آخر الأخبار

عن صباح التحول الكبير الذي ولد قبل 59 عاماً من هذا اليوم

الجمعة, 24 سبتمبر, 2021

منذ أشهر قليلة قمت بتحرير سيرة لواحد من شهود التحول في اليمن، لم تزل ذاكرته متقدة وتحتفظ بأدق التفاصيل، هو عبد الرحمن غالب الحرازي الآنسي، الموظف السابق بوزارة الزراعة ، الأهم في هذه السيرة تلك الشهادة الطويلة التي سجلها عن الوقائع المرتبطة بثورة السادس والعشرين من سبتمبر.

 وقائع تروى بعفوية وصدق ودون حسابات أن تغضب أسماء وأطراف لم تزل جزءا من لعبة السياسة في البلد المتهتك بالحروب، ومن تلك المرويات ، مشاهداته الحية لوقائع صباح يوم الثورة، وما دار في دار البشائر مكان إقامة آخر أئمة اليمن( محمد البدر) . نص الشهادة هذا هو جزء مما رواه عن الوقائع، حينما كان طالباً في المدرسة العلمية الكائنة بالقرب من مكان الأحداث، وهو ضمن سلسلة طويلة من النصوص التي نُشرت في موقع (خيوط)  تحت عنوان (سيرة الظل).

المهمل والمُتعالى عليه من التفاصيل، عند كُتَّاب السير ومدوني الأحداث، هو الذي يصير عند عبد الرحمن الحرازي المختلف والحي ، الذي يقرِّب الصورة بدون مجمِّلات، أو تشويه. يقول الحرازي في هذا المروي المختلف :

"كان  كل الطلاب المدرسة مستيقظين، فلم ننم حتى الفجر بسبب اشتداد الضرب واستمراره على هذا الحال حتى السادسة حينما بدأت حدته بالتراجع؛ فخرجت متسللًا من سور المدرسة بصحبة زميل لي اسمه محمد مفضَّل من بني حشيش، حتى وصلنا إلى ركن بيت "الهجوة" بالقرب من البوابة الشرقية لدار البشائر، فوقفنا "نتخاوص" (نتلصص- نتشاقر باللهجة اليمنية) على ما يحدث في القصر، فرأينا مصفحة جيش عليها رشاش 12/7 نصفها الأمامي داخل القصر ونصفها الآخر خارج الباب الخشبي، وحينما رآنا أحد الجنود، وكان واقفًا بالقرب من المصفحة، طلب منا التقدم إليه ففعلنا. كان بيده راديو صغير يبث بيان الثورة وإعلان قيام الجمهورية. كان منتشيًا تمامًا، ثم طلب منا تجاوز جسم المصفحة الذي في الداخل وصعود الدرج الحجرية في باحة الدار والتي توصل إلى استراحة طويلة كانت تسمى بـ"الديوان الملكي"، وقال خذوا لكم ما تجدونه أو باللهجة "ابسروا لكم ماعد تلقوه"، فصعدنا من الدرج ووصلنا إلى الديوان، ولم نجد غير أوراق ونياشين عسكرية موضوعة على مكتب خشبي قديم، وأثناء نزولنا من ذات الدرج الحجرية عائدين إلى البوابة، سمعنا أصوات رصاص كثيف تنطلق من نوافذ الدار وسقوفه باتجاه المصفحة، وكان الجنود على المصفحة يردون على مصادرها بذات الكثافة، فتيبسنا في منتصف الدرج، وحينما خفّت النيران أشار لنا الجندي الذي طلب منا الصعود، أن نسرع بالنزول والخروج زحفًا من تحت المصفحة، ففعلنا ما أمرنا به، وكنت أول من زحف خارجًا، وحين هم صاحبي بتكرار فعلي، انهمر الرصاص من جديد، فطلب الاستغاثة بسحبه للخارج ففعلت بمساعدة الجندي. وحينما أخرجناه بصعوبة، بسبب سمنته، وجدناه ينزف بغزارة، وأن طلقات كثيرة أتته من بنادق العكفة في الدار أصابت قدميه، فما كان من الجندي الذي كان اسمه الرويشان، إلاَّ نزع غطاء رأسه الأسود "المشدة/ السماطة" وربط قدمي المصاب. وأثناء مرور إحدى المدرعات طلب من سائقها والجنود الذين عليها بنقل المصاب للمستشفى، ولم يتركوني أصعد معه، فلحقت بالمدرعة راجلًا إلى المستشفى، وحين وصلت قالوا لي إنه توفي بسبب نزفه الكثير، فعدت إلى المدرسة لإبلاغ زملائه وأهل منطقته بوفاته.

في تلك اللحظة افتقدت أخي الصغير أحمد، الذي غادر حجرته في المدرسة، فخرجت أبحث عنه في محيط الدار، وكان معي هذه المرة زميل لي في المدرسة اسمه علي محمد الكبسي، وكان الجو هادئًا. اتجهنا راجلين باتجاه حي "البونية"، وحينما وصلنا إلى مبنى النقطة بالقرب من البوابة الشمالية للدار، رأينا دبابة بجوار "المرنع" (بئر الماء الخاص بالقصر)، ورأينا (محسن الغراسي) يحمل صفيحة بنزين رشها على جسم الدبابة، و(عبدالله طميم) يحمل قطعة قماش ومعهما شخص ثالث أشعل النار بالقماش، وقام طميم الممسك بالخرقة، برميها على الدبابة فاشتعلت بها النيران، وحينما أحس قائد الدبابة (محمد الشراعي) ومساعده (عبدالرحمن المحبشي) بالنيران تلتهب بها، قاداها بسرعة إلى سور بيت مصنوع من اللِّبن (الطين المخلوط بالروث والقصب)، ليصطدما به من أجل إطفاء الحريق الذي نشب فيها، لكن بلا فائدة، فقد التهمتها النيران والتهمت معها روحين سبتمبريتين شجاعتين.

بعد هذه الحادثة مباشرة رأينا الإمام البدر خارجًا من الباب القبلي (الشمالي) للدار، محاطًا بمجموعة من حراسته (العكفة)، وكان متنكرًا بذات لباسهم الشعبي (شالين أحدهما أسود والآخر أبيض وثوب مخلَّف ملبوسًا فوق ثوب أبيض، ومن تحتهما مقطب عليه "جنبية"، و"محزُق" (حزام يوضع فيه الرصاص) على "الحقو" و"طيّار" (حزام متصل بالمحزق يُلبس متقاطعًا على الصدر) مملوءًا بالرصاص، وحذاء أسودَ لامعًا ملبوسًا على جوارب سوداء طويلة)، ويحمل سلاحًا حديثًا من نوع "زاكي كرام"، وكان إلى جانبه نسبه الحرسي وعزيز المندي الدويدار الخاص به (الخادم الشخصي) والذي كان يقال إن البدر لا يأكل الطعام إلَّا من يديه. خرجوا جميعهم باتجاه المسكن المجاور للقصر يقال له بيت الشوكاني، لكنهم ما لبثوا أن عادوا، ويقال إن صاحب المسكن رفض استقبالهم لخطورة الموقف، ثم اتجهوا راجلين باتجاه جامع حنظل في حي "بئر العزب"، وهناك تلقفوهم بالأكل والماء من بيت (الغيل) متعهد طعام المدرسة العلمية. يقال إنهم اتجهوا بعدها إلى همدان، حيث استضافهم لأيام الشيخ عاطف المصلي، قبل أن يتجهوا شمالًا باتجاه حجة.

بعد ذلك رأينا العكفة يخرجون من الدار على مجموعات؛ الأولى باتجاه قاع اليهود (قاع العلفي)، والثانية باتجاه ميدان شرارة، وكلا المجموعتين تصيح بصوت واحد "عاش الإمام، نصر الله الإمام"، وكانت المجموعة الثانية المتجهة صوب شرارة هي الأكبر، وحينما وصلت إلى الميدان تلقفتهم مدرعة عبدالله المؤيد المرابطة بباب السبَح وأطلق جنودها النار باتجاه المظاهرة فتشتتت، ثم لحقت بالمجموعة المتجهة صوب حي القاع وفعلت بها كما فعلت بالأولى، وكان أحد جنود العكفة المعروفين معي، وهو من قريتي، قد سلّمني أثناء خروجه من الدار صندوقًا متوسطًا لأحتفظ به كأمانة، لكنه عاد وأخذه مني، ولم أره بعدها على الإطلاق.

بعد هذه الواقعة، بدأت عملية نهب الدار ممن تبقى من العكفة ومن المواطنين الذين زحفوا إليه بالمئات، وكنت في ذات اللحظة قد عدت للبحث عن أخي داخل الدار، الذي بدأت النيران تشتعل في غرفه العلوية، وأثناء ما أنا أنادي عليه، رأيت منظرًا بشعًا ومؤلمًا، كان أحد حراس الدار يلاحق حارسًا آخرَ يحمل صندوقًا صغيرًا مشغولًا بالمنمنمات خرج به من جناح النساء، وفي أعلى درجات السلم الداخلي استل جنبيته "خنجره" وطعنه في ظهره في أكثر من موضع، ثم أخذ الصندوق واختفى في الجهة الأخرى، فبعث بداخلي هذا المشهد رعبًا لم أتخلص منه لأشهر طويلة.

وأنا غارق في ذهولي من مشهد القتل، سمعت صوت أخي يستنجد بي من الطابق الثاني، فخرجت إلى الباحة جوار الشذروان (النافورة) ورأيته معلقًا في نافذة من نوافذ المفرج (الديوان) الداخلية المطلة على الباحة والشذروان، والنيران تحاصره من جميع الاتجاهات، فطلبت منه القفز إلى الماء، وكان ممسكًا بأطراف ثوبه، والذي كان يخبئ بداخله شيئًا ما، وحين سقط على الماء تناثر من ثوبه عنب عاصمي أحمر، قال إنه وجده في المفرج قبل أن تحاصره النيران. لم يصب بأذى لقرب النافذة من الشذروان.

جمع عنبه المتناثر ووضعه من جديد في ثوبه المبلول، واتجهت به ناحية المدرسة، ليستبدل ملابسه المبلولة، أما أنا فاتجهت إلى وسط الميدان، وهناك رأيت مجموعة من الجنود بزيهم الرسمي يوقفون الخارجين من دار البشائر ومعهم المنهوبات، وكانوا يرغمونهم على ترك ما يحملون، ثم يسمحون لهم بالمرور، ثم أتت سيارة نقل وحملت المنهوبات واتجهت بها إلى الثكنة في منطقة العُرضي. ومع وصول تلك السيارة وصلت شاحنة عسكرية متوسطة وعليها مجموعة من الجنود والضباط ومعهم ميكرفون يطلبون من الناس الهدوء ويبلغونهم أن الثورة نجحت، وهي بحاجة لحمايتهم؛ ومن شدة حماسي لم أدرِ بنفسي إلَّا وأنا في بطن الشاحنة ممسكًا بالميكرفون وأهتف بحياة الثورة، التي لم أكن حتى ساعتها أعرف من هو قائدها، وما هي أهدافها، لكني كنت متيقنًا تمامًا من نبلها، بعد أن عايشت لسنوات تخلقها في وعي الناس وفي رغبتهم في التغيير.

تحركت الشاحنة من اتجاه باب السَّبَح وصولًا إلى السائلة ثم بروم والقاسمي، وصولًا إلى الأبهر، ومنه إلى حواري باب اليمن، ثم شكر، وصولًا إلى الميدان، وعودة للسوق، ونحن نعلن نجاح الثورة ونطلب من أصحاب المحلات والحوانيت فتح محلاتهم ولا خوف عليهم. تلك الطاقة التي تملكتني وذلك الحماس، لا أعرف من أين هبطا عليَّ.

بقيت مع ضباط وجنود الشاحنة العسكرية حتى قبيل المغرب نجوب الأحياء والحواري القديمة (في باب اليمن وباب شُعُوب والطبري وبستان السلطان والفليحي والزمُر والميدان) ونحن ننادي ونكبر ونهتف بحياة الثورة. لا أتذكر أنني والجنود وقائدهم تناولنا شيئًا غير بعض البسكويت الذي أمدّنا به بعض أصحاب الحوانيت المتحمسون للثورة، وبعض الأطعمة التي كان أهل بعض المساكن يناولوننا بها، بذات طريقة (الراتب) التي يعتمدها أصحاب البيوت المعروفة للطلاب وأصحاب الحاجة، والراتب كان لفظ يطلقه السائلون وأصحاب الحاجة من الطلاب حينما يصلون إلى أبواب المساكن والبيوت، فيقوم أهل البيوت بإخراج مما طبخوا أو خبزوا في ذلك اليوم.

فيما بعد العصر، لم أكن لوحدي من الطلاب على الشاحنة، فقد كنا أكثر من خمسة نهتف حتى بحّت أصواتنا، وحينما قرر قائد المجموعة إعادتنا إلى ميدان شرارة، كان الظلام قد بدأ يلف المدينة، غير أن إشعاع النور كان يملأ الأنفس المتعطشة.

أنزلتنا الشاحنة أمام دار الضيافة (المتحف الحربي الآن) وحين قطعنا باتجاه المدرسة أوقفنا جنود نظاميون كانوا يتمركزون في ركن بيت السياني الواقعة أمام الدار، ومنعونا من المرور، والسبب أن هناك من كان يتمركز في البيوت القريبة من دار البشائر ويطلق النار على كل من يقترب من المنطقة. استمر هذا الوضع لوقت ليس بالقصير، إذ عمل الجنود على تأمين طريقنا بإطلاق وابل كثيف من الرصاص على المباني من رشاشات متوسطة كانت بحوزتهم، وتركونا ننطلق بسرعة تحت هذا الغطاء، وصولًا إلى المدرسة التي كانت غير مغلقة، وإن معظم طلاب الأقسام الداخلية فيها كانوا خارجها، وربما كانوا قد غادروا المدينة إلى قراهم، في ظل وضع مشوش لم نستبن معالمه حينها."
 

لماذا يشوهون عدن الجميلة؟!
الأحد, 10 ديسمبر, 2023
الجبايات بموازين حسَّاسة!
الأحد, 26 نوفمبر, 2023