آخر الأخبار
تدليل المخلب الإيراني !!
قراءة الحالة الطائفية الساطعة اليوم - كمتحقق عسكري وسياسي على الأرض- لا يمكن أن تتم بمعزل عن الاحاطة وتتبع الظروف القريبة والبعيدة التي أوصلت المنطقة إلى هذه النقطة شديدة القتامة، وعلى وجه الخصوص التراكم على الحالة المنفلتة منذ مطلع التسعينات، حين تأثرت، وبشكل مباشر، بعديد من التحولات الجيوسياسية العاصفة التي بدأت بسقوط جدار برلين - رمز الانقسام العالمي بين معسكرين صاغتهما سنوات الحرب الباردة- في نوفمبر 1989م ،مروراً بحرب الخليج الثانية التي ترتبت على غزو النظام العراقي لدولة الكويت في أغسطس 1990م ،حين أحدثت الشرخ الأكبر في العلاقات السياسية الهشة التي سادت الحالة العربية في عقد الثمانينات، وصولاً إلى تفكيك الاتحاد السوفيتي في أواخر ديسمبر 1991م.
مشروع الشرق الأوسط الجديد ،الذي بدأ كفكرة مُهَنْدَسة بعناية منتصف التسعينات، كواحد من تخريجات القطبية الواحدة وتنظيرات نهاية التاريخ، صار مع الوقت جملة من الاشتغالات الاستراتيجية المتصلة بإعادة صياغة المنطقية جيوسياسياً بشكل مختلف، من منطلق ترتيب موازين القوى في المنطقة بوجود الدول العربية جنباً إلى جنب مع (إسرائيل وتركيا وإيران وأفغانستان وباكستان)، ولم يصر الأمر متحققاً إلا بعيد احتلال افغانستان 2001 غزو العراق 2003 ، والذي ترتب عليهما بروز الجماعات الطائفية شديدة التعصب (تنظيم الدولة وريث القاعدة والسلفيات الجهادية وجماعة التكفير والهجرة، والجماعات الشيعية المثقلة بإرث الصراع الطويل و التي تدين بالولاء كاملاً لإيران التي صارت، هي الأخرى، الوريث الحقيقي لدولة العراق ما بعد الحقبة الصدامية البعثية).
اعادة ترسيم المنطقة على أساس طائفي كانت واحدة من إفرازات المنظور الشرق أوسطي الجديد، بإنتاج قوى شيعية أو تطرف شيعي مواز للتطرف السني بذات الرعاية الاستخباراتة التي أنتجت تطرف الجماعات السُنيَّة خلال عقود طويلة بهدف تسويق الصراع دينياً على أساس طائفي.
منذ سقوط العراق في ربيع 2003م بيد القوات الأمريكية وحلفائها المتعددين، على الورق، صارت الجماعات المسلحة والأحزاب الشيعية التقليدية العراقية الموالية لطهران هي من تحكم فعلاً، وعمدت إلى فرز المجتمع العراقي إلى مكونين طائفين ، حُمِّل فيه السنة كل وزر الديكتاتورية ومشاكل العراق المزمنة بما فيها مسالة التعايش الديني، وسُوِّق التطرف الشيعي، من ذات الزاوية، بوصفه حالة انقاذ للمجتمع من براثن التطرف ودوامات الدم والاستبداد؛ غير أن الذي حدث في عقدين أن الجماعات المسلحة الموالية قد سلمت طهران كامل العراق، وصارت تعمل في الداخل كوكلاء يتبارون في تسويق بضاعة التطرف الإيراني، الذي وجد في سوق العراق متنفساً للتخفيف من ضغوط أزماته الداخلية بتصدير شعارات الوهم والخرافة إلى المحيط المضطرب.
لكن قبل ذلك صار حزب الله في لبنان ومنذ 2000 هو القوى السياسية والعسكرية الأبرز في البلد الصغير الجميل والمتهتك، فقد كان لانسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي في مايو 2000من الجنوب اللبناني (عدا مزارع شبعا) اللحظة الفارقة في حياة الحزب لتقديم نفسه كقوى تحرير ثورية في زمن الخنوع والانبطاح، كما قال في شعاراته، ومن حقه اختطاف بلاد متعدد هش من بوابة المقاومة ومظلومية الطائفة الشيعية وتفكك خصومه, وجاءت الثورة السورية (المغدورة) لتعزز من حضور الحزب في حياة اللبنانيين والسورين معاُ ولتشديد قبضته الأمنية وتوسيع قاعدة تحالفاته مع مكونات طائفية لبنانية (مسيحية وسنية ودرزية) استحوذ بها على أغلبية مقاعد مجلس النواب لدورتين انتخابيتين، قبل أن تجئ الانتخابات الأخيرة لتوجِّه إليه رسالة قوية مفادها أن الشعب اللبناني صار لا يرى فيه غير مكوِّن لا يمثل غير طائفته التي يستبدها ويتحكم بقرارها بقوة السلاح.
في 2004 سمع العالم بتشكيل مسلح ظهر في اقصى شمال اليمن لتسويق مظلومية من نوع خاص، خاض تحت لافتاتها أول حروبه ضد السلطة، وأدت إلى مقتل قائده في أحد جروف منطقة مران في صعدة ، ولم يكمل الزمن عقده الأول إلا وكان هذا الفصيل قد امسك بأهم مفاصل السلطة ومقدراتها، بدعم لامحدود من راس نظام صالح وقواعده ومن ورعاته الاقليميين والدوليين، بحجة الحد من تمدد جماعة الاخوان وحلفاء الرئيس الانتقالي عبد ربه منصور هادي.
لم تتوار إيران كداعم لهذا الفصيل، بل أعلنت، عن طريق أحد واجهاتها الدينية، أن مشروع ثورتها صار واقعاً متحققاً في أربع عوصم عربية (بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء)،وصارت قوة يحسب حسابها إقليمياً فهي تمسك بالبوابة الشرقية للعرب، وغدت ممالك الرمل على الخليج في مرمى بنادقها، وباتت في الخصر الجنوبي الرخو لعدوتها السعودية، ومتواجدة في شمال فلسطين المحتلة، وفي جنوب تركيا السنيَّة، والأخطر أنها صارت تتمدد مائياً في مياه الخليج وبحر العرب والبحر الأحمر والأبيض المتوسط من اللاذقية إلى صور، والأهم تأثيرها المباشر في أهم ممرين مائيين تعبر منهما ثلثي طاقة العالم من النفط ونعني هنا مضيق هرمز على الخليج حيث تطل من شرقه، وباب المندب الذي تتواجد أذرعها على حوافه القريبة.
التركيبة الديموغرافية للطائفة الشيعية في المنطقة العربية لا تتجاوز 20% من إجمالي عدد السكان، ومع ذلك صار لها اليوم مخالبها العسكرية والأمنية التي توجَّه لخدمة المشروع التوسعي الإيراني، بذات كيفية الولاء الذي كانت تقدمه جماعات التشدد السني للمركز الوهابي في السعودية، مع فارق أن الجماعات الشيعية تتفانى في خدمة المشروع الاستحواذي الإيراني من باب المظلومية الطائفية، وتلقى من التدليل الاقليمي ما لا يمكن فهمه إلا في سياق إعادة ترسيم المنطقة بدم التناحر الطائفي، لاستدامة السيطرة على الموارد وتعظيم دور الشرطي الإسرائيلي في المنطقة.