آخر الأخبار
مدينتي أم القرية؟
من الذكريات الظرفية أنني حينما انتقلت من الابتدائية إلى الإعدادية تجهز أفراد العائلة جميعهم للاستقرار معي في المدينة ليس حبا في المدينة ومناخاتها بل حرصا على تلقي ولدهم للتعليم ففرحت كثيرا حينما تخيلت أني ذاهب إلى الحضارة وتارك كل مخلفات البداوة ورائي أو هكذا خيل لي حينها.
مدينتي ربما تعرفونها جميعا دون الحاجة إلى الإفصاح باسمها ويعرفها القاصي والداني والغريب والمواطن كونها المدينة الوحيدة في سقطرى عموما ولكن لا بأس بالتذكير باسمها فهي تدعى حديبوه أو حديبو كما يقول البعض وهو اسم مشتق من حدب أي الأرض الواسعة المختلفة وربما ليس من الخطأ القول بأنها سميت باسم أنثى الجن التي يأمنها الناس على بيوتاتهم فتحرسها حين يهاجرون منها ولكن ليست التسمية واختلافات تفسيرها مجال حديثنا هنا بل هو سؤال ملح ظللت أبحث له عن الإجابة منذ زمن هو هل تستحق حديبو أن نطلق عليها مدينة أم لا؟ والإجابة عن هذا السؤال لا تبدو يسيرة كما أن الحديث عن الموضوع ربما يكسب عداوة.
بعيداً عن سياقات السؤال والجواب ينبغي أن ننظر إليها من زاوية التاريخ ومن الدلالات التي ترسخت عند الناس عن هذه المدينة فمنذ القدم كانوا يطلقون عليها بلادا فيقول أحدهم جادحك من بلاد أو نزلت بلاد ونحو ذلك أمل منهم أن تكون هذه البقعة الصغيرة بلادا عظيمة تحمل معنى البلاد وحقيقة البلاد ومسمى البلاد ولكن للأسف شاخ الناس وذهبت أمم منهم وأتت أخرى وما زالت هذه المدينة هي ذاتها منذ القدم لم يتغير فيها شيء سوى عراضة المسميات(المديرية والعاصمة وقلب المحافظة) وهلم جرا.
لا ندري ما الحواجز التي تمنعها أن تكون مدينة بحق ربما هناك قوى خفيفة أرادت لها أن تظل قرية إلى أمد غير معلوم والحقيقة أن القرية ألطف منها وأحن وأرحم.
كل ما في القرية يمارس في المدينة مع فارق سيىء فالرعي في المدينة كما هو في القرية ورعي المدينة حول القمامات والأوساخ ورعي البادية حشائش صافية نقية أنبتتها مياه السماء وهكذا بيوتات المدينة قد لا تختلف كثيرا عن بيوتات القرية وشوارعها لا تختلف عن شوارع القرية فأغلبها ترابية وظلامية لا إنارة فيها فقط يقع الاختلاف السيىء بين شوارع المدينة والقرية أنها في القرية واسعة ونظيفة وعلى العكس في المدينة ضيقة وقدرة وفيها العديد من مخلفات البناء والورش والهدم والحفريات الدائمة في كل شارع.
يحسب المرء حينما يتجه إلى المدينة أنه يسابق الزمن نحو الحضارة والرقي والتقدم والعلم والتخلي عن مظاهر البداوة وأول ما تحط رحالك بها يستوقفك منظر الطوابير المتكررة على الغاز والبنزين وعلى المواد الغذائية وعلى التسجيل في المليشيات العسكرية حينها تسابق الزمن فتجري بما أوتيت من قوة لحجز مقعد لك أو لولدك وتجري في الناحية الأخرى لتكسب بمالك شيئا من البنزين أو قنينة من الغاز أو كيلوات يسيرة من المواد الأساسية داعيا على الحضارة والرقي والتعليم أن تذهب إلى الجحيم إن شاءت أو إلى المحيط إذا أرادت.
في الأثر المدينة تنفي خبثها وفي الواقع مدينتنا تنفي حضارتها وتستعيض عنها بالرعب وقسوة الطبيعة والبشر ..رياح هوجاء عاتية تصدر ضجيجا قاسيا وتجر معها كل شيء إلى وجهك وإلى دارك تعبث بالنوافذ والأبواب وتكسرها وتثير الأتربة وتحمل القاذورات وكافة المخلفات تعيق حركة الناس وتقلقهم ويصابون بالحمى والصداع وتمتلئ العيون والآذان بالأتربة والأحجار ولا يستطيع الإنسان الاطمئنان في المنام وتأتي قفلة الشيش كما يقال حين ينقطع تيار الكهرباء من أربع إلى خمس ساعات في كل يوم فتنعدم الإضاءة ويحل الرعب وتنقطع وسائل التهوية فتصير البيوت من الداخل حرارة لا تطاق ومن الخارج رياح لا تطاق.
تعدد هذه المآسي جعلت المدينة خاوية على عروشه أشبه بمدينة الأشباح منها بمدينة البشر فمنذ الساعات الأولى بعيد صلاة العشاء لا ترى أحدا ولا تسمع حسيسا الشوارع خالية والدكاكين مقفلة والبيوت مهجورة ومظلمة همسات وصفير وأصوات علب فارغة تجري بحدة في الشوارع والأزقة وترتطم بالجدران تارة وحركات غير طبيعية تسمعها من هنا وهناك ما يجعلك سريع نبضات القلب قلق الروح تتفقد قواك العقلية فإما أن تغادر المدينة إلى أقرب قرية أو تقفل عليك دارك في الحر والظلام.
من اكتشف المدينة التي لا تنام وأطلق عليها هذه الصفة نسي أن يكتشف النقيض وهو المدينة التي في كل مساءاتها مجبرة تنام وربما هذا تفرد وامتياز لكن أين لنا نجد هذا الكاتب فنخبره بمدينتنا
يرمي بعض الناس التهم على الإماراتيين لكنني لم أصدقهم ولا أريد أن أصدقهم حتى لو أني رأيت وسمعت وعاينت كل ذلك أو بعض منه لا أصدق نفسي أن هذا كله يحدث وسقطرى بيد الإمارات؟
الإمارات رائدة الحضارة والرقي والعلم أنشأت مدنا عائمة على البحر كيف لها تساهم ولو بشيء من البؤس لسقطرى؟ كيف تعجز أبوظبي خزانة الوطن العربي عن إنارة مدينة صغيرة كحديبوه مكونة من حارتين فقط ولا تزيد بيوتاتها على ثلاثة آلاف بيت في مساحة محدودة جدا لا تتجاوز بضعة كيلوات؟ هل تساهم الإمارات الحضارية في عودة الناس إلى القرية وتفضيلهم حياة الرعي والأمية والبداوة وتحارب التجارة والتعليم والحضارة؟.
إذا حصل شيء من هذا فعلا فهناك خطأ في ضبط الإعدادات ينبغي إدراكه قبل الحاجة إلى الفرميت وضبط إعدادات المصنع والسلام