آخر الأخبار

فهم الهوية الوطنية

السبت, 16 مايو, 2020

   في البدء لابد من الحديث حول معنى الهوية وقيمتها لدى القدماء والمحدثين، فالهوية مصطلح يستخدم لوصف مفهوم الشخص وتعبيره عن فرديته وعلاقته بالجماعة ويستخدم المصطلح خصوصا في علم النفس وفي علم الاجتماع.
 
   وفي قاموس المعاني يختلف هوية بحسب ما يضاف إليه فينسب إلى (هو) ومن معاني الهوية في العربية البئر البعيدة مما يعني التجذر والرسوخ، فهوية الإنسان حقيقته وأوصافه التي تميزه عن غيره.
 
   ومن تعاريف الهوية الدقيقة من ناحية اللغة أنها روح الشعب أو الفرد وذاته وكيانه ومن ناحية الاصطلاح هي الجذور التاريخية والعقائدية لأي شعب من الشعوب وأي أمة لا تحمل هوية ليس لها تاريخ لا ماض ولا مستقبل ولا ينبغي أن تختزل الهوية على فئة أو زمان أو مكان، يقول المفكر والفيلسوف العربي محمد الجابري:" الهوية هي الوعي المتجدد بالذات".
 
   تصحب كلمة هوية لازمة الوطن والوطنية فكلمة الوطن اسم يشير إلى الأرض الأم التي تعيش عليها جماعة لفترة تاريخية طويلة وينتج عن ذلك نشوء هوية ذات صبغة وطنية تربط الإنسان بوطنه؛ لذلك يصل حب الوطن عند الصادقين إلى أن يكون شفاء العلل، قال بقراط يداوى كل عليل بعقاقير أرضه ، وقد وجدنا في مجتمعنا وعصرنا أن يصل إلى أرضه ليموت ويدفن في أرضه عندما يحس داعي الموت ناهيك عن الحياة، قال بقراط: يداوي كلُّ عليلٍ بعقاقير أرضهِ , فإن الطبيعة تنزعُ إلى غذائها. وقال جالينوس: يتروَّحُ العليل بنسيم أرضهِ , كما تتروَّحُ الأرضُ الجدية ببلّ المطر.
 
وقيل: احفظ أرضاً أرسخك رضاعّها , وأصلحك غذاؤها , وارعَ حمى اكتنفك فناؤه.
 
وقيل: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى أوطانها مشتاقة، وإلى مولدها توَّاقة .
 
    وقيل لرجل: ما الغبطة؟ قال: الكفاية , ولزوم الأوطان , والجلوس مع الإخوان , وقيل: فما الذل؟ قال: التنقٌّل في البلدان , والتنحي عن الأوطان. وكان يُقال: الغريب عن وطنهِ ومحل رضاعهِ كالغرس الذي زايل أرضهُ , وفقد شربهُ , فهو ذاوٍ لا يُثمر , وذابل لا ينضر. . . والجالي عن مسقط رأسهِ كالعير الناشر عن موضعهِ الذي هو لكل سبعٍ فريسة , ولكل كلبٍ قنيصة.
 
   يجمع مفهوم الهوية معلومات الانسان الأساسية مثل اسمه ومكان ولادته وأفكاره ومعتقداته ومن ذلك تبرز أهمية نسبته إليه فيقال عربي وأجنبي ويمني ومصري أو بشكل أخص سقطري ومهري...والأمم تسعى إلى ايجاد بصمة لها تميزها عن غيرها من المجتمعات والشعوب ويهدف إلى تحقيق التمييز والارتقاء الانساني.
 
  وتحدد مقومات الهوية باللغة والثقافة والانتماء وبالولاء للوطن ومواجهة التحديات والتعايش المشترك يقول المفكر الأمريكي صمويل صاحب كتاب صراع الحضارات: " إن روح أي حضارة هي اللغة والدين والقيم والعادات والتقاليد".  
 
   وإني لأعجب من أشخاص رفعتهم هويتهم الوطنية من جاهل إلى متعلم ومن عاطل إلى منتج ومن خامل إلى فاعل ومن جندي إلى قائد ثم يبيع وطنه بثمن بخس دراهم معدودة وهو يعلم أن عمالته مؤقتة الصلاحية ثم يعود إلى أحضان وطنة وأبسط مثال انتشار المرض المعروف بكرونا هذه الأيام فإن أغلب الدول طلبت رعاياها من أنحاء العالم وأغلبها ردت أي وافد أو دخيل فلا يوجد بلد سيستقبلك اليوم إلا بلدك فحافظ على سلامته وسلامتك وسلامة أهلك.
 
    هويتك الوطنية الحقة تمنحك الحق في المطالبة بحقوقك أسوة بغيرك؛ لذك عليك استشعار أهميتها وقيمتها، وعليك أن تتذكر أن خيانة الهوية الوطنية قد تمنحك رخيص المال قل أو كثر لكنك لن تسلم من لعنات جنودك وطلابك وحتى أبنائك وأهلك ومجتمعك ستشعر سواء قالوها صراحة في وجهك أم لم يقولوا و ستظل تبحث عن الرجولة والكرامة ولن تجد.
 
     تستوقف الباحث عن الهوية عبارات حق لها أن تكتب على غلاف القلوب وترسم على الصدور وأن تجري في الأوردة ومنها ما قاله محمود درويش :" الهوية هي ما نُورث لا ما نَرِث. ما نخترع لا ما نتذكر، وقوله في وجه المحتل:سجل انا عربي....ورقم بطاقتي خمسون ألف... وأطفالي ثمانية.... وتاسعهم سيأتي بعد صيف ...فهل تغضب).
 
  وقول أمين معلوف: "الهوية لا تتجزأ أبدا ولا تتوزع أنصافا أو أثلاثا أو مناطق منفصلة".
 وما أحسن ما سطره الشاعر قتادة بن إدريس في ولائه لوطنه:
بلادي وإن جارت علي عزيزة     وأهلي وإن بخلوا عليَ كرام
بلادي وإن هانت عليَ عزيزة        ولو أنني أعرى بها وأجوع
 
وأصدق التعبير وطنية الشاعر اليمني محمد محمود الزبيري حين اتبع القول بالفعل:
            بحث عن هبة أحبوك يا وطني    فلم أجد لك إلا قلبي الدامي
وهناك شاعر آخر يخلد حب الوطن خلد أبدي يقول:
نقّلْ فؤادك حيث شئتَ من الهوى ... ما الحبُّ إلاَّ للحبيبِ الأولِ
كم منزلٍ في الأرض يألفُهُ الفتى ... وحنينُهُ أبداً لأول منزلِ
 
   وفي السيرة كان الصحابة في المدينة يحنون إلى مكة وجبالها وأوديتها وأشجارها حتى قال بلال رضي الله عنه أو غيره من المهاجرين:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي أذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
حتى دعا الرسول صلى الله عليه وسلم ربه أن يحبب إليهم المدينة كحبهم مكة أو أشد حبا.
لذلك فإن حب الوطن أو التمرد عليه منهجية تعود على الفرد بالنفع أو الضر، وقديما سألوا هتلر من أحقر الناس في حياتك قال الذين ساعدوني على احتلال أوطانهم ومن ثم أمر بقتلهم. والأفراد وجب أن تتربى على حب الوطن وأن يفديه بنفسه وماله (وهبناك الدم الغالي وهل يغلى عليك دم).
  وقد أخذ الفضول على عاتقه توصية اليمنيين بضرورة الاعتزاز بالهوية والتوحد بقوله( واحفظوا فيكم للعز ضوءه واجعلوا وحدتكم عرش له واحذروا أن تشهد الأيام في صفكم تحت السموات انقساما).
 
    إن الاعتزاز بأرضك والانتساب لوطنك فخر لك وعزه وشرف، يقول وزير الأوقاف الدكتور أحمد زبين عطيه: ميزتنا أننا في اليمن نمتلك هويتين أولاهما الهوية اليمنية العربية ومن لا ينتسب إلى اليمن فليبحث عن نسبه، وقديما دون في التاريخ أنه من لم ينتسب إلى اليمن فليس بعربي.
 وليس هذا من قبيل التفاخر أو التعالي على الآخرين كما يفعل القوميون لكنه من قبيل اعتزاز الفرد بهويته الضاربة في جذور التاريخ فهوية اليمن وتاريخه يزيد على سبعة الآلف عام فهي هوية أصيلة وليست تجميعية، والهوية الأخرى الهوية الاسلامية.
 
    ومن قبيل الرد على الساخرين من اليمنيين جسد الشاعر إبراهيم طاهر حب اليمن بقوله:
 " أنا يمني واسألوا التاريخ عني أنا يمني
أنا من كونت معينا وسبأ
أنا من شيد غمدان مأرب
   ومن المقولات التحفيزية الجميلة التي تتردد على الألسن وتنتشر في الأوساط هذه الأيام "ارفع رأسك أنت يمني". يقول سعد المعمري: تمسك بحب الوطن والدولة ولو كان عمودا في منتصف الجولة.
 
    الهوية في أرخبيل سقطرى تتنازعها البلدان والدول وتدعي نسبتها الأرض والإنسان المجتمعات وشرق وغرب فيها الكتاب وأصحاب التراجم والقليل منهم من اقترب من الحقيقة، فمنهم من يقول هناك سلالات أجنبية برتغالية وأوربية وهناك من يدعي أنها تتبع الإمارات، وهناك من ينسبها إلى عمان، وهناك ادعاء من الصومال أن سقطرى أرض صومالية مختطفة.
 
سنتناول كل هذه الادعاءات بصورة أوسع في مقالنا القادم ـ إن شاء الله ـ بصورة مستقلة تحت عنوان الهوية السقطرية، كما نتحدث عن أسباب هذه الادعاءات، وتأثيرها على المجتمع السقطري من ناحية القبول والرفض. 
 
   ختاما: إن المساس بالوطنية هي لعنة الأرض والإنسان تطل كامنة في نفس الخائن  تعتصرها ولا تنفك تؤنبه نفسه عليها في حله وترحاله. وهي خلود للشؤم يصحب الخائن في دنياه حتى يموت وفي المقابل خلود عزة وكرامة ورفعة للوطني يسعد بها طوال حياته ولو عاش فقيرا لا يملك شيئا. 

المقال خاص بموقع المهرية نت