آخر الأخبار
"المُكَلاّ" بين وقتين!!
وصلني قبل فترة قصيرة من المُكَلاّ كتاب جديد للدكتور صالح أبوبكر بن الشيخ أبوبكر عنوانه "كلام عن المُكلا وأهلها" (*) وهو الكتاب الثاني في ظرف عامين الذي يضاف إلى مكتبتي الشخصية لذات المؤلف بعد كتابه " تريم بوابة الفكر القومي العربي: علي عقيل ابن يحيى رائدًا" والذي تتبع فيه سيرة أحد رموز الفكر السياسي المعاصر في اليمن المندغمة بتاريخ المدينة التي ينتمي إليها؛ ذلك "الكتاب، وإن احتوى على سيرة العالم الجليل والمناضل الفذ المتعدد القدرات والمواهب{ علي عقيل بن يحيى}، والنبذة اليسيرة من مذكراته التي دونها، وهي غير مكتملة، إلا أنه أيضًا دراسة عميقة لجوانب عديدة من أدب كتابة المذكرات وقضايا الحياة الأدبية والثقافية والسياسية لليمن الحديث ولحضرموت خصوصًا. الأهم هو التوثيق للتعليم التقليدي في القرى الحضرمية في النصف الأول من القرن الماضي؛ وهي الكتاتيب السائدة في اليمن كلها، وهي التي حفظت لنا لغتنا العربية، والقيم والتقاليد الإسلامية، وهويتنا الحضارية" كما قال عنه الأستاذ عبد الباري طاهر في مراجعة له في "خيوط"
يُشهدُ للمؤلف رصانته الكبيرة ودقته التي لا تترك شاردة ولا واردة إلاّ ويدقق فيها، وقد كان لي شرف العمل معه (عن بعد) في مشروع دراسة "الآثار المتبادلة للهجرة اليمنية" حين رأس فريق البحث في محافظة حضرموت، وقت كنت منسقاً للمشروع ككل في صنعاء، وهو المشروع الكبير الذي درس ظاهرة الهجرة اليمنية عبر تاريخها الطويل بتمويل من الراحل الكبير الأستاذ علوان سعيد الشيباني، عبر المؤسسة التي أسسها ورأسها حتى وفاته " مؤسسة الخير للتنمية الاجتماعية"، والمتوقع صدور موضوعاتها في تسعة أجزاء، في عمل موسوعي هو الأول في اليمن.
في كتاب "كلام عن المُكَلاّ وأهلها" تحضر المدينة عبر تاريخها الطويل في سلسلة طويلة من المراجع والمصادر والوثائق والصور النادرة، منذ تشكلها الأول بقيام أول حاراتها " حافة البلاد" على اللسان البحري الذي يمتد في عمق البحر جنوباً ، وصولاً إلى الحال الذي وصلت إليه اليوم " حين كبرت وتضخمت عمرانياً ولكنها صارت تفقد السمات المدنية وفي الوقت الذي تتسع فيه حَضَرياً لكنها تجدبُ ثقافياً وتتخلف حضارياً ، وهي بذلك تعيش حالة من حالات " تخلف نمو العقل الجمعي" حينما يكون الكيان المعني بحجم واتساع ومظهر مدينة ولكنه يتسم بعقلية جمعية أدنى من سلم التطور الحضري هي أقرب إلى القرية والريف"
والمُكَلاّ اليوم عند المؤلف قد بلغت حداً من التراجع الإداري والتقهقر الحضري والتوقف المدني والتبلد الثقافي والحضاري والنضوب الفني، فلا يجدي معه إلاَّ المجاهرة بقول الحقيقة وتشخيص الواقع كما هو لإحداث الصدمة والرعب، ليحس أو ليتحمل كلٌ منا مسؤوليته، والتحلي بالصرحة مهما كانت مُرّة ومؤلمة كخطوة أولى نحو إصلاح ما أفسده الدهر.
يذهب المؤلف إلى إن إشارة البدء بتوقف مدينة المُكَلاّ عن النمو الحضري الطبيعي، والذي ابتدأته في مطلع ثلاثينات القرن الماضي، كان بعد الاستقلال مباشرة وتحديداً حينما نسفت وأزيلت بوابة المُكَلاّ (سدة المُكَلاّ الثالثة)، فكان على المدينة أن تبدأ شوطاً جديداً تحت ظروف مغايرة مسَّت الهوية وتحت شروط قاسية شائهة أرهقت كاهلها فحطت رحالها هناك حسب تعبير الكاتب
انحياز الدولة الجديدة {دولة ما بعد الاستقلال} إلى ما كان يسمى (نمط التخطيط الاشتراكي) للاقتصاد والحياة الاجتماعية الذي كان يتميز بـ (بيروقراطية الدولة) والمركزية الشديدة وسيادة القطاع العام والقضاء على المبادرات والحوافز الفردية المحركة للنشاط الاقتصادي أدى إلى تخلف المكلا عن المعاصرة وتوقفت عند عتبات الحداثة في التاريخ وباختصار، فإنها قد بقيت في الجغرافيا ولكنها خرجت من التاريخ الحديث والمعاصر.
من وجهة نظر الكاتب أنه قد صَحِب التراجع الحضري لمدينة المُكَلاّ، تدني نسبة التعليم وطغيان الأمية وسيادة الأفكار والثقافة المتخلفة، التي أدت إلى اضمحلال التفكير العلمي وإلى تدني الوعي البيئي والحس الوطني (المجتمعي).
وفي مقاربته للظواهر السلبية في التي تفشت في المُكَلاّ يقول أن يد التخريب وتلويث البيئة طالت أكبر وأجمل مشروع بيئي استراتيجي حظيت به المدينة وكانت تحلم به طوال حياتها وهو خور المُكَلاّ الذي شكل جسر العبور إلى المكلا الجديدة ومتنفسا سياحيا للناس، حين تعرض للتخريب من قبل الصيادين الأغراب الذين حولوه في البداية إلى مرفأ عشوائي لقواربهم قبل ان يقوموا بانتزاع الحواجز الحديدية كي لا تعيق حركتهم، ووصل بهم الامر إلى اقتلاع بلاط الممشى الرياضي ليستخرجوا الكثيب من تحته الذي يحتاجونه في عملية الاصطياد.
لم تقف مقارنة حالة المدينة على الحياة الحضرية والعمرانية والتعليم وانما امتدت للرياضة، حين كان للفرق الرياضية المُكَلاّوية الخارجة من أحيائها التاريخية الخمسة (البلاد، الحارة، برع السدة، الشرج، الديس) في الخمسينات فريقاً مثل "الكوكب" الذي كان يشكل حالة متقدمة في فنون اللعبة حين ينتقل للعب مباريات في عدن قبل الاستقلال، أو نادي "الاتحاد الرياضي " والذي كان له علاقة توأمة بنادي "اتحاد جدة" في الخمسينات التي وصلت إلى حد تبادل اللاعبين.
المُكَلاّ اليوم كما يقول المؤلف، أو قل حضرموت كلها، لا تكاد تُذكر في المجمع الرياضي المحلي، ولم يعد لها وجود على الخارطة الرياضية اليمنية والعربية، كما رأينا أخيراً في فريق الناشئين اليمني، الذي أحرز بطولة كأس غرب آسيا لعام 2021، حيث لم نر لاعباً واحداً من حضرموت كلها ضمن الفريق الأساسي!!
المُكَلاّ لم يعد بها إلاّ مكتبة ثقافية واحدة فقط لا غير لبيع ونشر الكتب الثقافية الرصين وهي " دار حضرموت", بعد أن كانت بها العديد من المكتبات مثل "المكتبة والوطنية"، و"مكتبة الشعب" اللتان كانتا توفران الصحف والمجلات العدنية والمصرية أسبوعياً عبر الطائرة. وإلى جانبهما كانت المكتبة السلطانية التي أنشأها السلطان صالح بن غالب سنة 1941م وكان يؤمها يومياً الكثير من أهالي المكلا للقراءة والاستعارة بما فيهم بعض القراء من خارج المكلا.
يتساءل المؤلف لماذا المُكَلاّ حتى اليوم بلا جامعة تحمل اسمها كنوع من التكريم للمدينة، وهو لا يقلل من شان مسمى جامعة حضرموت التي مركزها ذات المدينة، لأن وجود جامعة باسم المدينة أو العاصمة المعنية يعني في نظر الآخرين وجود تراث علمي بها وتقاليد أكاديمية يُعتد بها، وتعتبر من أهم المقاييس أو الضوابط التي على أساسها تقيّم المدينة أو ينظر إليها وكيف تُعَد في مصاف المدن العالمية.
هذه بعض الأفكار التي احتواها الفصل الأول من كتاب (كلام عن المُكَلاّ وأهلها)، الذي بذل به د صالح أبوبكر جهوداً واضحة في تجميع مادته العلمية، ليكتبه لاحقاً بدم قلبه قبل حبر قلمه الرصين، وإن ما اورده كما يقول ليس للتندّر بل لتبيان أن المكلا قد فقدت الكثير من خصائص المدينة الحديثة حتى في أبسط درجاتها التي تعتمد أساساَ على مساهمات المجتمع المدني المحلي ونخبه الاجتماعية والثقافية والمالية بغض النظر عن تقصير الجهات الرسمية.
الكتاب كما قال د عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي في تقديمه:
"لا يعرف السكوت، مثله في ذلك مثل مدينة المُكَلاّ التي لا تكاد تكف عن الكلام حتى بعد أن ينام أهلها فتتسامر مه أمواج البحر في سيمفونية خالدة تنبض بالحياة."
__________
(*) دار حضرموت – المُكَلاّ 2023