آخر الأخبار

عزوبية مفروضة

الإثنين, 17 يونيو, 2024

سقطرى مصنع من مصانع اليمن المنتجة للرجولة فلا مكان فيها للمدللين والمترفين وأنصاف الرجال وقد تكون سقطرى البلد الفريد الذي لا تستطيع فيه تمييز الرجل الغني من المتوسط من الفقير يكادون يكونون على طبقة واحدة فشعر الغني كالفقير منكوشا غير مرتب وعلى ثيابه وجسده شيء من آثار الطين كما تملأ عيناه الأتربة والغبار كالفقير تماما ولون سيارته متغير، وزجاجها مشروخ واسطوباتها و مراياتها مكسورة. 


وبقدر ما يستفحل هذا التعفير والإجبار على التساوي أو يعده البعض مشكلة حقيقية فإنه أيضا ميزة يجعل الرجال يعتمدون على القسوة ومواجهة تقلب الظروف بأنفسهم يقبلون أي تغير يطرأ في شكلهم أو في معداتهم من غير أن يأنفوا من البيئة، أو ينفروا من الواقع أو يعاتبوا القدر. 


مظاهر صنع الرجال في سقطرى عديدة لا نستطيع أن نؤتيها حقها من الحديث لذلك سوف نركز في هذه السطور فقط على جانب واحد من جوانبها وهو العزوبية المفروضة:
ففي مثل هذه الأيام تفرض على كثير من الرجال القاطنين في سقطرى أن يعيشوا عزابا ولا نبالغ إذا قلنا إن نسبتهم قد تصل إلى قريبة من ثلث إجمالي تعداد السكان في سقطرى ما بقي من هذه النسبة إما مهاجرون إلى خارج سقطرى أو مستوطنون بشكل دائم في سقطرة بمعنى أنهم قد لا تطالهم العزوبية في تلك المدة. 


إن أغلب الرجال في سقطرى مهما كانت منزلتهم السياسية أو العلمية أو الاجتماعية أو الاقتصادية يعانون في مثل أيام الخريف أو موسم الرياح كما يسميها البعض من العزوبية المفروضة إذ تهاجر كثير من النساء المدينة إلى القرى والأرياف أو يسافرن إلى المحافظات الأخرى هربا من قسوة الرياح أوطلبا للراحة والاسترخاء أو هن في الأساس من محافظات أخرى يعدن إلى أهلهن في مثل هذا الموسم. 


شخصيات مرموقة وقامات عالية من الرجال في نواح عدة من أبناء سقطرى أو من خارجها تجدهم يتزاحمون على المطاعم والبوفيهات والمخابز يحرصون على ما يسكتون به قرقرة بطونهم أو يذهبون به جفاف حلوقهم تسأل الواحد منهم خير يا فلان أيش جابك للمطعم؟ أين العائلة؟ فيكاد يجيبك بأغنية: (وأني مارق مريت جنب أبواب البيت ما في حد في البيت)
وفي هذه الأيام يشتد الزحام على المطاعم والمخابز ويعلو ضجيجها ولا تستغرب أبدا إذا لم تبكر إلى المطاعم أو المخابز إذا لم تجد قرص خبز أو رغيف أو أي وجبة خفيفة 
وممن لا يحبون ارتياد المطاعم مثلي يتعرض لاختبار آخر من اختبارات مصنع الرجولة التي تفرضها سقطرى على الرجال عنوة فيضطر للطبخ والكنس والغسيل والقيام بكافة أعمال البيت 
وهو في الحقيقة اختبار قاس يجعلك تقدر المرأة ويعظم شأنها في عينك وتبجلها وتخف قسوة القاسين عليها ربما لبعض الوقت 
أعمال البيت مرهقة غاية الإرهاق وأظن لو خير الرجال بين القيام بأعمال البيت ومحاولة الطيران لاختاروا الطيران وربما كانوا أنجح من عباس بن فرناس أول مخترع للطيران
قيامك بأعمال البيت يعني تدريبك على الرجولة وتحمل الظروف الصعبة وهذا ليس معيبا في مقياس الرجولة وليس حراما أو مكروها بل هو أمر مندوب يؤجر عليه الرجل وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه- - وهو أشرف الرجال وأعلاهم مكانة- أنه استلم مهمة جمع الحطب في إحدى مهام الرجال التي لم ترافقهم فيها النساء وأيضا ذكر عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يشارك أهله في جميع شؤون البيت يَقُمُّ البيت وينظف ويعمل ويحلب الشاة، ويعلف الناضح، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله حتى يحين موعد العبادة. 

 عمل البيت مرهق مجهد يقضي على الوقت ويتعب البدن ويشغل الفكر والعجيب أن المرأة تقوم بذلك بكل سلاسة ويسر مع قيامها بأعمال أخرى إضافية فمن الممكن أن تقوم بالطبخ والكنس وتعليل الأطفال وتنويمهم في وقت واحد بينما لا يستطيع الرجل أن يطبخ حاجتين في وقت واحد إلا المدربين منهم فإذا انتهى من شيء ذهب فكره إلى الآخر وعلى ما يحين وقت نضج الطبيخ الثاني يكون الأول قد برد وهذا ما يجعل النساء عظيمات ينبغي أن ترفع لهن القبعة وتضرب لهن التحية. 


 وأجمل قول في حقهن ما قاله أحد الرجال في سقطرى عندما أوكلت إليه أعمال البيت لمدة وجيزة فاستنفد طاقاته ووقته وتفكيره بالاهتمام بالأطفال وغطعامهم ومراقبتهم ومراقبة البيت حتى انشغل عن صلاته ولم يستطع الوصول إلى مسجد قريب أمام بيته وعندما سأله الرجال عن غيابه قال:(رضي الله عن عاجه) أي رضي الله عن المرأة وسرد لهم حكايتهم. 


في تدرب الرجال على الطبخ والاهتمام بشؤون البيت تحصل العديد من المشاكل ولكن الرجال يتقبلونها -بكل عفوية- ويتعللون بمقولة:(طبيخ رجولي) مما يعني أنه من غير المستغرب إذا نقص الملح أو زاد أو زادت نسبة الزيت أو زاد لهيب الفلفل أو نقص، وربما ليست هناك مشكلة إذا لم يستو الطبيخ أو احترق أو قل كثير أو نقص كل ذلك لا يهم والشعار الدائم في طبخ الرجال (كل ولا تعترض) وتظهر عنجهية هذا الاعتراض لو كان  النقص صادرا من النساء
كان أحد الأجداد إذا دخل دارا فلم ير أي امرأة فيه لا يجلس ويردد مقولة:(ودر بلا سعفنوتي) والمعنى لا يتم أمر البيت إلا بالمرأة وقد كنى عن المرأة بسعفنوتي أي ذات الضفيرتين
 ولحكمة هذه العبارة وأهميتها ترددت في عموم سقطرى من دون أن يعرفوا قائلها
في قيام الرجال بالطبيخ تحصل العديد من الحماقات وهناك العديد من الحكايات أحدهم نسي النار تعمل ولولا أن الغاز نفذ لاحترق البيت ومن روتين النسيان عدم إغلاق قنينة الغاز أو عدم تغطية الطعام ونسيان الغسيل ورمي القمامة وغيره. 

ومن الحماقات التي قمت بها في تدريباتي المطبخية أني حاولت قلي الصيد في مرة من المرات ففكرت بطريقة إبداعية اقتصادية فقللت نسبة الزيت وأثناء الاحتراق أكلت النار كل الزيت ولم ينضج الصيد بعد فكان الاحتراق ينبعث والدخان يزداد اشتعالا من دخل آنية الطبخ 
    بادرت على الفور إلى قنينة الزيت وفتحت الغطاء وكدت أن أسكب الزيت في النار ولكن في هذه اللحظة برزت إلى سطح ذهني المقولة الشائعة لا تسكب الزيت على النار وهي عبارة تستخدم لكف من يحاول زيادة الصراع فتوقفت عن ذلك وبحث عن طريقة أخرى.

 
إذا لم يكن من فضل العلم إلا أنه يقلل من نسبة الخطر لكفى. حقا العلم نور، فلو لم تتبادر إلى ذهني تلك المقولة فمن المحتمل أن تتصاعد النار ويكثر لهيبها أو تتطاير قطرات الزيت الساخن فيصيب جسمي بحروق ولكن ربك لطف وسلم.