشاهدها في قناه، كان يحكيها لي عامدا لا لإبراز فضله، ولا لإظهار قلة مكافأته؛ لكن كأنه يقول لي بلغته الصامتة هكذا ينبغي أن تكون تجاه الأخرين.

 

ودعنا الوالد في اليوم التالي يحمل رسالته متجها إلى ميناء المدينة البحري وصحبته دعواتنا أن يظفر بمسافر يوصل رسالته إلى أخيه، وفور وصوله في اليوم التالي استطعم الخبر فأخبر أن السفينة ستسافر يوم الجمعة المقبلة وأن هناك شخص في الاتجاه الغربي من المدينة من المحتمل أن يسافر فيها، فاتجه إليه  وبعد عناء استطاع اقناعه بأخذ رسالته وأنه يعتمد على الله أولا ثم على هذه الرسالة في انقاذه ورق له الرجل وأخذ الرسالة. كانت هناك رقابة من الحكومات تشددها على الصادرات والواردات بشكل عام وعلى الرسائل بشكل خاص خوفا من التطرف وغرس الأفكار الدينية الرجعية، وهو الذي تطور مؤخر حتى سمي بالإرهاب.

 

غادر الشيخ عادوف مع السفينة في رحلة شاقة قاربت العشرين يوما عانى خلالها التعب والإرهاق والمرض والقلق نتيجة أعطال السفينة المتكررة، كان الشيخ يقتني لحية طويلة، وهو رجل عالي الأخلاق معروف لدى الجميع، لا يتعب من فعل الخير، وهذا ما جعله يلازم العمل مع البحارة في زخ المياه من جوف السفينة فاحبوه وأكرموه.

 

عند وصول السفينة الميناء برز رجال الأمن يفتشون الأمتعة والرسائل، تخصص أحدهم بالشيخ فأطال تفتيشه وكأنه يفليه شعرة شعره، كانت رسالة والدي أقوى الأدلة على خطورة الشيخ، تخلص بقية رفاق الشيخ وذهبوا إلى منازلهم فكانوا ينظرون إلى الشيخ بعين العطف لكنهم لم يجرؤا على الكلام ولا على توديعه ولو بالتلويح باليد.

 

نقل الشيخ إلى المخفر واحتجز فيه لفترة ومن ثم استدعي للتحقيق، فقد قرأ رجال الأمن الرسالة بعناية مركزة فأعياهم خط أبي وحروفه المقطعة(أ. خ. ي)، وهنا مربط الفرس ومثار الشبه ما معنى هذه الحروف؟ لربما هي شفرات إلى خلية متطرفة، وربما، وربما، وربما... أسئلة كثيرة وجهت إليه فأنكر معرفته بشيء، وجاء أحد أقارب الشيخ فأنقده ، لكنه لم ينقد آمال أبي في الرسالة، وبعد أن تأكد رجال الأمن أنه أمي لا يجيد القراءة والكتابة، ولولا أن قريبه مقرب في عمله منهم؛ لما استطاع  ولتبت أن الشيخ (عادوف) عالم من علماء الشفرة.

 

 


كلمات مفتاحية: الكتابة قصص ثقافة ذكريات
تعليقات
square-white المزيد في ثقافة وفنون